Uncategorized

د. طه عبد الرحمن : الفلسفة المؤتمِنة* من الصدق إلى العدل

د. الحسـن اشباني

ما نراه اليوم من انقلاب القيم في كثير من دول العالم المتقدم، حيث يُصفّق للكذب، ويُحتفى بالظلم، ويُسكت عن الفساد، دليلٌ على فشل المنظومات الأخلاقية الحديثة التي بُنيت بمعزل عن الإيمان. بينما في غزة مقاومةً تحيا في النور، وعقولًا تفكر في عمق الألم، ووجدانًا متصلًا بعالم الغيب. د. طه عبد الرحمن

مقدمة مدير الموقع

في هذا الزمن المزدحم بالأصوات والصراعات، تختفي أحيانًا الوجوه التي ينبغي أن تُعرف، ويغيب أولئك الذين يصنعون الفرق في صمت. من بين هذه الوجوه، يطلّ علينا الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، بصمته المضيء، وفكره الذي لا يعلو بالصخب، بل يتسلّل إلى الوجدان بلغة الأخلاق والمعنى.

ليس من السهل على رجل مثله أن يُعرَف في زمنٍ تكثر فيه الأضواء وتقلّ فيه البصائر. لكن تلك الأمسية التي احتضنها “منتدى الشرق”، كانت استثناءً.
تولّى تقديم المحاضرة الإعلامي والمفكر وضاح خنفر، الذي لم يُخفِ إعجابه، بل أفاض في حديثه عن الضيف، بقوله: طه عبد الرحمن ليس مجرد فيلسوف؛ بل هو مؤسّس مدرسة في الأخلاق والمعنى، تُعد من أعظم ما أفرزته الأمة في العصر الحديث، لكنها – للأسف – لم تُكتشف كما ينبغي.” ليست هذه المحاضرة درسًا في التنظير الجاف، ولا استعراضًا للمصطلحات. بل هي رحلة فكرية ممتلئة بالصدق والتجربة والهمّ الأخلاقي، تستحثّنا أن نعيد التفكير في علاقتنا بالعقل، وبالإرادة، وبالمعنى. محاضرة تنادي بفلسفة جديدة من قلب هذا التراث، فلسفةٍ: تتوسّل الصدق، وتفضي إلى التوحيد وتؤمن بالأمانة، وتؤدي إلى العدل. هكذا أرادها الدكتور طه عبد الرحمن: فلسفة مؤتمِنة، لا تكتفي بأن تقول “لا”، بل تأتي بما ينبغي أن يكون. تزاوج بين البيان والموقف، بين الوفاء لما مضى، والوعي بما هو آتٍ. ولعل هذه الكلمات هي ما دفعنا إلى تفريغ هذا اللقاء، وصياغته في نصّ مكتوب يُقرأ بتأنٍّ، لا ليُعرَف الرجل، بل ليُفهَم فكره. فكم من العقول تُحفظ بالكُتب، وتُنسى حين تُقيّد في التسجيلات وحدها. سائلين الله أن يجعل فيه نفعًا لمن طلب الحكمة بإخلاص، وسعى إلى فهم أعمق لرسالته في هذا الوجود. د. الحسن اشباني

==============================================

نص المحاضرة

د. طه عبدالرحمن ذ. وضاح خنفر

د. طه عبد الرحمن: الفلسفةُ بين العقل والإرادة – مدخل إلى رحلتي الفكرية

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

أيها الأحبة، أبدأ حديثي بتحية خالصة وسلام صادق، متوجهاً بالشكر الجزيل لصاحب الكلمة الرفيعة، الأستاذ وضاح خنفر، على ما تفضّل به من إشادة وعرفان، أسأل الله أن يباركه في قوله وفعله ومحبته، وأؤكد أن ما ذكره لا يزيدني إلا تواضعًا لما حمّلتني به من صفات هي في حقيقتي أمنيات أكثر منها أوصافًا.

إن لقائي بكم اليوم لقاءٌ طالما أحببته قبل أن أراه، وظللت أترقبه بيقينٍ أن من يجتمع فيه أمثالكم، فهو من مجالس الصالحين والصالحات. وإنها لنِعمةٌ من الله أن نلتقي على مثل هذا المبحث، فما علينا إلا أن نُكثِر الشكر، حتى يُديم الله علينا المنح والنعم. ولست في هذا المجلس لألقي محاضرةً عليكم، بل جئت لأتشارك معكم همّي الفكري وحُبي للإيمان الذي يزيّن وجدان هذه الأمة. وسأبدأ من نقطة الانشغال الفلسفي، الذي ابتدأ عندي منذ سنٍّ مبكرة، وقد تمحور حول إشكالين جوهريين: إشكال العقل، وإشكال الإرادة.

لقد بدأ إشكال العقل يسيطر عليّ منذ العشرين من عمري، واستمر بي إلى حدود السبعين. وقد تمثل في سؤالي المستمر: كيف نخرج من أسر التقليد إلى فضاء الإبداع؟ كيف نفك عُقدة الجمود العقلي الذي أصاب الأمة؟ هذا السؤال قادني إلى مغادرة وطني طلبًا للعلم، وتوسلاً بكل وسيلة معرفية متاحة.

درست اللسانيات وبلغت فيها درجة الأستاذية، خاصةً في مبحث التداوليات، الذي كنت من أوائل من صاغ مصطلحه في السبعينات. ولست أقول هذا من باب الفخر، بل من باب توثيق الرحلة؛ إذ أصبح هذا المصطلح أساسًا في اللسانيات الحديثة. وجدت أن التقليد ضربان: تقليد للمحدثين وتقليد للمتقدمين، وكلاهما أدى إلى تكلس الفكر. فالمحدثون، رغم زعمهم التقدم، كانوا مقلدين؛ والمتقدمون، رغم عطائهم، صاروا مصدرًا للتقديس لا للتحقيق. أما الحداثيون الذين رفضوا التراث جملةً، فقد كانوا – في نظري – أشد ضررًا على الإبداع من غيرهم، إذ أنكروا الجذور التي تُنبت الجديد، فلم يأتوا بجديد. ولذلك سعيت إلى أن أمتلك أدواتهم، بل أن أُنْشئ أدواتٍ أقوى منها، ولكن من داخل ثقافتنا وموروثنا. ففرّقت بين “المنهجية المنقولة” و”المنهجية المأصولة”، أي تلك التي نستلهمها من أصولنا الثقافية والعقدية، وليست مجرد نسخٍ لما أنتجه الآخر.

لقد رأيت أن إحدى أعمق أزمات الفكر العربي المعاصر تكمن في الانفصام بين اللسان والفكر: فمفكرنا يُفكر بما لا ينطق به، وينطق بما لا يفكر فيه! وهي أزمة إذا استمرت، فلن ننتج فكرًا، ولن نبدع إبداعًا. ومن هنا انطلقتُ إلى ما أسميه بـ “الطور التداولي” من فكري، أي طور المصالحة بين الفكر واللغة؛ أن يفكر الإنسان بعقله، ويعبّر عنه بلسانه تعبيرًا يوافق المعنى واللفظ معًا. وقد وضعت في هذا السياق مصطلحاتٍ ومفاهيم كثيرة، وكتابي “فقه الفلسفة – الجزء الثاني” يُعدُّ من أهم أعمالي في هذا الباب، حيث فصلتُ فيه الحديث عن المفهوم.

المسلم ليس مسؤولًا فقط عن نفسه أو قومه، بل هو مسؤول عن الإنسانية كلها، لأن رسالة الإسلام. هي خاتمة الرسالات. وقد قلت مرارًا: إننا مسؤولون حتى عن أخطاء الآخرين، لأننا لم نُقم بواجبنا الأخلاقي تجاه العالم. د. طه عبد الرحمن

د. طه عبد الرحمن: من إشكال العقل إلى إشكال الإرادة – طور الائتمان في الفكر

بعد أن فرغت من معالجة الإشكال الأول، المتعلّق بالعقل ومسألة التقليد، انتقل بي المسار إلى إشكال جديد، أكثر عُمقًا وأشدّ وقعًا، ألا وهو إشكال الإرادة. وهو الإشكال الذي ما زال يلازمني حتى هذه اللحظة، وسأظل أُصارعه إلى أن ألقى وجه ربي. لقد وقفتُ على حقيقة مفجعة: أن الأمة لم تجمُد عقولها فحسب، بل خَمَلت إراداتها. وكأنها أصابها ما وصفه القرآن بـ”الكلالة”، حيث يصبح الإنسان كلًّا على مولاه، أينما يُوجَّه لا يأت بخير. فكان سؤالي المركزي: كيف نُحرّر الإرادة من هذا الخمول؟ كيف نبعث في الأمة روحًا جديدة تنهض بها من سباتها العميق؟
كما كان السؤال سابقًا عن الخروج من التقليد إلى الإبداع، أصبح السؤال الآن: كيف ننتقل من الكلالة إلى الانبعاث؟ قادني هذا البحث في الإرادة إلى التدبر العميق في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ وتأملتُ مفهوم الأمانة من زاوية عقلية وفلسفية، فوجدت أن “الأمانة” ليست مجرد مسؤولية، بل هي حالة وجودية تلازم الإنسان في كل أحواله؛ في حركته وسكونه، في نومه ويقظته، في أقواله وأفعاله. فالإنسان لا يوجد إلا في دائرة المسؤولية، ومن ينكر هذه المسؤولية، فقد خان الأمانة التي حملها.

بهذا الفهم العميق للأمانة، تغيّرت علاقتي بالعالم. لم أعد أراه شيئًا يُدرك فحسب، بل شيئًا أُؤتمن عليه. وهكذا، تحوّلت العلاقة المعرفية إلى علاقة احتضانية، والعلاقة العملية إلى علاقة ائتمانية. حين أنظر إلى شيء، فأنا لا أكتفي بإدراكه بعقلي، بل أحتضنه بروحي، وأشعر بالمسؤولية تجاهه. وحين أستعمل شيئًا، لا أفعل ذلك بوصفه أداة فحسب، بل بوصفه أمانة مُستودَعة.

المشكلة ليست في الإسلام، بل فينا نحن. لقد فصلنا بين الفقه والأخلاق، بين الحكم والقيمة، بين العبادة والسلوك. وهكذا، أُفرغت الأحكام من مضمونها، فصار الناس يتعبدون على نحوٍ آلي، لا على نحوٍ قيمي. د. طه عبد الرحمن

هذا هو ما أسميه بـ “الطور الائتماني” من مساري الفلسفي: طور تتحقق فيه موافقة الإرادة للفعل، كما تحقق في الطور الأول موافقة اللسان للفكر. فلم أعد أريد أن أقول ما لا أعمل، ولا أن أعمل ما لا أريد. بل صار لزامًا عليّ أن أكون مؤتمَنًا على الفعل الذي أنويه، وعلى القول الذي أنطقه. وقد صغت من هذا المفهوم منظومةً فلسفية كاملة، تقوم على الربط الجوهري بين: الإيمان والأمانة: لا أمانة بغير إيمان، ولا إيمان بلا أمانة. العقل والعدل: فالعقل الكامل يفضي إلى التوحيد، والعدل التام يخرج من رحم الأمانة.

استنتجت أن الأمانة نوعان: أمانة الاحتفاظ: كالاحتفاظ بالودائع والأموال. أمانة الاعتناء: كالاعتناء بالفضائل كالصبر والحب والشكر. كما بيّنت أن للأمانة ضدين: الخيانة: وهي الأوضح، وتشير إلى الإخلال بالمسؤولية. الحيازة: وهي أعمق، إذ إن الأمانة لا تُحاز، لأنها ليست ملكًا بل وديعة.

تأملت في سيرته صلى الله عليه وسلم، فوجدت أن المرحلة المكية كانت طورًا لتربية العقول على الصدق، بينما كانت المرحلة المدنية طورًا لتربية الإرادات على الأمانة. د. طه عبد الرحمن

د. طه عبد الرحمن: من الفكر التداولي إلى التأصيل النبوي – الصدق، الأمانة، التوحيد، والعدل

بعد أن بينتُ كيف انطلقت في معالجة إشكالي العقل والإرادة عبر الطور التداولي والطور الائتماني، وجدت أن من تمام القول والفكر أن أختبر هذين الطورين على ضوء المرجعية العليا في حياتنا، ألا وهي النبوة. سألت نفسي: هل ما وصلت إليه في مساري الفلسفي يتماشى مع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل اتفقت فطرتي الفكرية مع شريعته الكاملة وأخلاقه الكاملة؟ فرأيت – بفضل الله – أنني ما خرجت عن هذا الهدي، بل كنت – دون قصد مباشر – أقتدي برسول الله، فكراً وسلوكاً، فطريًا قبل أن أعي ذلك شرعيًا.

تأملت في سيرته صلى الله عليه وسلم، فوجدت أن المرحلة المكية كانت طورًا لتربية العقول على الصدق، بينما كانت المرحلة المدنية طورًا لتربية الإرادات على الأمانة. وهكذا، وجدت أن: الطور التداولي من فلسفتي يوافق الطور المكي، حيث يتأسس التوافق بين الفكر واللسان. الطور الائتماني يوافق الطور المدني، حيث تتأسس العلاقة بين الإرادة والعمل، أي بين القيم والواقع.في هذا الإطار، رأيت أن القيم الأخلاقية كلها تدور حول محورين: الصدق، وهو القيمة المركزية، المخصصة لكل خلق.
فحين أقول “صدق الصبر”، “صدق الحلم”، “صدق الشكر”، فإن الصدق يحدد درجة كل فضيلة ويمنحها جوهرها. الأمانة، وهي القيمة المحيطة، المعمّمة لكل القيم. فكل قيمة تُعتبر أمانة: “الصبر أمانة”، “الحب أمانة”، “العدل أمانة”، إلخ. بهذا المعنى، يصبح الصدق والأمانة هما القيمتان الجوهريتان التي تنبثق منهما جميع القيم الأخرى: الصدق: لبّ القيم العقلية. الأمانة: لبّ القيم الإرادية.

د. طه عبدالرحمن

وقد بيّنت أن الصدق عند النبي صلى الله عليه وسلم يُفضي إلى حفظ الحق، وأسمى الحق هو وحدانية الله. فإذا قلت “الصدق”، فإنك في جوهره تقول: “التوحيد”. ومن هنا كان النبي يُلقب بالصادق، وكان هذا الوصف في الجاهلية بمثابة إقرار غير مباشر بتوحيده لله. وأما الأمانة، فإنها تؤدي إلى حفظ الواجب، والواجب الأعظم هو إعطاء كل ذي حق حقه، أي العدل.
فكما أن الصدق هو طريق التوحيد، فإن الأمانة طريق العدل. وهكذا تبيّن لي أن: كمال العقل يتجلى في الصدق → التوحيد
وكمال الإرادة يتجلى في الأمانة → العدل

إن البناء الفلسفي الذي أقترحه هو تأسيس أخلاق إسلامية معاصرة من خلال هاتين القيمتين: تربية النشء على الصدق والأمانة، دون الدخول المباشر في تشعبات بقية القيم، لأن من هاتين القيمتين تتولّد القيم الأخرى بطبيعتها. الصدق يخصب الفكر. الأمانة تثمر في العمل. وهذا هو الأساس الذي أراه لبناء فلسفة أخلاقية إسلامية تكون أصيلة في منطلقها، شاملة في غايتها، قادرة على مجابهة الانقلاب القيمي العالمي الذي نراه اليوم، حيث صار الكذب يُصفّق له، والظلم يُحتفى به، باسم التقدم والتحرر.

د. طه عبد الرحمن: فلسفة المقاومة ومسؤولية المسلم العالمية

بعد أن بينتُ كيف يمكن استنباط منظومة أخلاقية متكاملة من خلال قيمتي الصدق والأمانة، أجدني مدفوعًا للحديث عن البعد العملي لفلسفتي، حيث يصبح الفكر مقاومة، وتتحول الأخلاق إلى فعلٍ في الواقع، لا مجرد تنظير. طرحتُ سؤالاً طالما غفل عنه كثير من المفكرين: هل يمكن أن تُوجِد الفلسفة الإسلامية المعاصرة مشروعًا للمقاومة؟ الجواب، في ظني، نعم. لكن التحدي الكبير الذي يواجهنا اليوم هو أن المقولات التي تركبت بها عقول المتفلسفين المسلمين المعاصرين، لا تسمح لهم بأن يُفكروا في المقاومة من داخل ذاتهم، بل لا يفكرون إلا وفق ما يُمليه عليهم الفكر الغربي. فمن لم يفكر في المقاومة لنفسه، لن يستطيع أن يُبدع فيها لغيره. من هنا، سعيت إلى طرح مفاهيم جديدة تنبع من صميم التجربة الإسلامية، وتُترجم إلى أدوات فكرية. أحد هذه المفاهيم هو “الثغر”.

“كلٌّ منكم على ثغر، فليحذر أن يُؤتى الإسلام من قِبَله”.”الثغر”، كما في معناه التقليدي، هو الموضع. الذي يقف فيه المسلم مرابطًا، دفاعًا عن حياض الأمة من عدوٍّ محتمل. د. طه عبد الرحمن

لكنني وسّعت هذا المفهوم ليشمل المجال الفكري، فقلت: إن لكل فرد منّا ثغرًا فكريًّا يجب أن يثبت فيه، بحسب موهبته وقدرته، ليواجه به غزو المفاهيم، لا أقل خطورة من غزو السلاح. فمن يشتغل بالعقيدة، فليجعل منها ثغرًا للدفاع عن الأمة، لا مجرد ترداد لمقولات. ومن يعمل في اللسانيات، فليتخذ من اللغة ثغرًا للدفاع عن هوية الأمة، وهكذا في سائر المجالات. الفلسفة الإسلامية، كما أراها، ليست محصورة في حدود جغرافية، ولا قومية، بل هي حاملة لرسالة إنسانية كونية.
المسلم ليس مسؤولًا فقط عن نفسه أو قومه، بل هو مسؤول عن الإنسانية كلها، لأن رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات. وقد قلت مرارًا: إننا مسؤولون حتى عن أخطاء الآخرين، لأننا لم نُقم بواجبنا الأخلاقي تجاه العالم. حين نرى القتل، والفساد، والعدوان، فلا يكفي أن نلعن ونستنكر، بل يجب أن نقرّ بأننا قصّرنا في أداء رسالة الإصلاح التي كُلّفنا بها.

ما نراه اليوم من انقلاب القيم في كثير من دول العالم المتقدم، حيث يُصفّق للكذب، ويُحتفى بالظلم، ويُسكت عن الفساد، دليلٌ على فشل المنظومات الأخلاقية الحديثة التي بُنيت بمعزل عن الإيمان. وفي المقابل، نجد في غزة – على سبيل المثال – مقاومةً تحيا في النور، وعقولًا تفكر في عمق الألم، ووجدانًا متصلًا بعالم الغيب، بينما كثير من مفكرينا أسرى للمفاهيم الجاهزة، التي لا تُنتج سوى التكرار والتخدير.

أولئك الذين في الأنفاق أحرار بفكرهم وأعمالهم، ونحن فوق الأرض مكبلون بالعجز والتردد.

طه عبد الرحمن: نقد الحداثة الغربية، ورؤية الفيلسوف المسلم للمستقبل الأخلاقي

سُئلت عن موقفي من الحداثة الغربية، خاصة في جانبها الأخلاقي، فأجبت صراحةً: من الغريب أن يكون الإسلام – وهو دين القيم والأخلاق – ومع ذلك لا نجد لدى كثير من المسلمين نظرية أخلاقية تضاهي ما نُسج في الغرب.فالمدارس الغربية اليوم – ولا سيما الأنجلوساكسونية – طورت عشرات النظريات الأخلاقية، بعضها عميق ومعقد، وبعضها متمكن في الساحة الفكرية.
بينما نحن لا نجد – سوى استثناءات قليلة – اجتهادًا أخلاقيًا إسلاميًا متماسكًا. وهنا أؤكد، المشكلة ليست في الإسلام، بل فينا نحن. لقد فصلنا بين الفقه والأخلاق، بين الحكم والقيمة، بين العبادة والسلوك. وهكذا، أُفرغت الأحكام من مضمونها، فصار الناس يتعبدون على نحوٍ آلي، لا على نحوٍ قيمي. يُطبّق الحكم الشرعي، لكن القيم التي تحته لا تتحقق. وهذا خلل خطير، لأنه يخرج الإنسان من “العبودية القيمية” إلى “العبودية الشكلية”. فالتواضع، مثلاً، لا يُختبر في هيئة الجسد، بل في خضوع الروح. قد يُظهر المرء تواضعًا في مشيته، وهو في قلبه متكبّر.

ما يطرحه الغرب من “أخلاق بلا دين”، هو مشروع مقلوب من أصله. إنهم يوظفون مفاهيم دينية، ثم يُخفون أصلها الديني، ويضعونها في قوالب علمانية، ويزعمون أنها مستقلة عن الوحي. لكن انظروا إلى نتائج هذه الأخلاقيات: الظلم يُصفَّق له. الكذب يُحتفى به. الفساد يُزيَّن بلباس القانون. أليست هذه علامات انقلاب في القيم؟ أليس هذا دليلاً على أن الأخلاق التي تفصل عن الإيمان سرعان ما تنقلب إلى نقيضها؟ من هنا، دعوت إلى ما أسميته النهضة الأخلاقية الإيمانية، وهي نهضة لا تفصل القيم عن العقيدة. ولا تفصل العمل عن المسؤولية. ولا تفصل الإنسان عن غايته الوجودية. بل تجعل الإيمان هو القيمة العليا، وتشتق منه سائر القيم: من العدل إلى الرحمة، ومن التواضع إلى الوفاء.

نحن لسنا مسؤولين عن إصلاح واقعنا فقط، بل عن إنقاذ البشرية من التوحش القيمي الذي بات يهدد الإنسان في إنسانيته. فمنذ ختم النبوة، لم يعد في البشرية نبيٌّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فصارت المسؤولية الأخلاقية والكونية على أمة الإسلام. وإن لم نقم نحن بهذه المهمة، فسنُسأل عنها – أمام الناس والتاريخ، وأمام الله عز وجل.

طه عبد الرحمن: الرسول قدوة في تتويج العقل والإرادة – من التوحيد إلى العدل

بعدما رسمتُ في رحلتي الفكرية طورين أساسيين: الطور التداولي، الذي يسعى إلى تحقيق التوافق بين الفكر واللسان والطور الائتماني، الذي يهدف إلى التوافق بين الإرادة والعمل. سألت نفسي سؤالًا حاسمًا: هل ما وصلت إليه يوافق سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه؟ هل ما توصلت إليه بالفطرة، يتناغم مع ما جاء به بالشرع؟ فجاءني الجواب، نعم، وبأوضح صورة. لقد جسّد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم كمال الصدق وكمال الأمانة في سيرته، وبهما ربّى أصحابه على مرحلتين: في مكة: ربّاهم على الصدق، وهي تربيةٌ عقلية – فكرية. في المدينة: ربّاهم على الأمانة، وهي تربيةٌ إرادية – عملية. فإذا كانت الفلسفة التداولية تسعى إلى صدق الفكر وتوافقه مع اللغة، فإنها تجد مثيلها في المرحلة المكية. وإذا كانت الفلسفة الائتمانية تسعى إلى صدق العمل وتوافقه مع الإرادة، فهي مرآة للمرحلة المدنية. وهكذا، وجدت في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة العليا التي استلهمت منها، فطرًا وشرعًا، شكل فلسفتي ومضمونها. الصدق، عند النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن قيمة سلوكية فقط، بل كان مركزًا تنبثق منه جميع القيم العقلية. والأسمى من ذلك، أن الصدق عنده يعني حفظ الحق. وما الحق الأعظم؟ إنه توحيد الله. فإذا كان النبي يُوصف بـ”الصادق”، حتى في الجاهلية، فإن أهل الجاهلية أنفسهم كانوا –من حيث لا يشعرون– يُقرّون بتوحيده لله. إن “الصدق” يقود إلى “التوحيد”، فكل من صدق في قوله، وصدق في وعده، وصدق في فعله، ولم يوحد الله، فقد نقص صدقه. الصدق الذي لا يُفضي إلى التوحيد ناقص غير مكتمل. وكذلك، فإن “الأمانة” عند النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن فقط حفظ المتاع، بل كانت رعاية للواجبات، وتحقيقًا للعدل. فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، وهذا جوهر الأمانة. فالأمانة لا تكتمل إلا إذا أُنجزت الواجبات، لا بأمرٍ خارجي، بل بإرادة داخلية مؤتمَنة. وهكذا، كما أن الصدق يفضي إلى التوحيد، فإن الأمانة تفضي إلى العدل. وهكذا، كما أن الصدق يفضي إلى التوحيد، فإن الأمانة تفضي إلى العدل. ووضّحت هذه الرؤية من خلال صورة رياضية:

تخيلوا القيم الأخلاقية كلها في دائرة. الصدق هو مركز الدائرة: يُخصص كل قيمة ويُعمّق معناها. الأمانة هي محيط الدائرة: يُعمّم كل قيمة ويُوسع أثرها. فلو قلت: “صدق الصبر”، فمعناه صبر نابع من يقين. “أمانة الصبر”، فمعناه صبر يُصان ويُحفظ ولا يُهدر.

طه عبد الرحمن: فلسفة القيم وتجديد المعرفة – من الإيمان إلى المسؤولية الكونية

انطلاقًا من مركزية الصدق والأمانة، طرحتُ تصورًا تربويًا وفلسفيًا لبناء أخلاق إسلامية يمكن تعليمها، وتوسيعها، وترسيخها. فبدل أن نُحمّل النشء طيفًا واسعًا من القيم يصعب حصره أو إدراكه، أدعو إلى تركيز المناهج الأخلاقية على هاتين القيمتين الأساسيتين فقط: من الصدق تُستنبط جميع القيم العقلية. ومن الأمانة تتفرّع جميع القيم الإرادية والعملية. بهذا نربّي مسلمًا صادق الفكر، أمين العمل، وهو ما يعيد بناء الشخصية الإسلامية على أساس متين.

طُرح سؤال عن العلاقة بين مشروع الفيلسوف وائل حلاق ومشروعي، وقد قرأت كتابه “الدولة المستحيلة”، ولاحظت أنه يعطي مكانةً محورية للأخلاق في الشريعة، وهي نقطة نلتقي عندها. لقد أشار حلاق إلى أن كل حكم شرعي في الشريعة الإسلامية يستبطن قيمةً أخلاقية. أما إذا فُقدت هذه القيمة، فهل يبقى الحكم صالحًا؟ هذا سؤال وجيه. وأنا أجيب: الحكم الذي لا يُفضي إلى قيمة، هو حكم خاوٍ، لا يُحَقّق مقصده، ولا يُرجى منه صلاح. وهنا مكمن الفارق بين الفقه التقليدي، الذي يُطبّق الحكم دون الالتفات إلى القيمة، وبين النظرة الائتمانية، التي تجعل القيمة أساسًا لكل حكم.

أما عن مشروع “أسلمة المعرفة”، فرغم احترامي الكبير للرواد، وعلى رأسهم المفكر الشهيد إسماعيل الفاروقي، الذي قُتل من أجل فكرته، فإنني أُبدي تحفظًا جوهريًا. لقد لاحظتُ أن المشروع، رغم مرور أكثر من أربعين عامًا عليه، لم يُثمر تغيرًا في العقول، ولا في المناهج، ولا في الإرادات.

ما حصل في “أسلمة المعرفة” هو إضافة “الإسلام” إلى علوم غربية جاهزة، دون أن نعيد بناء الأساس الفكري والمنهجي من داخل مجالنا التداولي. فكان المشروع –في أحسن الأحوال– تجميليًا: إسلام يُضاف إلى غير إسلام، لكن لا يفعّل فيه، ولا يغيره من داخله. لقد قلت مرارًا: قبل أن نُسلم المعرفة، علينا أن نُحرر طريقة تفكيرنا أولًا. أي أن نُعيد صياغة علاقتنا بالأشياء، وبالعالم، وبالذات، وبالقيم، حتى نصل إلى منهج أصيل يستجيب لمقتضياتنا العقدية واللغوية والمعرفية. وعندها، تأتي “المعرفة الإسلامية” من تلقاء نفسها، لا بالتكلف، بل بالبناء الطبيعي.

ختامًا، أود أن أؤكد أن الفكر الفلسفي الإسلامي منفتح على العالم كلّه، لا لأنه يستورد، بل لأنه يستشعر مسؤولية إنقاذه. نحن مسؤولون لا عن المسلمين فقط، بل عن البشرية جمعاء، لأن آخر نبي أُرسل إلينا، ليس بعده نبي. ومن هنا، فإن كل ظلم يقع في العالم –ولو لم نصنعه– نحن مسؤولون عنه، لأننا لم نؤدّ واجبنا الأخلاقي تجاه البشرية.

طه عبد الرحمن: الإبداع الفلسفي الإسلامي – بدائل لا نقدٌ مجرّد

كثيرًا ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها ممارسةٌ نقدية، مهمتها نقض كل ما هو قائم. لكنني أرفض هذا التحديد. الفيلسوف الحقّ لا يكتفي بالنقد، بل يقدم البديل. لأن الإبداع هو: أن تأتي بشيء غير مسبوق، لا أن ترفض ما هو موجود فحسب.
لذلك، لم أكتب في كتبي أي فصل أو مقالة، إلا وكان فيها اجتهاد واضح لاقتراح بديل، سواء في اللغة أو في المفهوم أو في المنهج أو في الرؤية. وإذا انتقدتُ موقفًا أو طروحةً، فإنني أُلزم نفسي بأن أقترح رؤية مقابلة، حتى لو لم تكن مكتملة، لكنها بداية لسير فكري مختلف. وقد قلت وأكرر: من ينتقد دون أن يقدم بديلاً، فكلامه غير مقبول. لأننا في زمن لا يحتمل الثرثرة الفكرية، بل يحتاج إلى البناء والمبادرة.
ولذلك، فإنني لا أضيق ذرعًا بمن يخالفني، بل أرحب بالاختلاف، شريطة أن يُؤسَّس على اجتهاد ومسؤولية، لا على مجرد النقض أو التهجم أو التشكيك. فالاختلاف إن لم يُثمر بديلًا، فهو محض عبث.

وقد يسأل البعض: ما علاقتي بكتبي؟ أقول: حين أنتهي من تأليف كتاب، أنساه. أشعر أنه لم يعد لي، بل صار أمانة للقارئ، يقرأه ويستخرج ما فيه، ويطوره إن استطاع. لذلك لا أعود إلى كتبي السابقة حين أكتب كتابًا جديدًا، بل أبدأ دائمًا من الصفر، وكأني أكتب لأول مرة. وإذا رأيت كتبي أمامي في بيتي، أطلب من أهلي أن يصرفوها عني، لأنها لم تعد همّي؛ بل همّ القارئ والزمان الذي سيشهد على صلاحها أو فواتها. أكتب لوجه الله، لا لشهرة ولا منصب ولا تقديس، وما جاءني من ذيوع فكان رغم إرادتي. ولذا أقول لمن يعترض: إن قلتَ إن فلسفتي لا قيمة لها، فهات البديل، وإن رفضت المفاهيم التي أطرحها، فاقترح ما هو أصلح منها، وإن أنفقت جهدك في النقض، فأرنا أثر ذلك في الواقع. نحن لا نعيش زمن “النقد للمجد”، بل زمن “الإبداع للنجاة”. فأمتنا في حاجة إلى من يفكر لأجلها، لا من يهاجم من يفكر فيها.

طه عبد الرحمن: من الفطرة إلى الرسالة – النبي إمام الفلسفة المؤتمِنة

بلغتُ في مساري الفلسفي نقطةً تأمّليةً عليا، طرحتُ فيها على نفسي سؤالًا غير مسبوق: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم نبيًّا قبل البعثة؟ أي: هل كانت نبوته فطرية قبل أن تكون شرعية؟ فتأملتُ سيرته وسلوكاته، وعقله الراشد، وخلقه العظيم، قبل أن يُكلف بالرسالة، فرأيت أن الصفة النبوية كانت مستعلِنة في شخصه حتى قبل أن يتنزل عليه الوحي. وهكذا انتهيت إلى قناعة فلسفية وإيمانية: النبي كان نبيًّا بالفطرة، ثم صار نبيًّا بالشرع. لو عدنا إلى سيرته قبل البعثة، لرأينا: نودي في مكة بـ”الصادق”، لأنه لم يُعرف عليه كذبٌ قط. نودي بـ”الأمين”، لأنه لم يُعرف عليه خيانةٌ قط. هذان الوصفان، “الصادق” و”الأمين”، لم يكونا ألقابًا اجتماعية، بل كانا كشفًا عن ماهية شخصه وفطرته.

في الصدق، نجد مركز القيم العقلية. وفي الأمانة، نجد محيط القيم الإرادية. وكأن الله هيّأه للفلسفة المؤتمِنة، قبل أن يُكلف بالدعوة. بيّنت من قبل أن: الصدق يُفضي إلى التوحيد، فهو حفظ للحق، ولا حق أعظم من وحدانية الله، والأمانة تُفضي إلى العدل، فهي أداءٌ للواجب، ولا واجب أعظم من إعطاء كل ذي حق حقه وهكذا نرى أن: الرسول صلى الله عليه وسلم كان جامعًا بين قِمّتي العقل والإرادة:عقلٌ صادق = موحِّد وإرادة أمينة = عادلة

وقد ختمتُ مساري الفلسفي بهذا الاقتناع العميق: كل ما جئت به من فلسفة مؤتمِنة، هو في جوهره اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الطور التداولي في فكري، هو مرآة المرحلة المكية من سيرته، حيث تربّى الصحابة على صدق الكلمة وصفاء القلب. وإن الطور الائتماني هو مرآة المرحلة المدنية، حيث تربّوا على أمانة العمل وعدالة الفعل. فما قلته بالفلسفة، قاله النبي صلى الله عليه وسلم بالحال والمقال والسيرة، بل بصورة أكمل وأجمل.

أقول لإخواني من المفكرين والباحثين: لا تكتفوا بإعادة إنتاج الفكر، بل أبدِعوا من داخله، لا تقفوا عند النقض، بل تقدموا بالبدائل ولا تحصروا العقل في الوسائل، بل اضبطوه بالغايات، ولا تنسوا أن مسؤوليتنا اليوم كونية، لأننا نُنسب إلى آخر نبي، ونحمل رسالة آخر وحي. فلنُعد ترتيب أولوياتنا، ولنعد بناء قيمنا، على صدقٍ يُفضي إلى توحيد، وأمانةٍ تُفضي إلى عدل. عندها فقط، نكون قد أدينا أمانة الفكر، وصدقنا في حمل أمانة الرسالة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

د. طه عبد الرحمن : أسئلة الجمهور وتعقيبات الفيلسوف

سؤال 1: هل يمكن أن تكون الفلسفة الإسلامية حديثة دون أن تكون مقلّدة للفكر الغربي؟

الجواب : نعم، الفلسفة الإسلامية يمكن أن تكون حديثة دون أن تقلّد الغرب، شريطة أن تبدأ من ذاتها، لا أن تكون رد فعلٍ على ما أنتجه الغرب. لا يجوز أن نربط “الحداثة” بمرجعية واحدة، هي المرجعية الغربية؛ فالحداثة لا تعني نفي التراث، بل أن نُفعِّل التراث بأدواتٍ معاصرة، ونُعيد صياغة الفكر الإسلامي من داخل مجاله التداولي. إن بداية الاستقلال الفلسفي ليست في الاستيراد أو الترجمة، بل في السؤال الذاتي، وفي الاعتراف بالفضل النبوي في تشكيل العقل المسلم.

سؤال 2: لماذا ركّزتم على الصدق والأمانة فقط في بناء المنظومة الأخلاقية؟

الجواب : لأني لاحظت أن معظم القيم الأخرى، مهما عظُمت، لا تصمد إذا لم تكن مشفوعةً بالصدق أو محوطة بالأمانة.
فالشجاعة بلا صدق مُجازفة، والرحمة بلا أمانة انفلات. لذلك، لا تبنى الأخلاق على التفصيل والتشظي، بل على أمهات القيم التي تُنتج بقية الفضائل وتُقيم ميزانها.

سؤال 3: كيف تردّون على من يقول إن مشروعكم أقرب إلى التصوف منه إلى الفلسفة؟

الجواب : أولًا، التصوف الحقيقي هو فلسفة عميقة تتأسس على التحقق قبل التنظير، وعلى الذوق قبل البرهان.
وثانيًا، فلسفتي ليست استدعاءً للتصوف، بل هي امتداد لفكرة أن الحكمة لا تنفصل عن التقوى، كما في القرآن: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ﴾. الفلسفة الإسلامية المؤتمِنة، التي أدعو إليها، تأخذ من التصوف عمقه، ومن الفقه ضبطه، ومن اللغة بيانه، ومن العقل حجته.

سؤال 4: هل ترون أن الفلسفة يمكن أن تكون وسيلة للمقاومة السياسية أو الثقافية؟

الجواب : نعم، بل أقول: إذا لم تكن الفلسفة مقاومةً، فهي زينة بلا جدوى. المقاومة ليست بالسلاح فقط، بل بالفكر، وباللغة، وبالمفاهيم. الفلسفة الحقّة تقاوم التقليد بالفهم، والهيمنة بالبديل، واليأس بالأمل.

سؤال 5: ما موقفكم من “أسلمة المعرفة”؟ وهل ترونه مشروعًا مكتملًا؟

الجواب : المشروع نبيل في مقصده، لكنه لم ينجح لأنه بدأ من حيث انتهى الآخرون. نحن بحاجة إلى تحرير أدواتنا ومفاهيمنا أولًا، لا إلى وضع “الإسلام” فوق أطر غريبة عنّا. التغيير الحقيقي يبدأ من اللغة والسؤال والمنهج، لا من العنوان.


سؤال 6: كيف يفكر المسلم في زمن القهر والخذلان؟

الجواب : (بعد تأملٍ عميق) لا يصح أن نترك الواقع يُشكّل وعينا، بل ينبغي أن نشكّل وعينا ليُغيّر الواقع.المسلم لا يُهزَم بالحديد والنار، بل يُهزَم حين يفقد الأمانة، ويكذب على نفسه. النصر يبدأ من الصدق مع الله، والأمانة مع النفس.

سؤال 7: بماذا تنصحون شباب الأمة؟

الجواب : لا تجعلوا من الأفكار سُلمًا للمجد الشخصي. وابدأوا من حيث بدأ النبي: اصدُقوا في الكلمة، وائتمنوا في العمل. لا تهجروا لغتكم، ولا تستهينوا بقيمكم، ولا تخلطوا بين التقدم والتقليد واذكروا دومًا أنكم على ثغر: فلا يُؤتى الإسلام من قِبلكم.


================================

*كلمة “المؤتمِنة” مشتقة من “الأمانة” بمعنى أنها فلسفة تعتمد على قيم الأمانة والثقة. الفلسفة المؤتمِنة هي فلسفة تنطلق من قيمة الصدق، ثم تهدف إلى تحقيق العدل بين الناس في الفكر والسلوك.

د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي

====================================

المقالات ذات الصلة :

https://dr-achbani.com/تحليل-وضاح-خنفر-لموازين-القوى-الدولية

https://dr-achbani.com/لأستاذ-وضاح-خنفر-التغيرات-والتحولات-ف

https://dr-achbani.com/حوار-رائع-مع-د-محمد-المختار-الشنقيطي-اي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Radio
WP Radio
OFFLINE LIVE