من بايكار إلى الدستور: تركيا ترسم ملامح نهضتها… والشنقيطي يقرأ تحوّلاتها العميقة
د. الحسـن اشباني
—————————————————————
مقدمة تمهيدية
ليس من السهل أن تمر مرورًا عابرًا على حوار مثل هذا، خاصة إذا كنتَ من أولئك الذين يحملون في قلوبهم سؤالًا مؤرقًا: هل يمكن لأمةٍ أنهكها الاستعمار والتبعية أن تستعيد مكانتها بقرار ذاتي؟ حين وقعتُ على هذا اللقاء الثري الذي أجرته قناة التاسعة مع الدكتور محمد مختار الشنقيطي، شعرت أن ما قيل فيه يتجاوز اللحظة الإعلامية إلى ما يشبه وثيقة فكرية شاملة، تستحق أن تُقرأ، لا أن تُشاهد فقط.
الدكتور الشنقيطي، المعروف بقراءاته العميقة للواقع الإسلامي وتحليلاته الجيوسياسية النابعة من قلب معاناة الأمة، لا يكتفي هنا بوصف ما يحدث في تركيا من نهضة صناعية وعسكرية، بل يُعيد بناء الصورة ضمن سياق فكري أوسع، يجعلنا نسائل أنفسنا: لماذا لا نكون نحن أيضًا جزءًا من هذا التحوّل؟ وهل ينقصنا شيء سوى الإرادة السياسية والرؤية الواعية؟
ومن هذا المنطلق، وجدت أن من واجبي كباحث ومهتم بالشأن العربي والإسلامي، أن أقوم بتفريغ هذا الحوار إلى نص عربي فصيح، ليكون متاحًا للباحثين والمهتمين، ولأولئك الذين يفضّلون التأمل في الكلمة المكتوبة. فعلت ذلك لا أداءً لواجب إعلامي، بل استجابة لنداء داخلي، بأن هذا النص يحمل بين طياته إشارات أمل وتحوّل، ويستحق أن يُعمَّم.
هو حوار عن تركيا، نعم، لكنه في عمقه حوار عنّا، عن أوطاننا التي ما زالت ترزح تحت التبعية في الدواء والغذاء والسلاح، عن مساراتنا التي لم تُحسم بعد. هو دعوة ضمنية لتجاوز عقلية الانتظار، وللإيمان بأن النهوض ممكن، متى ما امتلكت الأنظمة إرادة التغيير، وتحركت الشعوب على هدي من الوعي والعمل.
ملخص الحوار
في حوار شامل أجرته قناة التاسعة مع الدكتور محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية، سلط الضوء على النهضة التركية اللافتة في مجال الصناعات الدفاعية، وخصوصًا في تطوير الطائرات المسيّرة، مؤكدًا أن هذه الطفرة تمثل تحوّلًا استراتيجيًا يقلق القوى الغربية التي اعتادت على احتكار السلاح والتأثير الجيوسياسي في المنطقة.
تحدث الدكتور الشنقيطي عن زيارته الميدانية لشركة بايكار الرائدة، حيث التقى المهندس سلجوق بيرقدار، الذي يقود مشروع الاستقلال الدفاعي التركي. وبيّن أن هذه الصناعات أضحت رمزًا لفك التبعية الغربية، إذ تُصدّر الشركة ما نسبته 60% من صادرات السلاح التركي، معتمدة على كفاءة آلاف المهندسين الشباب.
الحوار تطرق أيضًا إلى التعاون العسكري التركي مع باكستان ودول عربية كقطر والسعودية، مستعرضًا الانعكاسات المحتملة على موازين القوى الإقليمية، خصوصًا في ظل التوتر الهندي التركي الأخير. كما ناقش الدكتور مسألة وضع دستور جديد لتركيا، معتبرًا أنه مشروع تاريخي يسعى من خلاله الرئيس أردوغان لتكريس الإرث السياسي وتحقيق المصالحة المجتمعية.
ولم يغفل الشنقيطي الأوضاع في سوريا، معتبرًا سقوط النظام الاستبدادي هناك بداية لتحوّل جذري في بنية المنطقة، قد تنعكس آثاره على مصر والعراق وبلاد الشام.
وفي ختام اللقاء، دعا الدكتور الشنقيطي الشعوب العربية إلى التمسك بالأمل والعمل، معتبرًا أن ما نعيشه من آلام هو مخاض ولادة لا نذير موت، وأن الأمة باتت في حالة يقظة تتطلب حسن التخطيط والقيادة الحكيمة.
النص الكامل للحوار
الصحفي : أهلاً وسهلاً بكم من جديد، مشاهدينا الكرام. نعود إليكم بعد هذا الفاصل لنرحب بضيفنا الكريم الدكتور محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية. أهلاً ومرحباً بك دكتور محمد. قبل الفاصل كنا قد تناولنا موضوع صعود النفوذ التركي، وتأثير ذلك في معادلات المنطقة، وهو أمر بات يقلق أعداء الأمة الإسلامية، وقد أشار الإعلام الإسرائيلي تحديداً إلى تصاعد النفوذ التركي في كل من سوريا وأوكرانيا. كيف تقرأون هذا المشهد؟
محمد مختار الشنقيطي: بالفعل، تعيش تركيا نهضة شاملة منذ نحو ربع قرن، لكن في السنوات الأخيرة تجلّت هذه النهضة بوضوح في قطاع الصناعات الدفاعية. وقد نشرت قبل شهرين دراسة مطولة على موقع الجزيرة نت عن المهندس سلجوق بيرقدار وصناعة الطائرات المسيّرة التركية، وقد تُرجمت الدراسة إلى اللغة التركية ونُشرت في كتاب. التعاون التركي لم يقتصر على دولة بعينها، بل يشمل دولاً في أوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا. وهذا بطبيعة الحال يقلق ليس فقط إسرائيل، بل كذلك القوى الغربية التي اعتادت احتكار صناعة السلاح والتحكم في مسارات الحروب.
الصحفي :علمنا أنك قمت بزيارة مهمة لشركة “بايكار“، حيث اطلعت على مراحل تصنيع الطائرات المسيّرة، وكان لك لقاء مع مديرها العام. ما الذي لفت انتباهك خلال هذه الزيارة؟
محمد مختار الشنقيطي: تشرفت بالفعل بزيارة شركة بايكار، وجلست ساعات طويلة مع المهندس سلجوق بيرقدار (الصورة اسفله)، وهو شاب عبقري يحمل همّ الاستقلال الصناعي والدفاعي لبلاده، وقد حقق في هذا المجال نجاحاً باهراً. رأيت آلاف المهندسين الشباب يعملون بجد في مختلف أقسام الصناعات الدفاعية. يشهد هذا القطاع طفرة هائلة، وقد تُرجمت إلى إنجازات ملموسة في الميدان، لاسيما خلال الحروب التي استخدمت فيها الطائرات المسيّرة التركية.
الصحفي : ما أهمية هذا الإنجاز إذا ما نظرنا إلى تاريخ تركيا في استيراد السلاح؟
امحمد مختار الشنقيطي: منذ التسعينيات، حاولت تركيا شراء المسيّرات من الولايات المتحدة، التي كانت تحتكر هذا القطاع، لكنها رفضت الطلب. فاضطرت تركيا لشراء مسيّرات من إسرائيل، لكن تبين لاحقاً أن الإسرائيليين كانوا يخترقون أنظمة تلك الطائرات ويتجسسون على الأتراك من خلالها، ما دفع تركيا إلى الاعتماد على الذات. وهنا بزغ نجم عائلة بيرقدار، فبدأوا منذ عام 2007 بتطوير مسيّرات خفيفة، ثم تطورت هذه الصناعة حتى بلغت ذروتها في طائرات “كزِل ألما”، أو التفاحة الحمراء، التي تُعد جوهرة الصناعات الدفاعية التركية.
الصحفي : وكيف تقرأ ردود الفعل الغربية حيال هذا التطور؟
د. محمد مختار الشنقيطي: تابعت دراسات غربية، خصوصاً أمريكية وفرنسية، أظهرت انزعاجاً واضحاً من البرنامج التركي للمسيّرات. فرنسا مثلاً مستاءة لأن كثيراً من دول غرب إفريقيا باتت تفضل الطائرات التركية على السلاح الفرنسي، نظراً لسعرها الأقل وفاعليتها الأعلى. كما أن تركيا تقدم عقوداً ميسّرة، ما جعلها تتصدر سوق المسيّرات العسكريّة.
الصحفي : وما مدى التعاون التركي مع الدول العربية والإسلامية؟
د. محمد مختار الشنقيطي: هناك تعاون وثيق مع قطر والسعودية، وكذلك مع باكستان. وأذكر أنه خلال الحرب الأخيرة بين الهند وباكستان، ظهرت مؤشرات على استخدام مسيّرات تركية، رغم أن التفاصيل الدقيقة لم تُؤكَّد بعد. لكن من المؤكد أن التعاون قائم في هذا المجال.
الصحفي : وماذا عن زيارتك لشركة بايكار من الناحية الشعورية؟
د. محمد مختار الشنقيطي: شعرتُ بعزّة وفخر كبيرين. أن ترى دولة إسلامية خرجت من عباءة التبعية الغربية وأصبحت مورّدة للسلاح… هذا أمر يدعو للتفاؤل. الدول التي لا تملك استقلالاً في الغذاء والدواء والسلاح، لا تملك قراراً سيادياً.
الصحفي :هناك من يشير إلى أن رئيس شركة بايكار هو زوج ابنة الرئيس أردوغان، كيف تقرأ هذه العلاقة؟
د. محمد مختار الشنقيطي: نعم، العلاقة الأسرية موجودة، لكنني درست الموضوع ووجدت أن الشركة لا تعتمد على الحكومة التركية. 90% من ميزانيتها يأتي من الصادرات، وتمثل بايكار 60% من صادرات السلاح التركي. الإعلام المعارض يضخّم العلاقة الأسرية للتشويش، لكن الوقائع تشير إلى أن نجاح الشركة حقيقي.
الصحفي :وهل هناك دلالات أخرى لهذا التعاون التركي الباكستاني؟
د. محمد مختار الشنقيطي: التعاون العسكري بين تركيا وباكستان مؤشّر قوي، خصوصاً في ظل امتلاك باكستان للسلاح النووي، وتركيا لإنجازات مهمة في الطيران والصواريخ والمركبات المدرعة. نأمل أن يمتد هذا التعاون إلى الدول العربية التي لا تزال تعتمد على السلاح الغربي.
الصحفي : الرئيس أردوغان أعلن عن نية لوضع دستور جديد. كيف تقرأون هذا التوجّه؟
د. محمد مختار الشنقيطي: هو مشروع تحوّل تاريخي. أعتقد أن الرئيس أردوغان يسعى في نهاية مسيرته السياسية إلى إنجازات تبقى بعده. من أبرزها: المصالحة مع الأكراد، وصياغة دستور جديد يتماشى مع تطلعات تركيا الحديثة ويضمن الحريات والاعتراف بالتعددية الثقافية. تركيا تحتاج إلى دستور ليبرالي متصالح مع الدين، يخرجها من عباءة العلمنة القهرية.
الصحفي : ما رأيكم في الأصوات التي تطالب أردوغان بالترشح مجدداً؟
د. محمد مختار الشنقيطي: أردوغان من القادة العظام في عصرنا، وترك بصمة واضحة في تركيا الحديثة. لكن لا ينبغي أن يرتبط مصير الدولة بشخص واحد. إذا نجح في وضع دستور جديد وتحقيق مصالحة شاملة، فسيكون قد أسّس لتركيا قوية مستقرة.
الصحفي : أخيراً، أود سؤالك عن توقعك الذي نشرته في عام 2012 بخصوص فتح مبين قادم لمصر عبر تغير مفاجئ في دولة عربية، وقد تحقق ذلك التغير في سوريا. هل ما زلت متمسكاً بتفاؤلك؟
د. محمد مختار الشنقيطي: نعم، لا زلت متفائلاً. ما يحدث في سوريا ليس تحوّلاً بسيطاً، بل هو اقتلاع لنظام دموي استبدّ بالشعب لعقود. تداعيات هذا التحوّل ستؤثر في عموم المنطقة، خصوصاً في مصر وتركيا والعراق وفلسطين.
الصحفي : ما الكلمة التي توجهها في ختام هذا اللقاء، في ظل الأوضاع الصعبة في فلسطين، وسوريا، وليبيا، والسودان؟
د. محمد مختار الشنقيطي: علينا أن نتمسك بالأمل والعمل. ما نمر به هو آلام مخاض، لا آلام موت. أمتنا أمة حيّة، تتحرك وتقاوم. علينا أن نخطط جيداً، ونتعلم من أخطائنا، ونبني انطلاقة راسخة وقوية.
الصحفي : نشكرك جزيل الشكر دكتور محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية، على هذا اللقاء الثري. كما نشكر مشاهدينا الكرام، ونستودعكم الله. إلى اللقاء.
========
تم تفريغه الى نص مكتوب وباسلوب عربي فصيح رائع للقراءة : د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي
رابط الحوار :
المقالات ذات الصلة :
https://dr-achbani.com/حوار-رائع-مع-د-محمد-المختار-الشنقيطي-اي
