Uncategorized

المسار الهادئ والطموح لصعود الصين كقوة عظمى

د. الحسـن اشباني

في خضم البحث عن فهم أعمق لاستراتيجية الصين الصاعدة، وجدتُ في أحد الحوارات الفكرية ما يستحق التوقف والتأمل. كان ذلك من خلال مقابلة ثرية أجراها الإعلامي عبد الرحمن الناصر مع المفكر السياسي الدكتور محمد المختار الشنقيطي على منصة يوتيوب ” بودكاست الشرق، تناول فيها أبعادًا دقيقة من المشهد الجيوسياسي الآسيوي. وقد ارتأيت أن أفرّغ هذا الحوار وأُدرجه هنا، بعد تهذيبه لغويًا، لما فيه من رؤى تحليلية نافذة تضيء جانبًا من المسار الهادئ والطموح الذي تسلكه بكين بثبات، في زمن تتصاعد فيه التحديات وتتعدد فيه رهانات القوة والنفوذ. د. الحسن اشباني

خلاصة الحوار حول صعود الصين واستراتيجيتها:

يناقش الحوار صعود الصين كقوة عظمى في القرن الواحد والعشرين وتأثيرها المتزايد على النظام الدولي. الصين، التي تُعتبر اليوم أكبر مصدر في العالم، تواجه تحديات استراتيجية وجغرافية بسبب موقعها الجغرافي الذي يتسم بالتعقيد. على الرغم من قوتها الاقتصادية والعسكرية، إلا أن الصين تواجه نقاط ضعف تتمثل في اعتمادها على مضايق وممرات بحرية تمر عبر مناطق تحت النفوذ الغربي، مثل مضيق ملقة وقناة السويس، مما يجعلها عرضة للتأثيرات الخارجية.

تحاول الصين تقليص هذه التبعية من خلال توسيع وجودها في مناطق استراتيجية مثل بحر الصين الجنوبي والشرق الأوسط. على سبيل المثال، قامت ببناء قاعدة عسكرية في جيبوتي، ووقعّت اتفاقيات شراكة استراتيجية مع إيران لتأمين موارد الطاقة، لا سيما النفط والغاز. الصين تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط من الخليج العربي، وهو ما يفسر توسعها في المنطقة.

الصين تحاول كذلك تعزيز علاقاتها مع الدول الإسلامية في آسيا، مثل باكستان وأفغانستان، وتسعى لبناء ممرات استراتيجية عبر آسيا الوسطى. إضافة إلى ذلك، تسعى لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الدول الآسيوية مثل إندونيسيا وماليزيا، بينما تسعى إلى تجنب أي صراع مباشر مع القوى العظمى الأخرى مثل الهند واليابان. علاقتها مع الهند لا تزال مليئة بالتوترات بسبب قضية كشمير، التي تُمثل نقطة صراع مع الهند وباكستان، ولكن الصين تسعى للاستفادة من هذه التوترات لصالحها.

على الصعيد السياسي، يتفق الباحثون على أن الصين تتبع استراتيجية “الازاحة” لاستبدال الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي. يتم ذلك بطريقة هادئة ومرنة، مشابهة لطريقة “الماء” التي قدمها الفيلسوف الصيني سان تزو في كتابه “فن الحرب”، حيث يتم الالتفاف حول العقبات واستهداف نقاط ضعف العدو بدلاً من التصادم المباشر.

من جهة أخرى، يرى بعض المفكرين أن صعود الصين سيؤدي إلى صدام حتمي مع الغرب، بينما يعتقد آخرون أن التعايش والتقاسم ممكن. من بين هذه الرؤى، تتنوع الآراء حول المستقبل، سواء بالنظر إلى الحرب المحتملة أو التعايش المشترك بين القوى العظمى.

نص الحوار الذي اجراه الصحفي عبد الرحمن الناصر مع الدكتور محمد المختار الشنقيطي

ذ. عبد الرحمن الناصر : مساء الخير، وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من بودكاست الشرق. ضيف حلقة اليوم هو الدكتور محمد المختار الشنقيطي، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة قطر. سيكون نقاش حلقة اليوم حول الفكر الاستراتيجي الصيني الذي تأثر بكتاب “فن الحرب”، وهو كتاب كتبه قائد عسكري صيني منذ أكثر من 23 قرنًا ولا يزال يؤثر في السياسة الصينية حتى يومنا هذا.

خلال الحلقة، سنناقش تطبيقات المبادئ الاستراتيجية التي وردت في هذا الكتاب على السياسة الدولية للصين اليوم. كما سنتطرق إلى كيف أن الكليات العسكرية والمفكرين الاستراتيجيين في الغرب، وكذلك في دول أخرى مثل اليابان وفيتنام، قد تأثروا بهذا الكتاب. سنتناول أيضًا كيفية نظر الصين إلى منطقتنا العربية، وكيفية تعاملها مع الدول الإسلامية في آسيا مثل باكستان وإيران، وأيضًا دول جنوب شرق آسيا. نتمنى لكم متابعة مفيدة.

أهلاً وسهلاً دكتور محمد، حياكم الله. اليوم سنتحدث عن الصين، وهو حديث ذو شجون وشؤون. ربما يمكن القول أن الصين هي من الدول التي تتمتع باستمرارية حضارية تختلف قليلاً عن غيرها من الأمم.

كما تعلم، الأدبيات السياسية والاستراتيجية في الصين تتسم بتراكم حضاري طويل منذ الصين القديمة ومرورًا بالإمبراطوريات الصينية المتعاقبة. هذه الأدبيات استمرت وتراكمت حتى وصلت الصين إلى ما هي عليه اليوم، حيث تبني ما هي عليه الآن بناءً على تلك الأدبيات. فهل يمكن أن تقدم لنا لمحة عن هذه الأدبيات في الفكر الاستراتيجي الصيني؟

د. محمد المختار الشنقيطي: حياكم الله. نعم، الصين هي حضارة عميقة وعريقة، فيها إمبراطوريات عظيمة توالت عبر آلاف السنين. في بعض الأحيان، كانت الصين دولة كبرى في شكلها الإمبراطوري، وفي أحيان أخرى كانت تتفكك إلى دويلات صغيرة قد يصل عددها إلى 150 دويلة. ولكن هناك دائمًا خيط مستمر من الاستمرارية في الفكر الاستراتيجي الصيني، الذي له جذور عميقة تمتد عبر أكثر من 2500 عام. على سبيل المثال، الكتاب الذي أنا درسته، “فن الحرب” لسان تزو، عمره في أدنى تقدير 23 قرنًا، وقد يكون عمره 26 قرنًا. وهو يعيد الإشارة إلى كتاب قبله لم يصلنا بالكامل، يعرف باسم “كتاب الإدارة العسكرية”، ويذكره في كتابه “فن الحرب”، على الرغم من أننا لا نعرف عنه سوى هذه الإشارة. وهذا يشير إلى تراكمات في التراث العسكري الصيني، مثلما يدل بيت الشاعر “امرء القيس” على تراكم أدبي سابق في الأدب العربي.

ذ. عبد الرحمن الناصر : لنبدأ من سان تزو وكتاب “فن الحرب”، إذا كنت تستطيع أن تقدم لنا لمحة عن الظروف أو السياق الذي أنتج هذا الكتاب الذي استمر معنا 23 قرنًا كما ذكرت؟

د. محمد المختار الشنقيطي : نعم، سان تزو هو مفكر وقائد عسكري صيني، اسمه الأصلي كان صنوء، وكان في بلاط مملكة وو في فترة تفكك الحضارة الصينية إلى ممالك متعددة. كان يعمل في بلاط المملكة ويعتبر قائد جيشها. هناك قصة طريفة حول الطريقة التي استدعاه بها الملك ليجعله قائدًا للجيش. قيل إنه سمع عن خبرته، فاستدعاه وطلب منه تدريب جواري القصر ليصبحن جيشًا مقاتلاً. وقال له الملك: “هل تستطيع تحويل جواري القصر عندي إلى جيش مقاتل؟” فأجاب سان تزو: “طبعًا أستطيع.” ثم قام بتدريبهن، وأصدر الأوامر التي لم تكن مفهومة بشكل صحيح من قبل الجواري، مما جعلهن يضحكن. فاستل سيفه وقطع رأس الجاريتين اللتين كانتا تتصدران الصفوف. وبذلك أثبت للجميع أن القيادة الحازمة ضرورية لضمان تنفيذ الأوامر. هذا التصرف ترك أثرًا عميقًا في الملك وأدى إلى تعيينه قائدًا للجيش.

لا نعرف الكثير عن حياته الشخصية، ولكننا نعلم أنه قاد جيش مملكة وو ضد الممالك الصينية الأخرى في معارك ناجحة، كما كان له تأثير كبير في الفكر العسكري. أما الكتاب، فقد قيل إنه كُتب في فترة الربيع والخريف، وهي الفترة التي تتراوح بين القرن الخامس والسادس قبل الميلاد، أو في فترة الدول المتحاربة في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد. في كل الأحوال، هو كتاب قديم جدًا، وقد كتبه أحد أحفاد سان تزو في القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد.

الكتاب يحتوي على 13 فصلاً، وكل فصل صغير الحجم، ولكن المحتوى مكثف جدًا. في الترجمات الإنجليزية، لا يتعدى الكتاب 10,000 كلمة. ومع ذلك، يعد هذا الكتاب ثمينًا ومكثفًا للغاية. بعض القراء المعاصرين، مثل هنري كسينجر، وصفوا الكتاب بأنه مزيج بين الشعر والحكمة. الجنرال الأمريكي ديفيد بتريس وصفه بالمثل. الأميركيون مولعون بدراسة هذا الكتاب، إذ لا يقتصر “فن الحرب” على كونه مجرد كتاب عن الحرب، بل يتعدى ذلك ليشمل المبادئ الاستراتيجية التي يمكن تطبيقها في السياسة، وفي عالم الأعمال، وحتى في الصراعات الثقافية.

ذ. عبد الرحمن الناصر : هل يمكنك أن تقدم لنا لمحة عن تأثير هذا الكتاب في باقي دول العالم؟ كما ذكرت، اليابانيون، الفيتناميون، والعديد من المفكرين في الصين والغرب تأثروا به. كيف يمكننا تصور تأثيره على مر السنين؟

د. محمد المختار الشنقيطي : نعم، الكتاب انتقل من الصين إلى دول آسيا أولاً. أحد الباحثين الأمريكيين المتخصصين في فكر سان تزو يقول إن هذا الكتاب كان أهم نص عسكري في آسيا لمدة 2000 عام. انتقل من الصين إلى اليابان، حيث كان الكتاب المعتمد في تكوين الضباط وقادة الجيش الياباني لمدة سبعة أو ثمانية قرون. ومن اليابان، انتقل إلى كوريا وبقية دول آسيا.

أما في العالم الغربي، فلم ينتقل “فن الحرب” إلى هناك إلا في القرن الثامن عشر، حيث كانت أول ترجمة له على يد السيسيي الفرنسي جان أميو، الذي كان قسيسًا يسوعيًا ومنصرًا في بكين. قام أميو بترجمته إلى اللغة الفرنسية في عام 1772. هذه كانت أول ترجمة لكتاب سان تزو إلى لغة أوروبية، وما زال هناك نقاش بين المؤرخين حول ما إذا كان نابليون بونابرت قد اطلع عليها، ويُقال إن السبب وراء براعة نابليون العسكرية وطريقته غير التقليدية في الحرب هو اطلاعه على تراث سان تزو. كان نابليون يتمتع بقدرات عسكرية استثنائية مقارنة بالقادة الآخرين في ذلك الزمان، وقد صرح بنفسه في كتابه “مبادئ الحرب”، وهو عبارة عن فقرات يُستشَفُّ منها تأثره بفكر سان تزو، رغم أنه لا يوجد دليل مادي واضح يثبت ذلك. ولكن أغلب الباحثين في هذا المجال يعتبرون أن نابليون قد قرأ الكتاب.

مع بداية القرن العشرين، انتشر الكتاب بشكل كبير، حيث ترجم إلى اللغة الإنجليزية لأول مرة في عام 1904، ثم تلتها ترجمات أخرى في عامي 1908 و1910. وقد قام البريطاني جايلس بترجمته في أسلوب شاعري جميل جدًا، وهذه الترجمة انتشرت بشكل كبير وما زالت تُدرس حتى اليوم. لقد قمت بإحصاء 47 ترجمة إنجليزية لهذا الكتاب، واستمرت الترجمات حتى عام 2020-2022. وبالطبع، لا يزال الكتاب يحظى بشغف كبير بين الأمريكيين، مما يعكس اهتمامًا غير مسبوق بهذا النص.

أما في اللغة العربية، فقد تُرجِم الكتاب أيضًا عشر مرات على الأقل. لديّ أربع من هذه الترجمات، ولكنها للأسف تعتبر ضعيفة جدًا من حيث الصياغة والدقة، وأغلبها ليست ترجمات مباشرة من الصينية، بل هي ترجمات عن الإنجليزية. وعلى الرغم من انتشار الكتاب بهذا الشكل الواسع في العالم، لم أتمكن من العثور على أي دراسة تحليلية لهذا الكتاب في أي مجلة أكاديمية عربية أو أي كتاب تحليلي لفكر سان تزو. وقد تُرجِم الكتاب أيضًا إلى اللغة اليابانية والفِيتنامية، وكل ذلك يبرز أهمية هذا الكتاب على مستوى عالمي.

ذ. عبد الرحمن الناصر : الآن، إذا كان الكتاب قريبًا من الشعر كما وصفه هنري كسنجر، فما هي التطبيقات العملية لهذا الكتاب؟ كيف يمكن تطبيقه في الحروب الحديثة التي تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة مثل الطائرات المسيَّرة (الدرون) والذكاء الاصطناعي؟ كيف يمكن لكتاب عمره أكثر من 25 قرنًا أن يُطبَّق في الحروب الحديثة التي تعتمد على التكنولوجيا في كل شيء؟

د. محمد المختار الشنقيطي : إجابة هذا السؤال تكمن في حقيقة أن الكتاب لا يعتمد على تفاصيل تقنية معقدة، بل على مبادئ استراتيجية عامة ومجملة. هذه المبادئ الاستراتيجية قادرة على البقاء والتطبيق في ظروف متنوعة. أحد الباحثين الأمريكيين الذين كتبوا عدة مؤلفات عن سان تزو، وهو ماكنيلي، قال إن الكتاب كان مصدر إلهام للجيوش في عصر السيوف والرماح، ولا يزال ملهماً لها في عصر الطائرات المسيَّرة والصواريخ. لماذا؟ لأن الكتاب يتحدث عن مبادئ عامة، والأمر الذي يجعلها قابلة للتطبيق في السياقات المختلفة هو عدم تقيُّده بتفاصيل تقنية محددة. وبينما هناك بعض التفاصيل المتعلقة بالزمن في الكتاب، فإن أغلب محتواه يتسم بالعمومية التي تجعل تطبيقه ممكنًا في أي عصر.

بالطبع، أول من طبق مبادئ “فن الحرب” في العصر الحديث هم الصينيون. فقد اعتُبر ماو تسي تونغ، قائد الثورة الصينية، تلميذًا نجيبًا لسان تزو، وكان يستلهم منه في الكثير من أفكاره، بل وكان يشير إليه في كتبه. لدى ماو مجموعة من الكتابات التي تم ترجمتها إلى اللغة العربية تحت عنوان “الكتابات العسكرية لماو تسي تونغ”، حيث يظهر بوضوح أنه كان يقتبس من كتاب “فن الحرب” ويستند إليه. كان يدرس هذا الكتاب لمحيطه القيادي العسكري، وكان يثق في أنه مصدر إلهام كبير له. من جهة أخرى، ترجم هو شي من فيتنام الكتاب إلى اللغة الفيتنامية، واستفاد منه أيضًا.أما في الغرب، فقد كانت الاستفادة من الكتاب أكبر وأوسع، حيث أصبح محط شغف عجيب. السبب في ذلك يعود إلى أن الفكر الاستراتيجي الغربي كان يهيمن عليه المفكر العسكري الألماني كلاوزفيتس، الذي عاش في القرن التاسع عشر. فلسفة كلاوزفيتس الاستراتيجية تقوم على فكرة المصادمة المباشرة وضرب مراكز الثقل لدى العدو، أي ضرب مفاصل قوته في نقاط القوة لديه. بينما فلسفة سان تزو على العكس تمامًا، حيث تدعو إلى ضرب العدو في مفاصل ضعفه. ولذلك، كان المفكر العسكري البريطاني ليدل هارت هو أول من روّج لفكر سان تزو في الفلسفة السياسية والاستراتيجية الغربية.كان ليدل هارت، الذي كان ضابطًا في الحرب العالمية الأولى، قد شهد بنفسه الكوارث التي عاشتها الجيوش الأوروبية في تلك الحرب. فقد شهد معركة الخنادق الشهيرة على الجبهة الغربية بين ألمانيا وفرنسا، حيث فقد البريطانيون 60,000 جندي في يوم واحد فقط، في واحدة من أسوأ المذابح في تاريخ الحرب. حينها، اعتبر ليدل هارت أن هذا كان هدرًا فظيعًا لدماء الشباب الأوروبي. وقال إن الفكر الذي اعتمد عليه الجيش البريطاني، وهو فكر كلاوزفيتس، أدى إلى هذه الكوارث، وأنه لو كانت الجيوش قد استلهمت من أفكار سان تزو، لكانت الحرب قد أُدرِت بطريقة أكثر فاعلية وأقل تكلفة. وفي تقديمه لأحد الترجمات الإنجليزية لكتاب “فن الحرب” التي قام بها صام جريفيث، أشار ليدل هارت إلى أن الغرب كان في حاجة إلى أن يستلهم من الحكيم الصيني بدلاً من السير في الاتجاه الخاطئ الذي أدى إلى هدر ملايين الأرواح.

ذ. عبد الرحمن الناصر : وقد كانت بداية الترويج لفكر سان تزو في الثقافة الإنجليزية تعود إلى ليدل هارت. الآن، إذا كان بإمكانك أن تعطينا مثالاً على أحد المبادئ التي ذكرها سان تزو وكيف تم تطبيقه في إحدى الحروب الحديثة؟


آلة “إنجما” كانت عبارة عن جهاز تشفير واستقبال رسائل استخدمته ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية. كانت هذه الآلة تُعتقد بأنها غير قابلة للكسر، ولكن فريق من علماء التشفير في بريطانيا، بقيادة آلان تورينج، تمكنوا من فك شفرتها. هذا الاختراق كان له دور حاسم في انتصار الحلفاء في الحرب.

د. محمد المختار الشنقيطي : هذا الأمر أصبح الآن معترفًا به من قبل العديد من الباحثين العراقيين، ومنهم اللواء نزار الخزرجي، الذي كان قائدًا لأركان الجيش العراقي. في مذكراته، يقول بشكل صريح إنه تم العبث بمصير البلدين والشعبين في هذه الحرب العدميّة. من بين المبادئ المستخلصة من كتاب “فن الحرب” والتي عبرت عنها بعبارة “تقبّل الخسائر المحسوبة”، نجد أن من أراد أن يكسب كل شيء، لن يكسب شيئًا في النهاية. الحرب والصراعات بشكل عام، سواء كانت في الحرب أو في السياسة أو المال أو حتى في الثقافة، لا يمكن أن تكسب بدون ثمن. من الضروري تقبل الخسائر المحسوبة لتحقيق المكاسب الكبيرة. في التاريخ، هناك مثال طريف على هذا، وهو عندما اكتشف البريطانيون آلة الشيفرة الألمانية المعروفة باسم “الإنجما“. كانت هذه الآلة بمثابة مكسب هائل للمصلحة البريطانية وللحلفاء ضد الألمان، وكان البريطانيون مستعدين لدفع أي ثمن للحفاظ على سرية هذا الاكتشاف. إذ كانت هذه الآلة تساعدهم على اعتراض وكشف جميع المحادثات الألمانية، بما في ذلك أوامر قادة الجيش الألماني، مما كان من شأنه أن يقلب الموازين لصالحهم.

النموذج العسكري من آلة إنجما I، وُضعِ بالاستعمال بدءًا من 1930م.

لكن البريطانيين لم يكونوا مستعدين لكشف هذا السر بأي ثمن. أحد الباحثين الذين كتبوا عن قضية “الإنجما” يقول إن هذا السر كان أهم سر في الحرب العالمية الثانية بعد القنبلة النووية. في إحدى المرات، استمع البريطانيون إلى قادة الألمان وهم يخططون لتدمير أسطول بريطاني كان يحمل السلاح إلى الاتحاد السوفيتي، الذي كان متحالفًا مع الغرب ضد النازية. كان هذا الأسطول يعبر بحر الشمال متجهًا إلى الاتحاد السوفيتي، ويحمل كميات كبيرة من الأسلحة. وبعد التحقق من المحادثات الألمانية، تأكد البريطانيون من أن الألمان كانوا يخططون لتدمير الأسطول. ومع ذلك، قرر البريطانيون أن يدعوا الأسطول يذهب إلى داهية من أجل الحفاظ على سرهم، وبذلك خسروا الأسطول ولكنه كان ثمنًا محسوبًا لصالح مكاسب أكبر. كانت تلك خسارة هائلة لهم بشريًا وإنسانيًا، وكذلك كانت خسارة كبيرة للسوفييت من حيث كمية العتاد.

هذا مثال على “تقبّل الخسائر المحسوبة”، وهو مبدأ مهم من مبادئ سان تزو. هنالك مبدأ آخر ذكرته في نهاية الدراسة وهو “قاتل بسيف مستعار”. في الواقع، هذا المبدأ ليس من كتاب سان تزو، وإنما من وثيقة صينية أخرى تُسمى “الاستراتيجيات الـ36″، وهي نص آخر يؤثر في الفكر العسكري الصيني. وهذه الوثيقة ليست الوحيدة التي تؤثر في الفكر العسكري الصيني، بل توجد نصوص أخرى مشابهة. تُعد “الاستراتيجيات الـ36” قواعد عسكرية تتكون من 36 قاعدة قصيرة، كانت تُدرس في الأكاديميات العسكرية الصينية منذ القرن السادس الميلادي. ويُحتمل أن تكون هذه الوثيقة قد تأثرت بكتاب سان تزو أيضًا.

إحدى القواعد في هذه الوثيقة تقول “اقتُل بسيف مستعار”، وقد قمت بتلطيف العبارة وجعلتها “قاتل”. والمقصود منها هو أنه يمكن للمرء أن يستثمر قوة الآخرين لمصلحته. في الحرب والسياسة والمال، لا يمكن للمرء أن يعتمد فقط على قوته الذاتية، بل يجب أن يستفيد من قوة الآخرين سواء من خلال التحالفات أو بطرق أخرى مشروعة. على سبيل المثال، كان التحالف بين الغرب والاتحاد السوفيتي ضد النازية في الحرب العالمية الثانية مثالًا على بناء تحالفات رغم التناقضات الأيديولوجية. وفي المقابل، يتقن الأمريكيون كثيرًا استخدام طرف ثالث بشكل غير مباشر، أي أن يستخدموا طرفًا في الصراع دون أن يدرك ذلك الطرف.

مثال على ذلك هو الحرب العراقية الإيرانية. حينما سُئل هنري كيسنجر في عام 1986 عن الاستراتيجية الأمريكية تجاه هذه الحرب، قال إن الاستراتيجية هي “خسارة الطرفين”. فقد كانت الولايات المتحدة تغذي الطرفين وتزود كلًا من العراق وإيران بالأسلحة، وتبيع لهما المعلومات الاستخباراتية من خلال وسطاء أوروبيين. كان الهدف هو استنزاف الطرفين وتدمير قوتهم. وكان هذا من نوع “القتال بسيف مستعار”، وهو تطبيق حقيقي لأحد المبادئ الصينية.

حرب الخليج الأولى أو الحرب العراقية الإيرانية : ثمان سنوات من حدب دامية حرض عليها الغرب بكل ما أوتي من قوة لتدمير دولتين كبيرتين ايران و العراق

في الحرب الباردة، لم يتقاتل الجنود الأمريكيون والروس وجهًا لوجه طوال 40 عامًا، ولكنهم استخدموا “السيوف المستعارة” من خلال دماء الشعوب الأخرى في مناطق مثل آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

ذ. عبد الرحمن الناصر : وأنت تذكر أن الأمريكيين مولعون بنصوص سان تزو، يبدو أن لديهم اهتمامًا كبيرًا بتطبيق مبادئه في صراعهم مع السوفييت. على سبيل المثال، قد تكون استراتيجيتهم في تدمير الاتحاد السوفيتي قد اعتمدت على الاستراتيجية التي ذكرها سان تزو، حيث تجنبوا الصراع المباشر مع السوفييت وفضلوا الاستنزاف والالتفاف.

د. محمد المختار الشنقيطي : نعم، هذا صحيح تمامًا. الأمريكيون طبقوا مبادئ سان تزو في استراتيجيتهم ضد الاتحاد السوفيتي. حيث استنزفوا السوفييت عن طريق الضغط العسكري في العديد من الجبهات المختلفة، وهو ما أدى في النهاية إلى انهيار الإمبراطورية السوفيتية. وهذا يتوافق تمامًا مع فلسفة سان تزو التي تعتمد على “الاستنزاف” بدلاً من “المصادمة المباشرة”.

ذ. عبد الرحمن الناصر : وأثناء حديثنا عن نص له 23 قرنًا، يتساءل البعض: هل يوجد في التراث العربي نصوص مشابهة في الاستراتيجية العسكرية؟ لأن السائد في التراث العربي هو الفلسفة وعلم الكلام والفقه، فهل لدينا نصوص استراتيجية أو في فنون الحرب في التراث العربي؟

د. محمد المختار الشنقيطي : نعم، يوجد بالفعل، ولكن للأسف لم يتم الاستمرار في هذه النصوص بما يكفي. من بين أهم الكتب التي استفدت منها في دراستي هو كتاب “الهرمي” عن مختصر تدبير الحروب.

الهرثمي عاش في القرن الثالث الهجري، أي في بدايات الدولة العباسية في عصر المأمون، وكتابُه يشبه كثيرًا كتاب “فن الحرب” لسان تزو، من حيث أنه كتاب قصير وجيز يتضمن جملًا مكثفة. يمكننا أن نقول إنه يشبه بين الشعر والنذر كما وصف هنري كسنجر كتاب سان تزو. يتحدث الكتاب عن الاستراتيجية بشكل عام، ولا يهتم كثيرًا بالتفاصيل الفنية بقدر ما يهتم بالمبادئ الاستراتيجية. يُعد هذا الكتاب من الكتب الثمينة جدًا، وقد أشرت في دراستي إلى العديد من أوجه التشابه بينه وبين كتاب سان تزو.

تُوجد كتب أخرى تناولت هذا الموضوع، ومن بين الباحثين العسكريين الذين درسوا التراث العسكري الإسلامي هو اللواء الركن محمود شيت خطاب، الجنرال العراقي الشهير. كتب محمود شيت خطاب العديد من الكتب في التاريخ العسكري الإسلامي، مثل “النبي القائد”، “فتوح مصر”، “فتوح الشام”، “فتوح المغرب العربي”، و”فتوح بلاد فارس”. وقد قام بعمل دراسة عميقة وشاملة للتراث العسكري الإسلامي، حيث صنف 18 نوعًا من الكتب التي تناولت موضوعات متنوعة مثل الأسلحة، الحصون، التكتيك، والاستراتيجية، بالإضافة إلى كتب تدبير الحروب، التي يمكن اعتبارها دراسات استراتيجية وفق المفهوم الحديث.

هذا التراث العسكري الإسلامي يستحق الاهتمام، وينبغي أن نستفيد منه كما استفدنا من “فن الحرب”. أعتقد أنه من المهم أن نعيد النظر في هذا التراث العسكري ونعمل على استثماره.

ذ. عبد الرحمن الناصر : بالعودة إلى الصين، تحدثنا سابقًا عن كتاب “فن الحرب” وأثره في الأكاديميات العسكرية حول العالم، وليس فقط في الصين. إذا اعتبرنا أن كتاب “فن الحرب” هو أحد الكتب المؤسِسة للاستراتيجية الصينية عمومًا، فما هو أثر هذا الكتاب على الاستراتيجية الصينية الخارجية اليوم؟ كيف يمكننا رؤية أثر “فن الحرب” في السياسة الخارجية الصينية؟

د. محمد المختار الشنقيطي : بلا شك، يعد كتاب سان تزو جزءًا مهمًا من جذور الصين المعاصرة. هذا أمر لا يخفى على أي دارس لواقع الصين اليوم. على سبيل المثال، في كتاب هنري كيسنجر عن الصين، والذي يحمل عنوان “عن الصين”، خصص كيسنجر فصلًا كاملاً عن “الواقعية السياسية الصينية” وذكر فيه تأثير كتاب “فن الحرب” على عقلية القيادة الصينية. لقد ربط كيسنجر بين الفكر السياسي الصيني والواقعية السياسية التي تميز بها الشيوعيون الصينيون عن الشيوعيين السوفيت، مشيرًا إلى أن فهم طريق تفكير الصين في الستينيات والسبعينيات لا يمكن أن يتم دون فهم كتاب سان تزو. وذكر كيسنجر أن هذا الكتاب كان مصدر إلهام للمسؤولين الصينيين في تلك الفترة.

تتبع الصين نهجًا استراتيجيًا قائمًا على الصبر والتخطيط بعيد المدى، كما أوصى سان تزو.
فهي لا تدخل الصراعات إلا حين تضمن الظروف الملائمة، كما هو الحال في تعاملها مع قضية تايوان. وقد نجحت في استرجاع هونغ كونغ من بريطانيا دون حرب، بعد نحو قرن من الانتظار المدروس.

أما بالنسبة لماو تسي تونغ، فقد كان هو وأتباعه يعتبرون كتاب “فن الحرب” بمثابة “إنجيل” لهم، كما ذكر أحد الباحثين الأمريكيين الذين درسوا فكر ماو. كانوا يتعاملون مع الكتاب كما لو أنه كتاب مقدس، حيث كانوا يدرسون فصوله ويحفظونها عن ظهر قلب. وقد ذكر أحد الأدميرالات اليابانيين المعاصرين، الذي كان مهتمًا بالدراسات الصينية، أنه عندما كان يلتقي بالقادة العسكريين الصينيين، كان يلاحظ أنهم يعرفون فقرات من كتاب سان تزو عن ظهر قلب.

إذا نظرنا إلى الاستراتيجية الصينية على الأرض، سنرى أن مبادئ سان تزو لا تزال حية في عقلية القيادة الصينية. على سبيل المثال، مبدأ “اختيار الحرب بعناية” يتجسد في السياسة الصينية اليوم، حيث تتمتع الصين بصبر استراتيجي كبير. الصين حريصة جدًا في تحديد متى وكيف تخوض الصراعات. أكبر قضية حساسة بالنسبة للصين هي قضية تايوان، التي تعتبرها جزءًا من أراضيها منذ عام 1949. لكن الصين ليست في عجلة من أمرها لتحقيق هدفها، بل تنتظر بهدوء حتى تتحقق الظروف المناسبة، دون أن تدفع أثمانًا فادحة. على سبيل المثال، استردت الصين هونغ كونغ من بريطانيا بدون خوض حرب، وذلك بعد 99 عامًا من الانتظار. كانت هذه خطوة مدروسة بعناية، رغم التوترات التاريخية مع البريطانيين.

هذه العقلية الهادئة والمنهجية في اتخاذ القرارات تُظهر بصمة سان تزو في السياسة الصينية المعاصرة. ما يسمى بـ “التحليل بدم بارد” هو جزء أساسي من هذا الفكر الاستراتيجي. الصين تتعامل مع التحديات الدولية بعقلية استراتيجية بعيدة المدى، ولا تندفع باتجاه الحلول العاجلة.

ذ. عبد الرحمن الناصر : نصل الآن إلى جوهر السؤال.: هل لا تزال الصين تلتزم بهذه القيم التقليدية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية حتى عام 2025؟ هل هناك تحول في استراتيجيتها في التعامل مع الخارج؟

د. محمد المختار الشنقيطي : من الواضح أن الصين لا تزال ملتزمة إلى حد بعيد بفلسفة سان تزو في سياساتها الخارجية، رغم التغيرات في الخطاب السياسي في السنوات الأخيرة. الصين تتبع الاستراتيجية التي تعتمد على التحليل البارد والانتظار لتحقيق أهدافها بأقل تكلفة، وهذا يمثل استمرارًا للفكر الاستراتيجي الذي بدأه سان تزو منذ قرون.

ذ. عبد الرحمن الناصر : كيف أن الصين، بطبيعة الحال، لا تزال ملتزمة بفلسفة سان تزو، من حيث المكاسب المتراكمة، الصبر الاستراتيجي، رفض الاستفزاز، وعدم الدخول في الحروب قبل أوانها؟

د. محمد المختار الشنقيطي : هذا كله واضح في مسار الثورة الصامتة التي يمكننا تسميتها كذلك. في الداخل الصيني، على سبيل المثال، ماذا فعل “دينغ شياو بينغ” في الثمانينيات عندما فشل المسار الشيوعي الاقتصادي وفشلت الثورة الثقافية التي قام بها ماو في بداية السبعينيات؟ جاء “دينغ شياو بينغ” بفلسفة مختلفة تمامًا. قرر أن يحول الصين إلى أكبر دولة رأسمالية تحت الشعارات الشيوعية، حيث كانت الرايات الحمراء للحزب الشيوعي وصورة ماو وكل شيء محترم ومقدس، لكنه في الواقع كان يعمل نقيض ذلك تمامًا على الأرض. هذا يمكن أن يُعتبر جزءًا من فلسفة سان تزو، حيث أن الجوهر هو الأهم، ولا يحتاج المرء إلى صدام مع البنى الفوقية السائدة أو مع الشعارات التي تحيط به. إذا كنت تحقق ما تسعى إليه في الجوهر، فلا حاجة للصدام العلني. الصين، على الرغم من حفاظها على الواجهة الشيوعية، عملت في الداخل بطرق تتناقض مع هذه الواجهة، واعتبرت أن الأهم هو تحقيق الأهداف بعيدًا عن الصدام الظاهر مع النظام القائم.

إن الصين، رغم التغيرات في الخطاب السياسي على المستوى الرسمي، لا تزال ملتزمة داخليًا وخارجيًا بفلسفة سان تزو. ولكن في السنوات الأخيرة، ومع تولي “شي جين بينغ” الرئاسة، أصبح من الواضح أن الصين بدأت تُعبّر علنًا عن قوتها الذاتية وتتنافس بشكل أكبر مع خصمها التقليدي، وهو الولايات المتحدة. في الماضي، كانت الصين تتجنب المجاملات مع القوى السائدة، لكن بعض الباحثين الذين درسوا الصين يقولون إن “شي” ربما شعر أن الصين قد أكملت بناء قوتها ولم تعد بحاجة إلى المجاملات أو الانحناء أمام القوى السائدة. الرئيس الحالي يبدو أكثر تحديًا ولا يخشى إظهار قوة الصين أمام العالم.

ومع ذلك، رغم ذلك التحول في الخطاب، لا تزال الصين تمارس سياسات تلتزم بالحذر في التعامل مع الغرب. الصين لم تتحدى الغرب في قضية تايوان ولم تدخل في حروب تجارية مع الغرب، بل تسير في أمورها بشكل تدريجي لتجنب المواجهات المباشرة. أعتقد أن في النهاية، ستُظهر الصين قوتها بالكامل، ولكن على مهل، دون أن تخوض صراعات سابقة لأوانها. أما في مجال الخطاب، فقد أصبح هناك تحول في اتجاهات “شي” نحو إعلان الصين كقوة صاعدة على المسرح الدولي، وتأكيد مكانتها كقوة دولية لا يمكن تجاهلها. ولكن في الواقع، على الأرض، الصين لا تزال تسير بخطى ثابتة نحو أهدافها بأقل تكلفة، حسب مبادئ سان تزو.

ذ. عبد الرحمن الناصر : السؤال الأهم: دكتور : هل الصين ستصبح القوة الصاعدة بشكل حاسم؟

د. محمد المختار الشنقيطي : من حيث الإجماع بين الباحثين، سواء كانوا من أصدقاء الصين أو خصومها، هي نعم. الصين هي القوة الصاعدة، ولكن السؤال الذي يثير جدلًا هو ما إذا كانت هذه القوة ستأتي بصدام مع الولايات المتحدة أو ستظل تسير في مسار غير صدامي. الصين تُقدم نفسها، حتى في ظل الخطاب المتصاعد، على أنها قوة لا تهدد القوى الدولية الأخرى، وأن صعودها ليس تهديدًا لأحد، بل هو محاولة لتحقيق توازن في النظام الدولي.

الصينيون لا يسعون ليحلوا محل القوى السائدة، بل يعتقدون أن التوازن في النظام الدولي قد اختل، وأن صعودهم سيساهم في تصحيح هذا الاختلال، مما يضمن السلام العالمي والتجارة السوية بين الشعوب. هم يعتقدون أن هذا النهج سيعود بالفائدة على النظام الدولي ويؤدي إلى علاقات أكثر توازنًا، مقارنةً بالهيمنة الغربية الحالية.

هذا الخطاب الذي يروج له بعض الكتاب الصينيين، والذين قرأت لهم، يعكس رؤية واضحة من جانبهم. بينما البعض الآخر أصبح يعلن عن وجهته بشكل أكثر صراحة. على سبيل المثال، “مينفو” صاحب كتاب “الحلم الصيني” الذي اقتبسته في دراستي، يكشف عن الأمر بشكل واضح ويتحدث عن “عصر ما بعد أمريكا” أو “عالم ما بعد أمريكا” بشكل صريح، قائلاً: “نعم، نحن سنصبح سادة العالم، سواء أحببتم أم كرهتم، ما عليكم إلا التكيف مع ذلك”. يبدو أن هذه الرؤية تدل على اعتقاد راسخ بأن الصين ستصبح القوة العالمية المتصدرة، وأن هيمنة الغرب على العالم التي استمرت لأكثر من خمسة قرون قد انتهت. ويُظهر هذا بوضوح التوجه القوي نحو الوطنية الصينية، التي تعتبر أقوى من الإيديولوجيا الشيوعية ذاتها.

وهناك عدد من الكتاب الصينيين الذين لا يترددون في التصريح بأن الصين هي القوة الصاعدة وأنها ستصبح سيدة العالم في المستقبل. وهذا التصريح يشير إلى أن الصين لا تعترف بمكانة الغرب السائدة في النظام الدولي، وأن دورها قد حان. بل هناك أيضًا مفكرون آسيويون غير صينيين يؤمنون بصعود الصين، مثل المفكر السنغافوري “كشور محبوباني” الذي كتب عدة كتب حول صعود الصين، ومن أبرز كتبه “القرن الآسيوي” و”هل فازت الصين؟”. على الرغم من أنه ليس صينيًا، بل من أصل هندي في سنغافورة، إلا أنه يبشر بصعود آسيا، وبالأخص الصين على حساب الغرب.

من جهة أخرى، هناك من يرى أن الصراع بين الصين وأمريكا أمر حتمي. من بين أبرز المنظرين لهذه الفكرة هو جراهام أليسون، عالم السياسة الأمريكي صاحب كتاب “الحرب حتمية” الذي يرى أن التصادم بين الصين وأمريكا مقدر له أن يحدث. بالإضافة إلى ذلك، هناك الدكتور جون ميرشايمر الذي يتحدث عن “العاصفة الصينية المتحفزة” في دراساته، حيث يعتقد أن التصادم بين الصين وأمريكا قد لا يكون عسكريًا، ولكن من المحتمل أن يكون صراعًا باردًا في أقل تقدير. بينما يوجد آخرون مثل كافين رود، رئيس وزراء أستراليا السابق، الذي يعارض هذه الفكرة في كتابه “الحرب غير الحتمية”. يرى رود أن الصراع ليس حتميًا وأنه يمكن التوصل إلى التعايش وتقاسم المصالح بين القوى الكبرى.

ومع ذلك، ما لا يختلف فيه جميع هؤلاء الباحثين الجادين هو أن الصين هي القوة الدولية التي ستتصدر المشهد العالمي في السنوات القليلة القادمة. قد يتراوح ذلك بين ثلاث إلى تسع سنوات، كما ورد في القرآن الكريم: “غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع السنين”، ويُفسر علماء اللغة العربية كلمة “بضع” بأنها تتراوح من ثلاثة إلى تسعة سنوات. وبناءً على ذلك، يبدو أن الصين، بالفعل، ستتصدر المشهد الدولي في هذا الإطار الزمني.

ذ. عبد الرحمن الناصر : كيف ينظر المفكرون الاستراتيجيون الصينيون لهذا التصدر؟ هل سيكونون الرقم واحد في العالم أم سيظلون الرقم اثنين، يتشاركون القيادة مع أمريكا؟ هناك تقاطع مصالح بين الصين وأمريكا في بعض المجالات، إضافة إلى قضايا غير محلولة. كيف يراهم المفكرون الصينيون؟ هل يتوقعون تصادمًا مع أمريكا أم أن ذلك لن يحدث؟ وهل سيبقى الصينيون رقم اثنين؟

د. محمد المختار الشنقيطي : في الواقع، يبدو أن هناك فرقًا بين الخطاب الداخلي والخارجي للصين. في الخطاب الخارجي، الذي غالبًا ما يُكتب باللغات الأوروبية، تحاول الصين طمأنة العالم بأنها لا تشكل تهديدًا وأنها تسعى لتقاسم المصالح مع الدول الأخرى. لكن في بعض الكتابات، حتى باللغة الإنجليزية، يقول البعض صراحة: “ليس أمامكم إلا قبول أن الصين هي القوة الدولية الأولى في المستقبل القريب، فأنتم لا تملكون خيارًا سوى التكيف مع هذا الواقع”. يبدو أن هذا هو الاتجاه الصيني الحالي.

من المعروف أن استراتيجية الصين في صعودها تعتمد على “إزاحة أمريكا” من قمة النظام الدولي، وهو ما يُسمى “استراتيجية الإزاحة”. وأعتقد أن هذه هي الاستراتيجية الصينية الفعلية، حيث تسعى الصين لتحقيق أهدافها بأسرع وقت وأقل تكلفة، وهو ما يمثل جوهر الحكمة الصينية التقليدية، حيث يرغب الصينيون في تحقيق أهدافهم بأقل التكاليف وأسرع الطرق، دون الحاجة إلى خوض صراعات مكلفة.

الأمريكيون أيضًا يوافقون على هذا الرأي. فهناك من الكتاب الأمريكيين الذين يقولون إن الصين لديها ما يسمى “استراتيجية الإزاحة”، أي أنها تسعى لإزاحة الولايات المتحدة من قمة النظام الدولي وحلولها محلها. أعتقد أن هذه هي الاستراتيجية الصينية الفعلية، وكعادة الصينيين، يسعون لتحقيق أهدافهم في أسرع وقت وأقل تكلفة. وهذه هي الحكمة الصينية الحقيقية التي تستحق أن نتوقف عندها ونتعلم منها، فهم يريدون تحقيق أهدافهم بأسرع وقت وأقل الطرق كلفة، حتى وإن كان الطريق طويلًا، المهم أن يكون الثمن منخفضًا. الصين لا ترغب في دفع أثمان باهظة لأهدافها، لكنها في الوقت نفسه لن تتنازل عن هذه الأهداف.

ومن المثير أنني أتذكر إحدى قواعد “فن الحرب” لسان تزو، وهي “كن كالماء”. هذه القاعدة تمثل جوهر الكتاب، حيث يشبّه سان تزو الجيوش بالماء. إذا اعترضت صخرة طريق الماء، فإنه لا يعاندها، بل يلتف حولها. كما أن الماء لا يصادم العقبات بعناد، بل يلتف حولها. وكذلك الجيوش، يجب أن تضرب العدو في نقاط ضعفه، لا في نقاط قوته، على عكس ما يفعله المفكر العسكري كلاوزفيتس، الذي يرى ضرورة ضرب مراكز القوة. في هذا السياق، يجب أن يكون الهجوم على نقاط الضعف، مما يؤدي إلى خلخلة نظام العدو بأكمله.

الصينيون يتبعون هذا المبدأ تمامًا، حيث يتجنبون المواجهات المباشرة، بل يحققون أهدافهم من خلال التحركات الذكية. إذا نظرنا إلى استراتيجيات الصين في السنوات الأخيرة، سنجد أنها تتوسع ببطء ولكن بثبات، كالماء الذي ينساب ويتدفق عبر الأرض. الصين تتوسع في الشمال والجنوب، وتخترق أيضًا من الوسط. على سبيل المثال، استثمرت الصين في المنطقة القطبية الشمالية وراء روسيا، كما توجهت إلى بحر الشمال وبحر الصين الجنوبي، وتستثمر في المحيط الهادئ، وكذلك في دول آسيا الوسطى. هذه الدول أصبحت الآن تحت الهيمنة الصينية بعد انشغال بوتين في الحرب بأوكرانيا.

عقل الصين الاستراتيجي مرن للغاية، فهو يتجنب الصدام المباشر ويحقق أهدافه بطرق غير مباشرة، وهو ما يستند إلى مبدأ “المقاربة غير المباشرة” التي اشتهر بها المفكر العسكري البريطاني ليدل هارت. هذه الاستراتيجية، التي استلهمها ليدل هارت من “فن الحرب” لسان تزو، هي المبدأ الذي يتبعه الصينيون في تحركاتهم على الساحة الدولية.

ذ. عبد الرحمن الناصر : ما يميز الولايات المتحدة عن الصين في هذا السياق؟

د. محمد المختار الشنقيطي : بالنسبة للصراع بين الصين وأمريكا، قد يكون هناك تدافع بين الطرفين، ولكن ما يميز الولايات المتحدة عن الصين هو موقعهاما يميز الولايات المتحدة عن الصين  الجغرافي المحصن. أمريكا محمية بمحيطين، واحد على اليمين وآخر على اليسار، وكذلك جيرانها في الشمال (كندا) والجنوب (المكسيك ودول أمريكا اللاتينية) ليسوا من القوى التي تشكل تهديدًا كبيرًا. هذه الحصانة الجغرافية أعطت أمريكا ميزة كبيرة. في المقابل، الصين لا تملك هذه الحصانة الجغرافية. لديها حدود طويلة مع روسيا، الهند، واليابان، وهي في منطقة مشتعلة من التوترات الجغرافية، خاصة مع الدول النووية التي تتشارك معها في الحدود.

هذا كله يشير إلى أن الصين تسعى لتعزيز قوتها من خلال تحركات استراتيجية في المنطقة، وخاصة في آسيا. بينما أمريكا تمتلك ميزة جغرافية واضحة، فإن الصين في وضع أكثر تحديًا بسبب محيطها المليء بالقوى الكبيرة التي تشترك معها في المصالح والمنافسة.

في هذا العالم الآسيوي المشتعل، تواجه الصين تحديات كبيرة. فالصين، أولًا، تتعامل مع منافسين كبار في هذا السياق مثل روسيا والهند واليابان وباكستان، وهذه الدول جميعها تُعتبر دولًا نووية وصاعدة، مما يعني أنها ليست دولًا خاملة أو بسيطة. على عكس أمريكا، التي لا تجد منافسين جادين في محيطها الجغرافي، حيث تتمتع بحصانة جغرافية فريدة. فبحكم موقعها الجغرافي، تحميها المحيطات من الشرق والغرب، ولديها جيران ضعفاء في الشمال (كندا) وفي الجنوب (المكسيك ودول أمريكا اللاتينية). كما يقول أحد علماء الجغرافيا السياسية الأمريكيين، “لدينا الكنديين والمكسيكيين الطيبين، ولدينا الأسماك في المحيطين”، ما يعني أنهم لا يواجهون أي تهديد جاد من محيطهم الجغرافي.

من حسن حظ الصين أن الولايات المتحدة اليوم تتبع المدرسة الانعزالية، مما يتيح للصين الفرصة للتوسع في آسيائها دون منافسة مباشرة من الولايات المتحدة. ولكن الصين لا تتمتع بنفس الحصانة الجغرافية التي تتمتع بها الولايات المتحدة. الصين محاطة بالعديد من القوى الكبرى مثل روسيا التي تشترك معها في حدود تزيد عن 4000 كيلو متر، ما يخلق تحديًا كبيرًا. كما أن هناك خلافات حدودية مع الهند في مناطق جبال الهملايا، بالإضافة إلى اليابان التي تعتبر عدوًا تاريخيًا للصين. وتذكر الصين جيدًا “قرن المهانة” الذي عانت فيه من الاستعمار الياباني والبريطاني، وهو جرح عميق في الذاكرة الوطنية الصينية.

إضافة إلى ذلك، هناك منافسة شديدة مع الهند، وهي دولة معقدة جغرافيًا وثقافيًا. الهند تقع جغرافيًا في آسيا، على حدود الصين وباكستان، وهي جزء من العالم الإسلامي تاريخيًا، لكن في الوقت نفسه، هي غربية في هويتها الثقافية والعاطفية. الهند تتنافس مع الصين، ولا سيما في القضايا الاستراتيجية، مثل النزاع على كشمير الذي يقف حائلًا أمام تطور علاقاتهما.

ومن حسن حظ الصين أن روسيا تواجه عزلة عن الغرب بسبب نزاعها مع أمريكا وحلفائها، مما دفعها إلى التقارب مع الصين. ولكن هناك تحديات أخرى تتعلق بالصراعات الجغرافية والسياسية داخل آسيا، مما يجعل الوضع معقدًا بالنسبة للصين.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، إذا قررت الانكفاء على نفسها، فهي لن تخسر شيئًا كبيرًا من قوتها الداخلية أو كياناتها. لكنها لن تستطيع الاستمرار في الهيمنة العالمية دون وجود حوافز واضحة لها، في حين أن الصين لا تملك خيارًا سوى التفاعل مع هذه القوى الكبرى، وذلك بحكم واقعها الجغرافي.

ذ. عبد الرحمن الناصر : ماهي التحديات التي تواجه الصين في المستقبل؟

د. محمد المختار الشنقيطي : التحدي الأكبر هو النظام السياسي المغلق، وهو ما يجعلها أقل مرونة. النظام الصيني يحقق نجاحات كبيرة في المجالات الاقتصادية والعسكرية، لكن هناك صراع داخلي قد ينشأ بين الدعوة للديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة، والدعوة للتمسك بالحزب الواحد من جهة أخرى. ورغم النجاح الذي حققه النظام الصيني، إلا أن الشعب الصيني قد يطالب بمزيد من الحريات مع تزايد تفاعله مع العالم الخارجي.

الصين، التي تُعد أكبر مصدر عالمي اليوم، تواجه أيضا تحديًا كبيرًا من حيث المخاطر الجغرافية الاستراتيجية، حيث تمر جميع صادراتها عبر مضايق مهمة مثل مضيق ملقا بين سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، بالإضافة إلى مضيق باب المندب وقناة السويس. هذه المضايق لا تزال تحت النفوذ الغربي، وهو ما يُعد نقطة ضعف كبيرة للصين. ولذلك، تسعى الصين إلى التوسع في بحر الصين الجنوبي لتخفف عن نفسها هذه القيود الجغرافية، وتبني جسورًا جديدة لها في الشرق الأوسط لضمان عدم استخدام المضايق ضدها. وهذا يفسر استراتيجيتها في استحواذ ميناء جوادر في باكستان، الذي يطل على بحر العرب، وكذلك بناء قاعدة عسكرية في جيبوتي بالقرب من باب المندب، وتوقيع اتفاقيات شراكة استراتيجية مع إيران. تلك التوسعات تهدف إلى تأمين وجودها في الخليج، الذي يعد ذا أهمية كبيرة للصين حيث تستورد 50% من احتياجاتها النفطية من دول الخليج، مثل السعودية وإيران.

ورغم التحديات الكبرى التي تواجهها الصين، فإنها تدير هذه التحديات بنجاح بفضل العقل السياسي والاستراتيجي العميق الذي تعتمد عليه، وهو نفس النهج الذي يمثله “سان تزو” وأمثاله من المفكرين العسكريين الصينيين. بالنظر إلى الصراعات في آسيا، من المحتمل أن تكون روسيا حليفًا استراتيجيًا للصين، لكن هذا الحلف سيكون حلفًا ضروريًا وليس وجوديًا. من المستبعد أن تقبل أوروبا بروسيا كدولة أوروبية بسبب حجمها، وإذا تم قبولها في الاتحاد الأوروبي، ستصبح هي الدولة المهيمنة، مما سيؤدي إلى فقدان دور كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وبالتالي، ستظل الحواجز قائمة بين روسيا وبقية الأوروبيين، مما يدفع روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع الصين.

ذ. عبد الرحمن الناصر : هلا تتحدث لنا بالمناسبة عن الصراع بين الصين والهند واستفادة باكستان منه؟

د. محمد المختار الشنقيطي : فيما يتعلق بالصراع بين الصين والهند، فهو يتجلى أساسًا في التوترات الحدودية، خاصة في مناطق مثل أروناتشال براديش وأكساي تشين. أما النزاع حول كشمير، فهو في الأساس بين الهند وباكستان منذ تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947. تُعد كشمير ذات أغلبية مسلمة، وقد شكلت نقطة توتر كبرى، نظرًا لاختلاف الرؤى حول تبعيتها. وتبرز أهمية الإقليم في موقعه الاستراتيجي، إذ يقع على تقاطع حدود ثلاث قوى نووية: الصين، والهند، وباكستان. كما أن كشمير تمثل مصدرًا حيويًا للمياه، نظرًا لمرور نهر السند عبرها، وهو ما جعل الأمن المائي جزءًا من النزاع الجيوسياسي القائم.

ورغم هذا التوتر، من حسن حظ باكستان أن الصين دخلت على الخط، حيث أصبحت حليفًا استراتيجيًا لها في هذا النزاع، مما منحها الحماية ضد الهند. وبالمقابل، الصين التي تسعى لتوسيع نفوذها في أسيا الوسطى ترى في كشمير نقطة جغرافية مهمة تسهل اتصالها بمنطقة آسيا الوسطى، حيث تقع خمس دول لها حدود مباشرة معها. هذا التوسع يعطي الصين منفذًا هامًا في المنطقة ويعزز من قوتها الاستراتيجية. لذلك، كان من الحكمة السياسية لباكستان أن تتنازل عن جزء صغير من كشمير للهند، خصوصًا أن هذا الجزء لا يضم العديد من السكان المسلمين، في مقابل أن تظل الصين حليفًا عسكريًا واستراتيجيًا لباكستان، مما يضمن لها الحماية في مواجهة الهند.

الصين الآن تتمدد في آسيا الوسطى بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي، وهي تعتبر هذا التوسع جزءًا من استراتيجيتها الشاملة للتعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، معتمدة على النهج الحذر والمرن الذي يعكس استراتيجية “سان تزو” في فن الحرب.

تتمثل أهمية المنطقة بين الصين وباكستان وأفغانستان في أنها تمثل نقطة جغرافية استراتيجية واقتصادية هامة، سواء من حيث الجغرافيا السياسية أو من حيث الموارد الطبيعية، خصوصًا فيما يتعلق بقضية المياه. الصين، باعتبارها قوة صاعدة، تسعى لتوسيع نفوذها في المنطقة، وذلك لكونها في حاجة ماسة إلى الطاقة، خصوصًا النفط والغاز، كما أن لديها ارتباطات في المضايق البحرية التي تمر عبرها تجارتها، مثل مضيق ملقا ومضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس.

الغربيون، خاصة الأمريكيون، يشعرون بقلق عميق حيال هذا التوسع الصيني، ويخشون من ظهور محور استراتيجي يربط بين الصين والعالم الإسلامي، وهو ما عبر عنه صام هانتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” في عام 1996، حيث أشار إلى أن الصراع القادم سيكون بين الحضارات الدينية والثقافية. هذا القلق دفع الولايات المتحدة إلى تعزيز علاقتها مع دول أخرى مثل الهند وكوريا واليابان، بالإضافة إلى محاولة بناء تحالفات مع أستراليا ونيوزيلندا لتطويق الصين.

من جهة أخرى، الصين تسعى إلى توثيق علاقاتها مع العالم العربي والعالم الإسلامي، حيث تتمتع هذه المنطقة بموارد طاقة ضخمة تحتاج إليها الصين. على سبيل المثال، السعودية تعد شريكًا اقتصاديًا كبيرًا للصين، حيث تستورد الصين حوالي 47% من احتياجاتها النفطية من المملكة. الصين تركز على تعزيز علاقاتها مع دول آسيا الوسطى والإسلامية مثل باكستان وأفغانستان، حيث تقوم بإعادة إعمار أفغانستان وتستفيد من المعادن الثمينة فيها، بينما تواصل تمددها في البحر الجنوبي للصين، مع تعزيز علاقاتها مع الدول مثل إندونيسيا وماليزيا وبروناي.

ذ. عبد الرحمن الناصر : هذا التعاون الصيني مع العالم العربي والإسلامي يسهم في إيجاد أرضية مشتركة، مما يعزز المصلحة المشتركة بين الصين ودول المنطقة في المستقبل القريب، ويعكس بشكلٍ عام سياسة الصين في التوسع الاستراتيجي بشكل هادئ ومدروس.

د. محمد المختار الشنقيطي : أعتقد أن المصالح الصينية في منطقتنا تتزايد، ومصلحتنا نحن أيضًا تكمن في التفاهم مع الصين، فهذا سيكون أكثر فائدة لنا. في حال حدوث تفاهم بين أمريكا والصين لتقاسم النفوذ في المنطقة، قد نكون في موقف ضعيف، حيث نضيع بين القوى الكبرى. أما إذا بدأت دول المنطقة في بناء مساحات مشتركة مع الصين، حتى لو احتفظت بعلاقاتها مع الغرب، فهذا سيكون أفضل لنا. الصينيون أنفسهم حريصون على بناء علاقات استراتيجية مع المنطقة لأن مصلحتهم تقتضي ذلك. فيما يتعلق بالدول الاسلامية، خصوصًا في آسيا، فإن وضعها الجغرافي وعلاقاتها الوثيقة بالصين يمنحها فرصة ذهبية للتعاون، ويجب أن تستفيد من هذا الوضع الاستراتيجي.

حول مسألة الوقوف على الحياد بين أمريكا والصين، أعتقد أن الخيارات صعبة ولا يمكن تعميمها، فكل دولة لديها ظروفها الخاصة ومصالحها المختلفة. بعض الدول قد تكون لها علاقات وثيقة وعميقة مع أمريكا يصعب التخلص منها، ولكن على الأقل يمكن لهذه الدول أن توازن تحالفاتها الاستراتيجية وتنوع اقتصاداتها. بذلك، يتم بناء علاقات مع كل طرف من الأطراف الكبرى، بحيث يتم تلبية مصالحها دون الاصطفاف الكامل مع أي جهة.

أما في آسيا، فإن معظم الدول لا تملك خيارًا سوى التفاعل مع الصين، حيث إنها تقع تحت تأثير العملاق الصيني ولا تكون علاقاتها جيدة مع الهند، التي تمثل خصمًا لدودًا لها. لكن بالنسبة للدول العربية التي تقع في منطقة محورية بين القوى الكبرى البحرية والقوى البرية، فإن لديها خيارًا أكثر تنوعًا. يمكن لهذه الدول إعادة بناء تحالفاتها مع الغرب على أسس جديدة، أو التوجه نحو الصين، كما فعلت بعض الدول في فترات التحرر الوطني.

ذ. عبد الرحمن الناصر : في هذا السياق، من الممكن أن تنتهج الدول العربية سياسة وسطية تحافظ فيها على علاقاتها مع الغرب، بينما تفتح مساحات جديدة للتعاون مع الصين، كما تفعل تركيا الآن.

د. محمد المختار الشنقيطي : بعض دول المنطقة اختارت بالفعل مسارًا واضحًا مثل إيران التي اختارت الوقوف مع الصين وروسيا ضد الغرب، وذلك بسبب موقف الغرب العدائي تجاهها منذ أكثر من أربعين عامًا. أما الدول الأخرى، فإنه من الممكن لها على المدى القريب الحفاظ على مصالحها مع الغرب بينما تبني علاقات جديدة مع الصين، مما يمنحها مرونة أكبر في تحركاتها. دائماً ما تكون الفرص الأكبر للدول الصغيرة والضعيفة عندما تتصارع القوى الكبرى، فقد أظهرت الحرب الباردة كيف استفادت بعض الشعوب من صراعات القوى الكبرى لتحرير نفسها من الاستعمار. وبالتالي، يمكن للدول في منطقتنا الاستفادة من التنافس الأمريكي الصيني إذا قرأت العقل الاستراتيجي لكل من الصين والغرب بشكل جيد.

ذ. عبد الرحمن الناصر : كبف بدأ اهتمامك بدراسة الصين وصعودها دكتور ؟

د. محمد المختار الشنقيطي : أما عن اهتمامي بدراسة الصين وصعودها، فقد نشأ من اهتمامي بالجغرافيا السياسية للعالم الإسلامي، حيث شعرت أن الكثير من التجارب المعاصرة في العالم العربي والإسلامي تعثرت بسبب ضعف الوعي بالاستراتيجيات السياسية والجغرافيا السياسية. الصين حققت أهدافها بثمن أقل بكثير مقارنة بما دفعناه نحن، سواء في الأهداف التي حققناها أو التي لم نحققها بعد. كان هناك فشل في ثقافتنا في فهم التحديات الجيوسياسية، حيث كانت ثقافتنا تميل إلى التجريد النظري أكثر من الواقع العملي. لذلك، كان من المهم أن يهتم الكتاب بدراسة هذه الثغرات.

الصين حضارة عريقة، وهي تقع في قلب قارة آسيا التي تعد مركزًا للإسلام، بينما العالم الإسلامي له جناحان: أسيوي وأفريقي. الكتلة الكبرى من العالم الإسلامي جغرافيًا وبشريًا تتواجد في آسيا، والكثير منها متأثر بما يحدث في عمالقة آسيا مثل الصين والهند.

اهتمامي بالجغرافيا السياسية للعالم الإسلامي جعلني أتوجه لدراسة الصين، وبصفتي أستاذًا في الشؤون الدولية، فإن تحولات النظام الدولي كانت دائمًا محط انتباهي، ولا سيما صعود الصين. كان هناك هوس متزايد لدى الدارسين، وخصوصًا الأمريكيين، حول تأثير الصين على النظام الدولي. وبحكم تأثري بالثقافة الأمريكية التي نشأت عليها بعد دراستي لعشر سنوات في أمريكا، أعتقد أن أي دارس للنظام الدولي اليوم، أو لأي شخص يهتم بمصائر العالم بشكل عام أو المنطقة العربية والإسلامية بشكل خاص، لا يمكنه تجاهل الصين. يجب أن يكون اهتمامه مركزًا على ما يحدث في الصين، وكيف يؤثر صعودها على المنطقة.

فيما يخص الموضوع الذي ناقشناه اليوم حول الفكر الاستراتيجي الصيني، صعود الصين وعلاقاتها مع أمريكا، أود أن أذكر أنه للأسف، لا توجد كتب عربية كافية أو حديثة في هذا المجال. عند بحثي عن مصادر باللغة العربية، وجدت أن الكتب المتاحة قديمة للغاية، مثل كتاب أنور عبد الملك الذي يتسم بميل يساري واضح وكان قد تناول قضية الصين، ولكن الكتاب يعاني من ضعف التحديث في المعلومات. إضافة إلى ذلك، هناك كتاب آخر لكتاب عربي ولكنه غير مشهور.

أما فيما يتعلق بالصين الحديثة وصعودها، فإن أغلب الكتابات المعاصرة حول هذا الموضوع متوفرة بشكل رئيسي باللغة الإنجليزية، مع وجود بعض الترجمات المحدودة فقط.

 ذ. عبد الرحمن الناصر هل يمكن التحدث لنا كخاتمة عن الكتب التي تتناول صعود الصين وفكرها الاستراتيجي؟

د. محمد المختار الشنقيطي : من بين الكتب التي تستحق القراءة حول صعود الصين، نجد كتاب “القرن الآسيوي” للكاتب كيشور محبوباني، الذي يعتبر من أبرز المفكرين في هذا المجال. كتابه “هل فازت الصين؟” (؟Has China Won ) يُعتبر كتابًا مهمًا، حيث يقدم وجهة نظر آسيوية مرحبة ومبتهجة بصعود الصين. يبرز الكتاب كيف أن الصين باتت تُمثل القوة الصاعدة في القرن الواحد والعشرين في المنطقة الآسيوية، ويلقي الضوء على الفرص التي تتيحها هذه الصعود بالنسبة لآسيا والعالم ككل.

بالمقابل، يُقدم جراهم أليسون، المفكر الأمريكي، رؤية معاكسة من خلال كتابه “الحرب الحتمية” (Destined for War)، حيث يرى أن الصدام بين الصين والغرب حتمي. هذا الكتاب يعكس وجهة نظر متوجسة وخائفة، ويؤكد على أن تصاعد القوة الصينية سيؤدي إلى تصادم محتمل مع الغرب في المستقبل. في هذا الكتاب، يناقش أليسون نظرية الصراع بين القوى الكبرى ويستشهد بمفهوم “فخ ثوسيديديس”، حيث كانت القوى الصاعدة عبر التاريخ تندفع إلى حرب مع القوى الراسخة.

إضافة إلى ذلك، يعد كتاب “الحرب غير الحتمية” (The Avoidable War) للباحث الأسترالي كافين رود، رئيس وزراء أستراليا السابق، واحدًا من الأعمال الهامة في هذا السياق. رود يُعد من المفكرين المتخصصين في الشؤون الصينية ويُعَدُّ من المدافعين عن إمكانية التعايش والتفاهم بين الصين والغرب. يُعتبر الكتاب ردًا على الكتاب السابق لجراهم أليسون، حيث يعتقد رود أن الصراع بين الصين والغرب ليس حتميًا، وأنه يمكن تفاديه عبر التفاهم والمرونة.

إذا كنت ترغب في بناء وجهة نظر متوازنة حول صعود الصين، يُنصح بقراءة هذه الكتب الثلاثة التي تعكس تنوعًا في الرؤى، من وجهة النظر المرحبة بصعود الصين إلى الخائفة منها وصولًا إلى الوسطية التي تدعو إلى التعايش.

من جهة أخرى، قد تكون بعض كتابات المفكر الروسي ألكسندر دوغين عن الصين وعلاقتها مع روسيا مفيدة، خاصة في الفترة الأخيرة بعد الحرب الأوكرانية. دوغين، الذي يمتلك خبرة كبيرة في الجغرافيا السياسية، يعتبر أن علاقة الصين بروسيا تُعدُّ حيوية، وخصوصًا في ظل التحديات التي يواجهها كل من البلدين على الساحة الدولية. رغم تحيزاته الواضحة في بعض الأحيان، فإن كتب دوغين تظل ذات أهمية لفهم العلاقات بين الصين وروسيا في سياق الجغرافيا السياسية. قبل قراءة هذه الكتب، من الضروري العودة إلى أصول الفكر الاستراتيجي الصيني، وذلك من خلال قراءة “فن الحرب” لسان تزو، الذي يُعتبر أحد المفاتيح الرئيسية لفهم الفكر الاستراتيجي الصيني. يُعتبر هذا الكتاب الصغير والكثيف بمثابة الأساس الذي لا غنى عنه لأي شخص مهتم بالسياسة والاستراتيجية. مع أسلوبه البسيط، يقدم “فن الحرب” مجموعة من المبادئ التي لا تزال تُستخدم في التفكير الاستراتيجي المعاصر، مما يجعل قراءة هذا الكتاب ضرورية لأي دارس للمجال.

 ذ. عبد الرحمن الناصر : شكرا لك دكنور والى لقاء آخر ان شاء الله


د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي


المقالات ذات الصلة :

https://dr-achbani.com/تحليل-وضاح-خنفر-لموازين-القوى-الدولية

https://dr-achbani.com/لأستاذ-وضاح-خنفر-التغيرات-والتحولات-ف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Radio
WP Radio
OFFLINE LIVE