وعيٌ يتكلم من بين الركام: أسئلة المصير العربي في مرحلة التشكل العالمي الجزء الأول


د. الحسـن اشباني
مقدمة مدير الموقع : ثمة كلمات، حين تُقال، لا يكفي أن نسمعها، بل يجب أن نحتفظ بها… أن نُعيد قراءتها، وأن نمنحها فرصة البقاء خارج لحظة البث، لأنها ببساطة لا تنتمي إلى العابر، بل إلى ما يجب أن يُستعاد. هذا الحوار مع الأستاذ وضاح خنفر، لم يكن مجرد لقاء عابر ضمن محتوى رقمي هائل يتدفّق يوميًا، بل كان أقرب إلى لحظة صفاء نادرة، نطقت فيها الخبرة، واهتزّ لها الضمير. حمل صوت الرجل بين طيّاته شحنة وجدانية وفكرية تستحق أن تُسجّل، لا لأننا نُجمّل الذاكرة، بل لأننا نُراهن على يقظة ما زال يمكن أن تحدث. لذلك، كان لا بد من أن يتحوّل هذا الصوت إلى نصّ، لا لينافس الصورة، بل ليمنحها بعدًا ثانيًا… بُعد القراءة، التأمل، والإحياء. أما من زاوية التحليل الاستراتيجي، فإن هذا الحوار يُعدّ وثيقة فكرية عميقة في سياق تاريخي حساس. إن العالم يشهد تحوّلاً في موازين القوة العالمية، ومرحلة إعادة تشكيل للمركز والهامش. وفي خضم هذه التحولات، يفرض هذا النص المكتوب نفسه كأداة لمساءلة الذات الجماعية: هل نستمر على هامش الأحداث؟ أم نعيد بناء المشروع، ونعيد تعريف مكاننا في النظام القادم؟ لقد أُنجز هذا التفريغ لا كأرشيف، بل كرؤية قابلة للتداول والنقاش، تحفظ المعنى، وتحرّك العقل، وتوسّع سؤال “ماذا بعد؟” إلى أفق أوسع: كيف نبدأ؟ وكيف نستدرك؟ وكيف لا نفوّت هذه الفرصة التي قد لا تعود؟ د، الحسن اشباني
الملخص : وعيٌ يتكلم من بين الركام: أسئلة المصير في مرحلة التشكل العالمي
في هذه المداخلة المطوّلة، لا يُلقي وضاح خنفر محاضرة تقليدية، بل يقودنا في رحلة فكرية وإنسانية حافلة بالتأمل والانكشاف. ينطلق من وجع غزة، لا كمجرد أزمة عابرة، بل كمرآة مكبّرة لضعف استراتيجي مزمن في بنية الأمة، تكشف معها هشاشة الموقف، وغياب المشروع، وافتقاد البوصلة. لكنه لا يتوقف عند التألم، بل يُمارس تفكيكًا حضاريًّا هادئًا وموجعًا في آنٍ واحد. يحفر في جذور العجز، ويصل إلى جوهر التشظي: الدولة القُطرية المصطنعة، التي تأسست بعد سايكس-بيكو كبديلٍ باهتٍ عن مشروع حضاري جامع. دولة أُريد لها أن تبقى، لا أن تنهض، أن تحافظ على نفسها ولو على حساب أمتها.
من هذا الوعي التاريخي ينطلق خنفر ليقترح بديلًا واقعيًّا: مشروع تكاملي يبدأ من الممكن، لا من الخيال. مشروع لا يلغي السيادة بل يعقلنها، ويعيد بناء العلاقات بين شعوب الأمة على قاعدة المصالح المشتركة، لا الانتماءات الممزقة. ويذكّرنا أن الأمم لا تنهض بخطب أو شعارات، بل بشبكات جامعات، واقتصاد متكامل، ووعي استراتيجي ينظر للمستقبل لا للماضي.
في لحظة يتكلم فيها كثيرون عن النظام الدولي، يذكّرنا خنفر أن النظام الحالي بُني على الإبادة، لا التواصل. من إبادة الهنود الحمر، إلى استعمار إفريقيا، إلى احتلال فلسطين، فكل موازين القوة الغربية نُسجت على حساب الشعوب الأخرى. لكن بينما يُعاد رسم خريطة القوى الكبرى اليوم — بين شرق صاعد وغرب متراجع — يلحّ على سؤال مصيري: “من سيمتلك الجرأة ليجلس على طاولة تشكيل العالم؟” ويُوجّه كلامه إلى الشباب خاصة، في زمن السيولة والانفلات القيمي، مؤكدًا أن النجاة لا تكون إلا بالثبات على أصلٍ راسخ، هو القرآن، لا كنص مغلّف، بل كمنظومة قيم، وفلسفة رؤية، ومصدر معنى.
ويحذّر من الاستبداد الخفي الذي يسكن حتى النوايا الطيبة، مؤكدًا أن القيادة الحقيقية تعرف متى تتنحى، ومتى تُعدّ من يخلفها، لا من يضعف بجانبها. بهذا الخطاب، يُعيد خنفر تعريف الصراع: ليس صراع شرق وغرب، ولا سنة وشيعة، بل صراع بين مشروعٍ ينهض، وآخر يتآكل؛ بين أمة تسأل: “من نحن؟”، وأخرى تحاول أن تُعيد الإجابة لا من كتب التاريخ، بل من واقع الحاضر. إنه خطاب وجدان ويقظة، ونداء عقل واستراتيجية، يهمس لنا: “نعم، يمكننا أن نبدأ من غزة… ونبني مشروعًا لأمةٍ تستحق الحياة.”
النص الكامل للمحاضرة التفاعلية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كما وعدناكم، فإننا في هذه الحلقة من الموسم الثاني من برنامج “موازين”، نسعى جاهدين، بإذن الله، للإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي وردت في الحلقات السابقة. وقبل أن أشرع في ذلك، أودّ أن أدعوكم جميعًا إلى التفاعل والمشاركة بكتابة أسئلتكم وتعليقاتكم، وسنتفاعل معها في الحلقات القادمة، إن شاء الله. لكن، قبل البدء بالإجابات، أرى من الضروري أن أضعكم في صورة الدافع الذي كان وراء تصميم هذا البرنامج على هذا النحو. لقد دفعني إلى ذلك الشعور بوطأة الواقع الذي نعيشه، وحجم الأزمات التي نمر بها، والتي مررنا بها في القرن الماضي، وخصوصًا ما نشهده اليوم من مأساة دامية في غزة. كل هذا ينبغي أن يحثّنا على مراجعة عميقة لكل ما يعوقنا عن النهوض والتقدّم.

إن اللحظة التي نمر بها حاليًا هي واحدة من أحلك لحظات الضعف والانكسار والمهانة التي عاشتها أمتنا. أجل، لقد تعرضت أمتنا عبر تاريخها لمحن عظيمة — بغداد أُحرقت، القدس احتُلّت في زمن الصليبيين، وشهدنا أهوالًا كثيرة — ولكن ما ميّز أمتنا عبر التاريخ هو أنها كانت تعتبر وتنهض من كبوتها، تراجع أفكارها ومناهجها، تعيد اكتشاف مكامن الخلل، ثم تسرع نحو المستقبل. أمّا اليوم، فإن ما يجري في غزة ينبغي أن يكون حافزًا لكل عربي ومسلم، في هذا الكون الفسيح، لمحاولة فهم الواقع وتجاوز أسباب الضعف التي أوصلتنا إلى هذا الحدّ من المهانة. إنّ كلّ عربي ومسلم يشعر الآن بالذلّ، بالعار، بالعجز، إذ إنّ غزة — بما يجري فيها — تفضحنا جميعًا. ولذلك، فإن الحديث اليوم لا بدّ أن يكون صادقًا، صريحًا، خاليًا من المجاملة، لأننا نتحدث عن دماء شهداء، عن مصير أمة، عن مستقبل ليس مقتصرًا على فلسطين، بل عن مستقبل المنطقة بأسرها، عن تراث ديني وفكري وثقافي وجيوسياسي يتعرض لزلزال حقيقي. وإن لم نحاول أن نفهم بعمق ما يجري حولنا، فلن نتمكن من تجاوز المحنة أو استشراف طريق الخلاص.
إنّ المعضلة الكبرى، في رأيي، والتي ربما يشاركني فيها الكثيرون، لا تكمن فقط في عجز القادة أو تقصير النخب، بل في التركيبة الجيوسياسية البشعة التي فُرضت علينا منذ ما يزيد على قرن من الزمان، تحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية. لقد رُسمت لنا خرائط سياسية جديدة، وفرضت علينا حدود كيانات قُطرية، ثم بدأنا نقدّسها ونتعامل معها وكأنها أبدية.
هذه الخرائط السياسية وما انبثق عنها من كيانات، كرّست فلسفة تقول لكل دولة في المنطقة: “أنجِ بنفسك، لستَ مسؤولًا عن الآخرين، مهمّتك أن تضمن بقاءك، ولو على حساب القيم، ولو اقتضى الأمر أن تفعل المنكر قبل المعروف”. فغاية الدولة القُطرية — التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى — لم تعد تحمل مشروعًا تاريخيًا أو رؤية مستقبلية كريمة وعزيزة، بل أصبحت غايتها الوحيدة البقاء… مجرد البقاء. تخلينا، في هذه اللحظة، عن المصطلحات الكبرى، تخلينا عن معاني العزّة، وعن الرؤية الجامعة، وعن البوصلة التي كانت توجه الأمة. أنا لا أتحدث هنا بعاطفة، ولا أنطق بخطابة شعاراتية، وإنما أنظر إلى الأمور من زاوية الموازين الاستراتيجية الواقعية.
إن هذه المنطقة، منطقتنا، لا يمكن لها أن تخرج من حالة التبعية والانهيار إلا بمشروع تكاملي حقيقي، ينفض عنها غبار التشتت والتبعية، ويؤسس لنمط جديد من التفكير والعمل، لا يكون في خدمة المشاريع الاستعمارية الغربية ولا القوى الكبرى، بل يكون في خدمة أبناء هذه المنطقة، شعوبها، حاضرها، ومستقبلها. وهذا ليس كلامًا عاطفيًا أو مثاليًا، بل هو تصور علمي مرتبط بالاقتصاد، والجغرافيا السياسية، والسياسات الواقعية. بدون مشروع من هذا النوع، سيظل ضعفنا مستمرًا، بل سيترسخ، وتنتقل المأساة من فلسطين إلى غيرها. واليوم غزة، وغدًا قد تكون دولة عربية أخرى، تسقط في الفخ ذاته.
لذلك، حين صممت برنامج “موازين”، كان الهدف أن ننتقل من الخطاب السطحي السائد إلى خطاب استراتيجي، يحلل الواقع بعمق. أن نُعيد النظر في التشكيلات السياسية التي فُرضت علينا، والتي نرى انعكاساتها في فشل الدولة الحديثة، في الصراعات الأهلية، وفي التخلي عن القضايا الاستراتيجية الجوهرية — وعلى رأسها قضية فلسطين. لقد تحوّلت معظم الحروب التي نخوضها إلى حروب ذات أجندات قديمة لا قيمة لها، وصراعات طائفية وعرقية لا تمت إلى المستقبل بصلة، بل هي امتداد مباشر للتقسيمات السياسية التي فُرضت علينا في القرن الماضي، والتي ما زالت تتحكم في حاضرنا وتكبّل قدراتنا.
عندما قرأت تعليقاتكم، شعرت بالفخر والامتنان. كثير منكم تفاعل بشكل عميق، وطرح أسئلة جوهرية، دفعتني شخصيًّا إلى مزيد من البحث والتأمل. وأعتقد أن لو أُتيحت لنا الفرصة للإجابة على هذه الأسئلة — سواء في هذه الحلقة أو في حلقات قادمة، بل ربما في موسم ثالث من “موازين” — فإننا سنكون أمام فهم أعمق، ورؤية أكثر وضوحًا.
أدعوكم مجددًا للتفاعل، وللاستمرار في طرح الأسئلة الجديدة، حتى يكون حوارنا حيًّا، متجددًا، نابعًا من اهتماماتكم الحقيقية.
من بين الأسئلة المتكررة سؤال يقول:
“إذا كان الفكر الاستراتيجي الغربي قائمًا على الصراع والقوة، فهل هذه طبيعة الإنسان؟ أو على الأقل طبيعة النظام الدولي الذي نعيش فيه؟ وهل هناك في التاريخ نماذج مختلفة؟“
ما ترونه اليوم في عواصم الغرب — من مبانٍ شاهقة، وحدائق فخمة، وطرقات مُحكمة — كل ذلك بُني على أشلاء بشر، وعلى أنقاض حضارات أُبيدت عمدًا
أنا أقول: نعم، النظام الدولي في تشكيلاته الثلاثة خلال القرون الماضية كان غربيّ المركز، لكنه ليس الشكل الوحيد الذي عرفه التاريخ. قبل عام 1492 — وهو التاريخ الذي اعتُمد كمحطة مفصلية لتحول مركز النظام العالمي نحو الغرب — لم نكن نعرف هذا المفهوم القائم على “الصراع الصفري”، حيث لا رابح إلا إذا خسر الطرف الآخر كل شيء. كانت الحضارات تتفاعل، تتصادم أحيانًا، لكنها تتصالح أيضًا، وتعيد ترتيب موازين القوى فيما بينها.
أما ما حدث منذ أن أصبح الغرب مركزًا للنظام الدولي، فهو تحول جذري: أصبحت القوة لا تكتفي بالانتصار، بل تسعى للإبادة، للإقصاء التام، للاستئصال. وهذا لم يكن موجودًا في الحضارات السابقة.
فكرة “الإبادة الجماعية” — الجينوسايد — هي فكرة غربية خالصة. بدأت بإبادة السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية. هل تعلمون كم أُبيد من شعوب الأزتك والإنكا؟ (الملحق 1) فمن بين ستين إلى ثمانين مليون إنسان، لم ينجُ منهم سوى مليون تقريبًا! نحن نتحدث عن إبادة أكثر من 95٪ من السكان خلال أربعين عامًا فقط. بل كانت أوروبا ترى هذا الفتح مصحوبًا بالمجد والثروة، إذ عاد الإسبان والبرتغاليون محمّلين بأطنان الذهب والفضة، بينما أبيدت شعوب بأكملها.
وهكذا حدث في أمريكا الشمالية، وفي كندا، وفي أستراليا، وحتى في إفريقيا — في تنزانيا، والكونغو، وناميبيا، حيث قُتل الملايين.
فما ترونه اليوم في عواصم الغرب — من مبانٍ شاهقة، وحدائق فخمة، وطرقات مُحكمة — كل ذلك بُني على أشلاء بشر، وعلى أنقاض حضارات أُبيدت عمدًا.
عندما أُبيد سكان أمريكا اللاتينية، جُلِب ملايين العبيد من إفريقيا — نحو 17 مليونًا — ليعملوا في مزارع السكر وغيرها. وهكذا وُلد الاقتصاد الحديث، وولد معه “الازدهار” الأوروبي، القائم على الاستعمار، والنهب، والإبادة. لهذا أقول: فكرة الصراع هذه لم تكن جزءًا من الحضارات القديمة. كانت هناك حروب، نعم، لكن لم تكن هناك “أفكار استئصال” كما شهدناها في القرون الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر.
ثم جاء الاستعمار الأوروبي، لا سيما في موجاته الكبرى التي شاركت فيها معظم دول أوروبا: الإسبان، البرتغاليون، الهولنديون، الفرنسيون، البريطانيون، الإيطاليون، وحتى الألمان، في عهد بسمارك، حين اجتاحوا ناميبيا وأبادوا معظم قبائلها، وكذلك فعلوا في تنزانيا وغيرها.
إنّ نظرتنا للحضارات والأديان والثقافات نظرة تعايش لا إبادة، وتسامح لا استئصال. قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} — لا لتتقاتلوا أو تستأصلوا بعضكم بعضًا.

حينما أتحدث عن أن النظام الدولي الحالي قائم على الصراع، فإنني لا أقصد الصراع بمعناه الطبيعي أو الفلسفي، بل الصراع الذي تبلور في الفكر الغربي الحديث، والذي استند إلى أفكار فلسفية نشأت في عصر التنوير. خذوا مثلًا “توماس هوبز“، الذي صوّر الحياة البشرية كغابة، حيث البقاء للأقوى، والضعيف لا مكان له إلا الزوال.
في مقابل ذلك، نحن في حضارتنا الإسلامية نملك منظومة قيمية مختلفة تمامًا. نحن لا نحتقر الضعيف، بل نأخذ بيده، نحميه، نرفع من شأنه، ونتواصى بالحق ونتواصى بالرحمة. هذه هي رسالتنا. ولسنا ممن يقهرون الآخرين أو يطردونهم أو يبيدونهم من أجل إثبات التفوق أو فرض الهيمنة.
وحين نتأمل التاريخ الإسلامي، نرى نموذجًا حضاريًّا فريدًا في تعامله مع الأمم الأخرى. فتحنا بلادًا واسعة، لكننا لم نبِد شعوبها. الدولة الأموية، ثم العباسية، ظلّت غالبية شعوبها غير مسلمة لقرون، ومع ذلك تعايشنا معهم. بل الدولة العثمانية — منذ نشأتها في القرن الثالث عشر وحتى القرن السادس عشر في عهد سليم الأول — كانت تضم في غالبيتها مسيحيين، لا مسلمين، ومع ذلك لم نسمع عن حملات إبادة أو استئصال.
وعندما طُرد اليهود من إسبانيا والبرتغال، كانت السفن الإسلامية هي التي التقطتهم وجاءت بهم إلى أراضينا ليعيشوا آمنين مطمئنين. كان السلطان سليم يُرسل أسطوله لينقذهم، في وقت كانت فيه أوروبا تضطهدهم وتحرقهم.
إنّ نظرتنا للحضارات والأديان والثقافات نظرة تعايش لا إبادة، وتسامح لا استئصال. قال الله تعالى:
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} — لا لتتقاتلوا أو تستأصلوا بعضكم بعضًا.
لذلك، حين ننتقد النظام الدولي الحديث، فنحن لا نفعل ذلك انطلاقًا من عقدة تاريخية، بل من وعي عميق بحقيقة ما جرى، وما زال يجري. فالنظام الغربي بُني على استعلاء عنصري، وفكر دارويني دعم فلسفة الهيمنة، وكرّس مبدأ “القوة تبرر البقاء”، ومن لا يملك القوة، لا يملك الحياة (ترجمت هذه الفقرة بالانجليزية والفرنسية اسفله).
“Therefore, when we criticise the modern international order, it is not out of a historical complex, but from a deep awareness of what has truly occurred — and is still occurring. This Western order was built on racial superiority and a Darwinian mindset that legitimized the philosophy of domination, enshrining the principle that “might justifies survival,” and that those without power have no right to life.”
“Par conséquent, lorsque nous critiquons l’ordre international moderne, ce n’est pas par complexe historique, mais par une conscience profonde de ce qui s’est réellement passé – et continue de se produire. Cet ordre occidental a été bâti sur une supériorité raciale, une pensée darwinienne qui a légitimé la philosophie de la domination, consacrant ainsi le principe selon lequel “la force justifie la survie”, et que celui qui ne possède pas la force n’a pas droit à la vie.”
من الأسئلة المهمة التي وردت، سؤالٌ عن تعريف الأمة، وحدود مفهومها الجغرافي. وقد لاحظ بعض الإخوة أن خرائط البرامج قد تُغفل دولًا مهمة مثل باكستان، أو إندونيسيا، أو بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة في إفريقيا وأوروبا، كأذربيجان والسنغال ومالي، وغيرها.
وأود هنا أن أوضح أمرًا أساسيًّا: الأمة — في معناها العميق — تشمل العالم الإسلامي بأسره، بجميع شعوبه ودوله وأعراقه، فهي ليست محصورة في حدود معينة، ولا تنتمي إلى عرق دون عرق، ولا إلى إقليم دون آخر. لكن حين تحدثتُ عن “الجغرافيا المقدسة”، فإنني لم أقصد أن أحصر الأمة في تلك الرقعة الجغرافية، بل قصدت الإشارة إلى المجال الجغرافي الذي ورد ذكره في النصوص، واصطفاه الله تعالى بالبركة والقداسة: من الحجاز إلى الشام. هذه الأرض وردت في القرآن والسنة بأنها مباركة، وأن فيها منطلقات الرسالة الأولى.
وهنا يجب أن نفرق بين أمرين: المركز الجيوسياسي الاستراتيجي ومركز الرسالة. قد تكون الجغرافيا المقدسة بوصلةً ومرجعًا روحيًّا وفكريًّا، لكنها ليست بالضرورة المركز الوحيد للفعل السياسي. فوظيفتها أن تكون القلب، والقلب هو الذي إذا صلح، صلح الجسد كله، وإذا فسد، فسد الجسد كله. وبالتالي، حين أقول إن القدس ومكة هما “العينان” في جسد الأمة — كما قال بابا الفاتيكان يوم سقطت القسطنطينية: “لقد فُقئت إحدى عيني المسيحية!” — فإنني أقصد أن القدس ومكة هما منبع الروح، فإذا فُقدتا، أو فُقدت إحداهما، فإن جسد الأمة كله يصيبه العطب.
نحن نمتلك كل المقوّمات: دولٌ غنية بالموارد الطبيعية، ودولٌ غنية بالقوة البشرية، ودولٌ ذات موقع جغرافي استراتيجي، ودولٌ ذات بنى علمية ومعرفية ناهضة، وأخرى تملك مخزونًا هائلًا من المعادن النادرة، والزراعة، والطاقة. لو أُحسن توزيع هذه الموارد ضمن إطار تعاون استراتيجي متين، فسوف نُعيد تشكيل الخريطة الاقتصادية للعالم، ونبني منظومة قادرة على الاستقلال، لا اقتصاديًّا فقط، بل سياسيًّا وثقافيًّا أيضًا.
لكن هذا لا يعني إطلاقًا أن باقي أجزاء العالم الإسلامي أقل أهمية أو أن دورها ثانوي، بل إن الأمة بأكملها مدعوة لأن تتكامل، ولكل جناح دوره في تحقيق هذا النهوض الجماعي. فهناك جناح يمتد نحو الشرق الآسيوي، وآخر نحو الشمال الإفريقي، وثالث نحو العمق الإفريقي، وكلهم شركاء في حمل الرسالة، كل من موقعه.
أما حين يُطرح تساؤل حول ما إذا كانت “الجغرافيا المقدسة” تُمهّد لتأسيس دولة دينية ثيوقراطية محصورة بالعرب، فإن جوابي القاطع هو: كلا. ففكرة الدولة الدينية كما نشأت في السياق الغربي — حيث يحكم البابا باسم الله، ويمنح ويمنع، ويشرّع ويحرّم — لم تعرفها حضارتنا قط. لا الدولة النبوية، ولا الخلافة الراشدة، ولا الدولة الأموية أو العباسية، ولا حتى العثمانية، كانت دولًا دينية بالمعنى الثيوقراطي الغربي. نعم، كانت هذه الدول تتبنى خطابًا دينيًّا، وقد توظفه أحيانًا لمصالحها السياسية، لكن المجتمع، الأمة، كانت دومًا هي “مستودع الحق”، وهي التي تمارس الرقابة على السلطة، لا العكس. الدولة قد تستخدم الدين، لكنها ليست مرجعية دينية مطلقة.

وردني سؤال من أحد الإخوة الكرام يقول:
“لقد قلتَ إنك لا تسعى لاستعادة الخلافة بالشكل الذي كانت عليه… فلماذا؟ ولماذا لا يكون استرجاع الخلافة هدفًا؟“
وإجابتي هنا تنطلق من قناعة عميقة بأن الشكل — أي “شكل الخلافة” — ليس هو الجوهر. فالأشكال السياسية هي انعكاس لبيئة زمانية ومكانية، ولتوازنات قوى محددة في لحظات تاريخية معينة. والخلافة التي عرفناها عبر التاريخ لم تكن واحدة، بل ظهرت في صور متعددة، وتغيرت باختلاف العصر، والمذاهب الإدارية، ومدارس الحكم. ما أؤمن به، وأدعو إليه، هو استعادة “روح الإجماع” التي تمثلت عبر ثلاثة عشر قرنًا من عمر الأمة، والتي تجسدت في مفهوم “الخلافة”، لا بالمعنى المؤسسي المجرد، بل بمعنى “المرجعية الجامعة”، التي توحّد الرؤية، وتعبّر عن الإرادة الجماعية للأمة، وتشكّل مظلة حضارية جامعة.
أما استعادة الشكل القديم، كما هو، فليس بالضرورة هو الطريق الأمثل اليوم. بل إن أدوات العصر المعاصر قد توفر بدائل أكثر فاعلية، وأكثر قابلية للتطبيق. خذ على سبيل المثال الاتحاد الأوروبي، أو منظمة “آسيان” (تُشبه اتحادًا اقتصاديًا وثقافيًا مرنًا، شبيهًا بما تفعله أوروبا في الاتحاد الأوروبي، لكن بأسلوب أكثر احترامًا للسيادة الوطنية، وأقل تشددًا في القوانين الموحدة. اسستها إندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، اضافة الى 4 الدول التي انضمت اليها وهي بروناي و الفيتنام ولاوس و ميانمار وكمبوديا.) (الملحق 2)، أو تجارب أخرى قامت على التكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي بين دول مختلفة، دون الحاجة إلى إذابة هوياتها، أو إلى محو استقلالها.

التكامل هو السبيل الذي يمكننا من إعادة تشكيل “روح الخلافة”، بروح العصر، لا من خلال استنساخ نموذج تاريخي، بل عبر بناء شراكات استراتيجية تقوم على المصالح المشتركة، وتفتح الحدود أمام حركة الأفراد، والسلع، والأفكار، وتؤسس لتكامل حقيقي يخدم أبناء الأمة لا القوى الأجنبية. ومع ذلك، فهذا لا يلغي أهمية استلهام تجاربنا التاريخية — بما فيها الخلافة — باعتبارها مرجعًا حضاريًّا، لا قالبًا سياسيًّا جامدًا. فنحن لا نريد أن نكرر الماضي حرفيًّا، بل أن نستلهم حكمته، ونبني عليه بما يناسب زماننا وواقعنا.
وفي زمن الأزمات المتراكمة، تصبح هذه الرؤية ضرورة لا ترفًا. فالأمة، إذا أرادت أن تستعيد وزنها، وأن تخرج من حالة التفتت والضعف، لا بد لها أن تؤسس لتكامل حقيقي يبدأ من الاقتصاد، ويمتد إلى الأمن، والسياسة، والثقافة، والتعليم. ذلك هو السبيل الواقعي والعملي، الذي يمكن أن يُفضي في نهاية المطاف إلى استعادة تلك “الروح الجامعة”، التي ما إن عادت، حتى عادت معها العزة، والمكانة، والدور الحضاري العالمي.
ذكرتُ في الحلقة الرابعة عددًا من أعلام الفكر والعلم في تاريخنا، من أمثال العز بن عبد السلام، وابن الجوزي، وابن تيمية، والسيوطي، والجويني، وابن خلدون. وكنتُ قد أشرت إلى أن هؤلاء العلماء عاشوا فترات انكسار عميقة، وتفاعلوا معها بوعي وتأمل، فطوّروا اجتهاداتهم، وكتبوا رؤى جديدة في إدارة الشأن العام، في زمن كانت فيه الأمة تتعرض لهزّات عنيفة، كالغزو المغولي، أو الصليبي، أو سقوط الأندلس. وقد تساءل بعض الإخوة في تعليقاتهم:
“لماذا لم تذكر العز بن عبد السلام أو ابن الجوزي؟”
والحقيقة أنني لم أقصد حصر الرموز، بل حاولت أن أُسلط الضوء على من قدموا اجتهادات واضحة لها علاقة بالبُعد الاستراتيجي السياسي، من داخل الوعي الشرعي. فما نحتاجه اليوم، في ظل ما نعيشه من انكسارات وأزمات، هو العودة إلى “الاجتهاد المؤسس”، الذي ينطلق من الوعي الحضاري الإسلامي، ويبحث في كيفية تجاوز الأزمات الراهنة بلغة العصر، وأدواته، وفهم تحدياته. وليس المقصود أن هؤلاء العلماء الذين ذكرتهم وحدهم هم الذين قدّموا إضافات، بل لدينا أيضًا عمالقة معاصرون، من أمثال مالك بن نبي، وغيرهم، ممن ساهموا بإسهامات فكرية لا تقل قيمة عن أولئك السابقين. لكن المسألة في السياق، لا في الحصر.
الاستراتيجيّ الرشيد، هو الذي يدرس كل الخيارات المتاحة أمامه، ويبدأ بالأنسب والأكثر نفعًا، فإن تعذّر، انتقل إلى الأقل نفعًا، ثم الأقل، إلى أن يبلغ “خيار الضرورة”، حين لا يبقى أمامه غيره. أما أن يبدأ بخيار الضرورة، ويقدّمه كخيار أول، ثم يبرر ذلك بالعجز، فهذا ليس من الرشد في شيء.
ما أردته من هذا المثال أن أوضح كيف أن هؤلاء العلماء، حين واجهوا لحظات التراجع، لم يكتفوا بالبكاء على الأطلال، أو بالتنظير المعزول، بل انخرطوا في عملية تجديد فكري وفقهي عميق، يأخذ الواقع بعين الاعتبار، دون أن يفرّط في الثوابت. ولذلك، فإن الاجتهاد الذي ندعو إليه اليوم لا يقتصر على الفقهاء وحدهم، بل يحتاج إلى تكامل الجهد بين العلماء، والمفكرين، والاقتصاديين، والمهندسين، والاختصاصيين في علم النفس، والاجتماع، والسياسة، والتكنولوجيا، بحيث يُعاد تشكيل الوعي الجماعي، ويُبنى مشروع متكامل للنهوض، لا يقوم على ردات الفعل، بل على بناء استراتيجي راسخ. وذلك هو ما حاولنا أن نبدأ به في برنامج “موازين”، وهو ما نأمل أن يستمر ويتوسع في الفضاءات العلمية والفكرية في أمتنا.
من الأسئلة التي وردت إلينا سؤالٌ يتعلّق بـ:
“من هو الاستراتيجيّ الرشيد في عصرنا؟”
وسؤال آخر يقول:
“حين تقول: لا تقتدِ إلا بمن قد مات، فهل هذا يعني أنّنا لا ينبغي أن نحكم على السياسيين الأحياء؟“
أما عن الاستراتيجيّ الرشيد، فأقول — والله أعلم — إنّ الرشد في العمل الاستراتيجي لا يعني أن تكون لديك نوايا حسنة فحسب، بل يعني أن تمتلك القدرة على توليد البدائل، واختيار السيناريو الأفضل لمصلحة أمتك وشعبك، دون أن تقع في أسر أولويات أو أجندات الآخرين. القرار الاستراتيجي لا يُبنى على ردود الأفعال، ولا على الضرورات كخيار أول، بل يُبنى على رؤية بعيدة، تستقرئ المستقبل، وتستثمر الإمكانات، وتوازن بين المكاسب والمخاطر.
الاستراتيجيّ الرشيد، إذًا، هو الذي يدرس كل الخيارات المتاحة أمامه، ويبدأ بالأنسب والأكثر نفعًا، فإن تعذّر، انتقل إلى الأقل نفعًا، ثم الأقل، إلى أن يبلغ “خيار الضرورة”، حين لا يبقى أمامه غيره. أما أن يبدأ بخيار الضرورة، ويقدّمه كخيار أول، ثم يبرر ذلك بالعجز، فهذا ليس من الرشد في شيء. للأسف، نرى بعض القادة يسلكون طريق الضرورة منذ البداية، ثم يقولون: “ماذا نفعل؟ لقد أُجبرنا”، ويُسندون قراراتهم إلى فتاوى اضطرارية، كما لو أنّهم قد استنفدوا كل الحلول! والحقيقة أنهم لم يبحثوا أصلًا عن البدائل، بل ساروا خلف ضغوط الناصحين المزيفين، أو إملاءات الخارج.
الرشد في القرار يعني: أن تُحسن قراءة موازين القوى، وأن تُحيط بالمعطيات بدقة، وأن تُقدّر المصالح والمفاسد، وأن تُحسن التدبير والتخطيط، ووأن تُشرك أهل الرأي والخبرة. أما النية الحسنة وحدها، فإن لم تُعزّز برؤية عميقة وتخطيط محكم، فإنها تتحول إلى سذاجة، وقد تُفضي إلى كوارث سياسية، لا يُعتدّ فيها بحسن النوايا.
كُنّا أمة لها رسالة، لها تواصل مع محيطها، لها عمق، لها ذاكرة، ولكن قيل لنا فجأة: “من اليوم، أنتم دول متفرقة. كل دولة لها علم، وجواز، ونشيد، وحدود، ومهمة كل دولة أن تدير شؤونها فقط!”
وأما قولنا: “لا تقتدِ إلا بمن قد مات”، فليس المقصود به منع التفاعل أو النصيحة أو النقد، بل المقصود أنّ الاقتداء الكامل، أي اتخاذ شخص ما قدوة تامة، لا ينبغي أن يكون إلا بعد اكتمال تجربته، وظهور آثارها. كم من قائدٍ بدأ مشواره ببطولات وأمجاد، ثم انتهى إلى فساد وخيانة! وكم من آخر بدأ بتخبّط، ثم نضج وتجدد حتى أصبح راشدًا.
الاقتداء يتطلب نظرة شاملة، تُقيم التجربة كاملة بعد نهايتها. أما التفاعل مع القادة الأحياء، من نقدٍ أو نصح أو مناصرة أو مواقف، فهذا من صميم الحياة السياسية السليمة، بل هو من باب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وهو ما فعله خير الشهداء — كما وصفهم النبي ﷺ — الرجل الذي وقف إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقُتل.
من الأسئلة التي طرحت:
“كيف استطاعت الصين الحفاظ على وحدتها الجغرافية والإنسانية، بينما انقسم العرب وتشتتوا؟ ولماذا نجحت الصين، وفشلنا نحن؟“
كنتُ قبل أيام في زيارة إلى جنوب شرق آسيا، حيث التقيت بأحد كبار المفكرين الاستراتيجيين من أهل المنطقة، رجلٌ حكيم، عميق الرؤية، تأمليّ النظرة. وبينما كنا نتحدث عن الصين والهند، قال لي عبارةً ما زلتُ أتأملها حتى الآن، قال: “الصين حضارة تتخفّى في زيّ دولة قومية، أما الهند فهي حضاراتٌ متعددة تتقنّع بقناع الدولة.” هذه العبارة تلخّص الكثير.
الصين، رغم ما فيها من تنوع قومي ولغوي، تملك لُحمة حضارية عريقة، عمرها آلاف السنين، تجمعها اللغة المندرينية، التي يفهمها نحو 90٪ من الشعب، بينما في الهند، رئيس الوزراء عندما يتحدث بأي من اللغات المحلية، لا يفهمه إلا جزء يسير من الشعب، لأن الهند فيها أكثر من 320 قومية.
حين ترى أن هناك أكثر من 1500 اجتماع سنوي بين دول آسيان لتعزيز التعاون والتكامل، بينما لا تجد في عالمنا العربي سوى القمم الروتينية التي تُعقد كل عام، وتخرج ببيانات لا تُسمن ولا تُغني، تدرك حجم الهوة.
الصين إذًا أمة متماسكة حضاريًّا، حتى وإن تعددت إداراتها السياسية، بخلاف الهند التي تم تجميعها سياسيًّا إبان الاستعمار البريطاني، دون أن تمتلك نواة حضارية موحّدة حقيقية. لكن السؤال الأهم هنا: ما شأننا نحن؟ لماذا فشل العرب والمسلمون في بناء نموذجهم الوحدوي؟ الجواب المؤلم: نحن لم نُمنح الفرصة أصلاً. نُزعنا من سياقنا التاريخي. كُنّا أمة لها رسالة، لها تواصل مع محيطها، لها عمق، لها ذاكرة، ولكن قيل لنا فجأة: “من اليوم، أنتم دول متفرقة. كل دولة لها علم، وجواز، ونشيد، وحدود، ومهمة كل دولة أن تدير شؤونها فقط!”
بل حتى حين اجتمعنا في شكل “جامعة الدول العربية”، قيل لنا: “هذا مجرد إطار رمزي، لا يتدخل في الشأن السياسي الجوهري.” وهكذا سرنا في هذا الطريق. تفككنا، تشظّينا، حتى أصبحت الروابط التي تجمع دول آسيان (التي تختلف لغويًّا وعرقيًّا وثقافيًّا) أقوى من الروابط التي تجمعنا نحن — نحن الذين نتشارك في الدين، واللغة، والتاريخ، والمصير. إن الإنسان العربي لا تنقصه الرغبة في التوحد، لكنه يعيش ضمن منظومة تُعزز الانقسام، وتغذّي الانغلاق، وتحول بينه وبين أخيه.
حين ترى أن هناك أكثر من 1500 اجتماع سنوي بين دول آسيان لتعزيز التعاون والتكامل، بينما لا تجد في عالمنا العربي سوى القمم الروتينية التي تُعقد كل عام، وتخرج ببيانات لا تُسمن ولا تُغني، تدرك حجم الهوة. المشكلة ليست في الشعوب. الشعوب تتوق للوحدة، وتملك طاقات هائلة. المشكلة في المنظومة التي صُمّمت لتفتيتنا، والتي ما زلنا للأسف نُقدّسها، ونُعيد إنتاجها جيلاً بعد جيل.
ورد في أحد التعليقات تساؤل لافت:
“لماذا يتركّز نقدك دائمًا على العرب؟ أليست الأمة الإسلامية أوسع من ذلك؟ أليست باكستان، إندونيسيا، ونيجيريا، وتركيا، وغيرها، دولًا إسلامية تتحمل كذلك مسؤولية الواقع الراهن؟“
وجوابي: نعم، لا شك أن الأمة الإسلامية بكل دولها وشعوبها مسؤولة عما يحدث. لكنني، حين أوجّه الخطاب والنقد، فإنني أفعل ذلك أولًا لأنني عربي، فأبدأ بنفسي وقومي، وثانيًا، لأنني أؤمن بأن العرب — تاريخيًّا — هم حملة الرسالة، وأن المركز الحضاري للأمة الإسلامية كان دائمًا في هذه البقعة الجغرافية التي تمتد من الحجاز إلى الشام. لكن هذا لا يعني أبدًا إعفاء باقي الأمة الإسلامية من المسؤولية، أو التهوين من أدوارها. على العكس، فإن إخواننا في باكستان، وماليزيا، وإندونيسيا، وتركيا، وغيرهم، يملكون إمكانات ضخمة، وطاقات بشرية واقتصادية هائلة، ويحققون إنجازات مهمة. بل أذهب إلى أبعد من ذلك: لو أننا — كأمة — تبنّينا نموذجًا تكامليًّا حقيقيًّا، اقتصاديًّا على الأقل، فإننا سنرى نتائج مبهرة خلال فترة وجيزة.
نحن نمتلك كل المقوّمات: دولٌ غنية بالموارد الطبيعية، ودولٌ غنية بالقوة البشرية، ودولٌ ذات موقع جغرافي استراتيجي، ودولٌ ذات بنى علمية ومعرفية ناهضة، وأخرى تملك مخزونًا هائلًا من المعادن النادرة، والزراعة، والطاقة. لو أُحسن توزيع هذه الموارد ضمن إطار تعاون استراتيجي متين، فسوف نُعيد تشكيل الخريطة الاقتصادية للعالم، ونبني منظومة قادرة على الاستقلال، لا اقتصاديًّا فقط، بل سياسيًّا وثقافيًّا أيضًا.
فما نفتقر إليه ليس الموارد، بل الرؤية، والتكامل، والثقة المتبادلة. نعم، آن الأوان لنتجاوز “الدولة القُطرية” التي صنعتها حدود سايكس-بيكو، وأن ننظر إلى أنفسنا كأمة واحدة، لها قلب نابض، وأجنحة متداخلة، ومصالح مشتركة، ومستقبل مشترك. لا نريد أن نُذيب الدول، ولا أن نُلغي الأعلام، ولكن نريد أن نبني بينها جسورًا قوية، وشراكات استراتيجية حقيقية، تضمن بقاء كل دولة، وتحقق عزة الجميع. فلا عزّ لدولة مسلمة وهي منعزلة، ولا منعة لأمةٍ ما لم يتكامل جسدها.
د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي
———————————————-
المقالات ذات الصلة :
الملحقات
الملحق 1-
- الأزتك (Aztecs):
حضارة أمريكية أصلية ازدهرت في وسط المكسيك بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، وكان مركزها مدينة تينوشتيتلان (موقع مكسيكو سيتي اليوم).
برعوا في الزراعة، الهندسة المعمارية، والفلك، وكان لهم تقاليد دينية قائمة على القرابين البشرية. انتهت حضارتهم على يد الغزو الإسباني بقيادة كورتيس عام 1521. - الإنكا (Incas):
حضارة عظيمة قامت في جبال الأنديز (بيرو، بوليفيا، الإكوادور، وتشيلي)، وكان مركزها مدينة كوسكو، ثم عاصمتهم المقدسة ماتشو بيتشو.
اشتهروا بنظامهم الإداري والزراعي، وبشبكة طرق متقدمة. سقطت حضارتهم عام 1533 على يد الإسباني فرانسيسكو بيثارو.
كلا الشعبين قُضي عليهما بفعل الاستعمار الإسباني، رغم أنهما كانا من أعظم حضارات ما قبل كولومبوس.
آسيان؟
آسيان (ASEAN) هي اختصار لـ “رابطة دول جنوب شرق آسيا”. (Association of Southeast Asian Nations)،
وهي منظمة إقليمية تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي بين الدول الأعضاء في منطقة جنوب شرق آسيا.
تأسست في 8 أغسطس 1967. الدول المؤسسة: إندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، سنغافورة، وتايلاند. تتكوّن آسيان حاليًا من 10 دول: إندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، اضافة الى 4 الدول التي انضمت اليها وهي بروناي و الفيتنام ولاوس و ميانمار وكمبوديا. آسيان تُشبه اتحادًا اقتصاديًا وثقافيًا مرنًا، شبيهًا بما تفعله أوروبا في الاتحاد الأوروبي، لكن بأسلوب أكثر احترامًا للسيادة الوطنية، وأقل تشددًا في القوانين الموحدة.
ما أهداف آسيان الرئيسية؟
- تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة.
- دعم الاستقرار السياسي والسلم الإقليمي.
- تعزيز التعاون في التعليم، الصحة، البيئة، والثقافة.
- التكامل الاقتصادي وتسهيل التبادل التجاري بين الدول الأعضاء (مثل السوق المشتركة).
لماذا تُعد آسيان مهمة عالميًا؟
- تمثل سوقًا ضخمة يفوق عدد سكانها 650 مليون نسمة.
- تُعد من أسرع المناطق نموًا اقتصاديًا في العالم.
- تقيم شراكات استراتيجية مع قوى كبرى مثل الصين، الاتحاد الأوروبي، أمريكا، اليابان.