من الرمال إلى المنابر: سيرة فكرٍ لا يلين – د. محمد المختار الشنقيطي

الملخص بالعربية
يروي الدكتور محمد المختار الشنقيطي في جانب من حياته مع العلم والرحلة الذي حاولت ايجازه في هذا المقال مسارًا إنسانيًا ثريًّا بالتجارب، امتدّ من رمال الصحراء إلى قاعات الجامعات العالمية. وُلد في ريف موريتانيا عام 1966، في بيتٍ يتنفّس الشعر واللغة، فشبَّ على حفظ مقامات الحريري والقرآن الكريم، وتشرّب من بيئته روح الكلمة وجمال البيان. غير أن مسيرته التعليمية لم تكن سهلة؛ إذ توقّف عن الدراسة النظامية بعد أن استعصى عليه فهم الرموز الجافة للرياضيات، فاختار طريق المعرفة الحرّة، متتبعًا العلماء في الكتاتيب وتحت خيام البادية.
بعد أن نال الثانوية كمترشح حرّ، تابع دراساته في الفقه والترجمة، ثم حطّ رحاله في اليمن حيث درّس في جامعة الإيمان بدعوة من الشيخ عبد المجيد الزنداني، الذي جمعته به صداقة ومودة علمية رفيعة. ومن هناك إلى الولايات المتحدة، تابع دراسته العليا في جامعة تكساس، ونال الماجستير والدكتوراه في تاريخ الأديان.
وفي أمريكا، تعرّض لمحاولة استدراج من المخابرات الأمريكية ليكون “خبيرًا” لديها مقابل الإقامة الدائمة، لكنه أبى أن يبيع مواقفه، وفضّل صفاء المبدأ على بريق الإغراء. عاد بعدها إلى قطر وتركيا، حيث واصل التعليم والبحث والكتابة. يجمع الشنقيطي في فكره بين عمق الشريعة وفضاء الحرية، وبين الأصالة الموريتانية والانفتاح الإنساني، فكانت حياته تجسيدًا لجمال العلم حين يُنير القلب والعقل معًا. د. الحسن أشباني
Summary in English:
In “My Life with Knowledge and the Journey,” Dr. Mohamed El-Mokhtar El-Shinqiti recounts a profoundly human and intellectually rich odyssey—one that spans from the sands of Mauritania’s desert to the lecture halls of global universities.
Born in 1966 in rural Mauritania, in a household steeped in poetry and language, he grew up memorizing al-Hariri’s Maqamat and the Holy Qur’an, nurturing from his environment a deep sensitivity to the power of words and the grace of expression. His educational path, however, was anything but conventional: after struggling with the abstract logic of mathematics, he left formal schooling and embarked on an independent pursuit of learning, studying under scholars in traditional Quranic schools and desert camps.
Having earned his secondary certificate as an external candidate, he combined studies in Islamic jurisprudence and translation, later moving to Yemen to teach at Al-Iman University upon the invitation of Sheikh Abd al-Majid al-Zindani, with whom he developed a lasting scholarly bond. His intellectual quest then carried him to the United States, where he completed his master’s and doctoral degrees in the History of Religions at Texas Tech University.
During his time in America, U.S. intelligence officers attempted to recruit him as an “expert” in Islamic movements in exchange for permanent residency—a proposal he declined with principled resolve, choosing moral clarity over material comfort. He subsequently settled in Qatar and Turkey, devoting himself to teaching, writing, and ethical reflection.
Dr. El-Shinqiti’s thought unites the depth of Islamic scholarship with the horizons of modern freedom, weaving together Mauritanian authenticity and universal human openness. His life stands as a luminous testament to the beauty of knowledge when it enlightens both the intellect and the soul. Dr. El Hassan Achbani
النشأة والتعليم المتعرج

وُلدتُ في ريف موريتانيا عام 1966، والدي كان أديبًا فطريًا، يحب الشعر ويحفظه. في بلادنا، يُبنى الرصيد اللغوي من خلال حفظ دواوين الشعر الجاهلي أو المتنبي أو المقامات، وكان من حظي أن والدي اختار لي مقامات الحريري، فحفظتها في سن مبكرة. وكان لهذه التجربة أثر بالغ في تكويني اللغوي والأدبي، بعد القرآن الكريم.
فالمقامات نصوص أدبية خيالية كتبها الحريري – الأديب العراقي البصري – في القرن السادس الهجري، وهي غنية بالمفردات العربية في قالب قصصي. ومن خلالها، تُبنى الحاسة الأدبية والرصيد اللغوي.
التحقت بالإعدادية شهرًا فقط، ثم تركتها، لأنني لم أفهم شيئًا في الرياضيات! أستاذ مصري كان يشرح “سين زائد صاد” بينما أنا أفهم فقط “5 + 5”! فقررت الهرب، ليس فقط من المدرسة، بل من البلد ذاته!
أتحدث العربية والفرنسية والإنجليزية، وإن لم أبلغ الدرجة الكاملة في الطلاقة. دراستي النظامية توقّت سريعًا بعد الابتدائية؛ فقد التحقت بالإعدادية شهرًا فقط، ثم تركتها، لأنني لم أفهم شيئًا في الرياضيات! أستاذ مصري كان يشرح “سين زائد صاد” بينما أنا أفهم فقط “5 + 5”! فقررت الهرب، ليس فقط من المدرسة، بل من البلد ذاته! ذهبتُ إلى ساحل العاج طفلًا، ثم عدت لاحقًا، وانقطعت عن التعليم الرسمي. درست في الكتاتيب والمدارس الأهلية، وحفظت القرآن والمتون الفقهية واللغوية على ظهر الجمل في الصحراء. وبعد سنوات، ترشحت للثانوية العامة كمترشح حر، ونجحت، فالتحقت بالجامعة.

سجلتُ في ثلاث جامعات في وقت واحد في موريتانيا، وحصلتُ على إجازة في الترجمة (عربي–فرنسي–إنجليزي) ثم في الفقه وأصوله. لم أُتم دراسة الدراسات الإسلامية لأسباب وقتية.
رحلتي إلى اليمن والوشائج التاريخية
ذهبت إلى اليمن بعد نيل إجازتي الجامعية. لم أكن أملك شهادة عليا، لكن جامعة الإيمان التابعة للشيخ عبد المجيد الزنداني كانت تبحث عن مدرّسين للمتون النحوية، خصوصًا بطريقة الموريتانيين. فاستدعاني الشيخ الزنداني رحمه الله، ومكثت هناك سنتين حيث كنت أُدرّس ألفية ابن مالك. كانت تجربة لا تُنسى. هناك وشائج حقيقية بيننا وبين اليمن. بعض النظريات تقول إن كثيرًا من عرب المغرب أصولهم يمنية، وهذا لاحظته شخصيًا من خلال ملامح الناس، لهجتهم، عاداتهم، وتقاليدهم. حتى ابن بطوطة أشار إلى هذا حين زار مدينة ظفار بعُمان، وقال إن فيها أمورًا لا توجد إلا في بلاد المغرب. والشيخ عبد الله الأحمر كان يقول إن الموريتانيين هم “يمنيو الغرب”. أحمل حنينًا خاصًا إلى اليمن لأن هناك وشائج حقيقية بيننا وبين اليمن.

ثم اجتاحني شوقٌ عميق لصنعاء عندما انتقلت إلى أمريكا، فأكتبتها في أبيات باللغتين العربية والإنجليزية:

“أحببتُ صنعاء من قلبي
فانبجستْ روحي بنبعٍ من الأشواق واندفق
أحببتُ فيها ضياء الفجر حين يرى
ينساب بين ذراعيها على نسقِ
أحببتُ فيها رذاذ الغيث حين يرى
لآلئاً علقتْ بالصدر والعنقِ
أحببتُ فيها جبالاً في السماء على تروٍ
شموخُ اليمانيين للأفقِ
أنِ التفتُّ أراها في مخيلتي
طيفًا يلازم في حلٍّ ومنطلقِ
أنِ التفتُّ، يظل القلب في حزنٍ من حبها
وتظل الروح في قلقِ
رياك صنعاء لا ريا يشاكله
محملٌ بشذى تاريخك العبقِ
سكبتُ روحي على خديه
حين غدا للغرب متجهًا، والقلب في كَبِقِ”

وهذه الأبيات حمّلها بعض الزملاء معاني وإيحاءات ربما لم أقصدها. أقول دائمًا: النص ملك من يفسّره، لا أتدخل في تأويله. ولصنعاء سحر. إنها مدينة آسرة: بعراقتها، وجبالها الشاهقة، ومناخها الربيعي، وسحبها التي تظللها على مدار العام. أنا مولع بالتاريخ وبجمال الطبيعة، وصنعاء تلخص ذلك. وبالمناسبة، لم يعكر صفو صنعاء عندي لا “القات” ولا “التخزين”. جربته يومًا واحدًا فقط مع بعض الأصدقاء ولم أوفّق فيه، وانتهى الأمر.
القـات: نبات أخضر دائم الخضرة يُزرع خصوصًا في اليمن والقرن الإفريقي. تُقطف أوراقه الطرية ويقوم الناس بمضغها لفترات طويلة. يحتوي القات على مادة الكاثينون المنبهة، التي تُحدث تنشيطًا مؤقتًا للجهاز العصبي، وتمنح شعورًا بالنشاط أو النشوة، لكنها قد تسبب أيضًا أضرارًا صحية كارتفاع ضغط الدم واضطرابات النوم والإدمان. التخزين: مصطلح يمني شعبي يُقصد به جلسات مضغ القات التي تبدأ عادة بعد الظهر وتمتد ساعات طويلة حتى المساء. يجتمع الناس خلالها للحديث وتبادل الأخبار، وتُعدّ جزءًا من الحياة الاجتماعية في اليمن، لكنها تُنتقد لكونها تُهدر الوقت وتؤثر على الإنتاجية والصحة.
رحلة أمريكا والحياة الأكاديمية والإعلامية
حصلت على منحة من الندوة العالمية للشباب الإسلامي عام 1999 ومدتها عشر سنين في امريكا. في هذه البلاد، حاولت التسجيل في قسم العلوم السياسية بجامعة تكساس، فقالوا إن عليّ اجتياز اختبار رياضيات لأن فيه مواد إحصاء وتحليل. قلت لهم ساخرًا: “أنا هربت من الإعدادية بسبب الرياضيات، فهل أعود إليها الآن؟”. فاقترحوا عليّ قسم التاريخ، واخترت تاريخ الأديان لأنه الأقرب لتخصصي في الدراسات الإسلامية. نلت ماجستير في الإدارة ودفعة دكتوراه في تاريخ الأديان من جامعة تكساس.

من اقوال د. محمد المختار الشنقيطي
أعمل حاليًا أستاذًا مشاركًا في أخلاقيات السياسة وتاريخ الأديان بجامعة حمد بن خليفة في الدوحة وتظهر كتاباتي على قناة الجزيرة و”الجزيرة نت” باللغتين العربية والإنجليزية (أكثر من 400 مقالة حتى 2020) ↘ معلومات موثّقة.
محاولة المخابرات الأمريكية استدراجي للعمل خبيرًا لديها مقابل الإقامة الدائمة
حسب ما ذكره د. الشنقيطي في مقال له بموقع الجزيرة حول هذا الحدث : “أن ضباطا من مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي (FBI) زاروني أكثر من مرة، وطلبوا مني العمل مع وكالتهم مترجما، وهي طريقة مهذبة في تجنيد جواسيس لهم على الجالية الإسلامية الأميركية. ولم أستغرب الأمر أبدا، فقد كنت على علم بسعي هذه الوكالة الحثيث إلى تجنيد العديد من المسلمين المقيمين بالولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، خصوصا ممن يعملون في مؤسسات إسلامية، كما هي حالي يومها. لكن ما استغربته واستطرفته هو أن ضباط مكتب التحقيقات الفدرالي جلبوا معهم هدية لي في إحدى زياراتهم، وكانت الهدية علبة من القهوة الإثيوبية ذات الجودة العالية، وديوان “أزهار الشر” (Les Fleurs du Mal) للشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1867) باللغة الفرنسية. وكنت عرفت بودلير وديوانه “أزهار الشر” -الذي هو أشهر آثاره الأدبية- من خلال أستاذ لي بجامعة نواكشوط، درّسنا مادة في الأدب الفرنسي قبل ذلك بسنين، وكان مولعا بتشريح أشعار بولدير، وفك طلاسمها ومجازاتها الرمزية”.
ثم يضيف : “لكن ما الذي يفعله ديوان “أزهار الشر” في لغته الأصلية بأيدي ضباط أمن بمدينة أميركية نائية لا يكاد يوجد فيها من ينطق باللسان الفرنسي؟ وما الذي دفعهم إلى إهدائي هذا الديوان الفرنسي وتلك القهوة الإثيوبية تحديدا؟ لست أدري، لكن يمكنني التخمين أنهم أدركوا ولعي بالقهوة والشعر، فقرروا طرق أبواب القلب عبر هاتين الهديتين الرمزيتين. وفي كل الأحوال، فقد اعتذرت لهم وتملصت منهم بأدب، لكن يبدو أن تقديرهم قادهم إلى الاعتقاد بأني أبحث عن عرض أفضل! فجاؤوا من واشنطن بضيف من وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية (DIA)، وعرض علي العمل مع وكالته “خبيرا” متخصصا في الحركات الإسلامية، وهي صيغة أخرى مهذبة لتجنيد الكتّاب للعمل جواسيس، بعد شحذ نرجسيتهم بالألقاب، مثل لقب “الخبير”، ومنحهم المال الوافر والجنسية الأميركية”.
بينت لهما أني تربيت على ظهور الإبل في الريف الموريتاني الفقير، وأني أستطيع العيش من دون “البيتزا” الأميركية…انتهى الأمر برفض منحي الإقامة الدائمة… فاضطررت لترك الولايات المتحدة في سبتمبر/أيلول 2008، وقد عوضني الله خيرا منها بالإقامة في دولة قطر بتقاليدها العربية المضيافة، وبجنسية تركيا الدولة التي جمعت محاسن الشرق والغرب، ومن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه ولله الحمد أولا وآخر
د. محمد مختار الشنقيطي
ثم ختم هذه المحاولات البئيسة : “وبعد طول إلحاح وإلحاف، ومحاولات إغراء وإغواء، كشفت للضيف والمضيف عن شخصيتي البدوية، وبينت لهما أني تربيت على ظهور الإبل في الريف الموريتاني الفقير، وأني أستطيع العيش من دون “البيتزا” الأميركية؛ فانصرفوا بلطف، والحرج باد على وجوههم من كلماتي الصريحة، التي لم أحاول تغليفها بغلاف دبلوماسي. وانتهى الأمر برفض منحي الإقامة الدائمة بالولايات المتحدة، والتحفظ على تجديد إقامة عملي، فاضطررت لترك الولايات المتحدة في سبتمبر/أيلول 2008، وقد عوضني الله خيرا منها بالإقامة في دولة قطر بتقاليدها العربية المضيافة، وبجنسية تركيا الدولة التي جمعت محاسن الشرق والغرب، ومن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه ولله الحمد أولا وآخرا”
المواقف السياسية والفكرية
أصف نفسي بـ “إخوان الإخوان المسلمين”، وأرى توافقًا بين الشريعة والحرية السياسية وأرفض الانقسام بين الإسلامي والعلماني ↘ مرجع. انتقدت التدخل الإيراني في الشرق الأوسط واعتبرته ميسّرًا من الولايات المتحدة. كذلك أيدت التدخل التركي في سوريا كعلامة صحوة إسلامية. كما أصدرت فتوى تُرفض عقوبة الإعدام للمثليين، معتبرًا عدم وجود نص شرعي لذلك ↘ مصادر.
مؤلفاتي البارزة
كنت أدون يومياتي أو تجاربي في تلك الرحلات العلمية، لدي مذكرات أدبية بعنوان أيامي مع الشعر، أوردت فيها بعض القصص مع والدي وشيوخي، وكنت أعيش حياة نصف بدوية. عندما كانت المراعي تضعف، كنا نتحول إلى حياة الترحال مع البدو. حتى في دراستي مع الشيخ، كانت بداوتي تزداد، لأن أهل زوجته من البدو، وكنا نرافقه في بعض رحلاته العاطفية نحوها في البادية! كما لدي ديوان شعري صغير بعنوان جراح الروح. والشعراء – كما قال الجاحظ – إما من يغرف من بحر أو من ينحت من صخر. وأنا لا أزعم أنني من أهل البحر ولا من النحاتين، لكن لدي بعض القصائد القليلة. استعرت عنوان الديوان من ترجمة إنجليزية لأشعار جلال الدين الرومي، حيث وردت عبارة The wounds of my soul (جراح روحي)، فألهمتني. كما كتبت بعض القصائد كذلك، في أيام غربتي في أمريكا، حين أصابتني حالة «وَجْد »(شوقٌ وهيامٌ ) تجاه الحجاز. ونعم، نشأت في بيئة صوفية، ووالدي كان صوفيًّا، وحافظ القرآن في زاوية صوفية. ولكنني شخصيًا لا أنتمي إلى أي طريقة.



- الخلافات السياسية بين الصحابة (2013)
- أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنيّة الشيعيّة (2016)
- الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية
- ديوان جراح الروح • الحركة الإسلامية في السودان
- وغيرها مثل: آراء الترابي، بحث عن دين الفطرة، فتاوى سياسية ↘ سيرة ذاتية محدثة
علاقتي بالشيخ الزنداني
أكتب عن الشيخ الزنداني، لأنني أحمل له مودة خاصة، فالشيخ عبد المجيد الزنداني رحمه الله كان من نُبلاء الرجال، ومن أصحاب السمو في الخُلق والدين، ممن جمعوا بين العلم والعمل وتركوا أثراً خالداً. من يعرفه عن قرب يرى رجلًا اجتمعت فيه صفات نادرة: تقوى، علم، شهامة، شجاعة، تواضع، ومحبة صادقة للمسلمين، وغيرة على حرماتهم. رغم مكانته العالية، ووجاهته، وماله، كان أكثر الناس تواضعًا، ولطفًا، وكرمًا، خصوصًا مع الطلاب الوافدين إلى جامعة الإيمان من مختلف أنحاء العالم.
طرائف مع طلابي
بالمناسبة وقعت لي طرائف كثيرة مع طلابي في تلك الجامعة في امريكا. مرة كنت أقود سيارتي في كاليفورنيا، فأشار لي رجل بملامح إفريقية كي أتوقف، فظننت أنه أمريكي من أصل إفريقي يريد تنبيهي لمشكلة ما، فإذا به يقول لي: “يا شيخ محمد، كيف حالك؟”، وتبيّن أنه أحد طلابي من ساحل العاج! ومرة أخرى، كنت في طائرة بين تكساس وميشيغان، وجلس إلى جانبي أخ صومالي، واكتشفت أيضًا أنه من طلابي. في تورونتو، زرت مسجدًا فوجدت الإمام كذلك من طلابي، وكذلك في ماليزيا، وفي ألبانيا، حيث أرادوا ترجمة مقال لي، فقال لي المترجم: “أما عرفتني؟ أنا من طلابك في جامعة الإيمان”. تلك البذور التي غرسها الشيخ الزنداني أثمرت في كل أرجاء الأرض. هو من زرعها، ونحن كنا مجرد أداة.
فالشخصية لا تُبنى في لحظة واحدة أو مكان بعينه. بل هي نتيجة تراكمات: من القرية الموريتانية، إلى صنعاء، إلى أمريكا، إلى قطر وتركيا، كلها محطات ساهمت في تشكيل شخصيتي. لكن لا شك أن صنعاء كانت نقطة تحول مهمة، فموقعها الجغرافي – وادٍ بين جبال – وخضرتها، جعلتها ساحرة فعلًا.
صحيح عندي حنين خاص لقريتي التي وُلدت فيها، وذكريات لا تُنسى. لكن بعض الأماكن، مثل الحجاز، لا ينافسها غيرها، فالحب لها يتجاوز حدود الوطن والزمان. انظر إلى الشاعر محمد إقبال – وهو من أحب الناس إلى قلبي – رغم أنه لم يحج قط، إلا أن شعره كله مشحون بالحنين للحجاز، حتى إنه كتب بيتين مؤثرين على فراش موته شوقًا لتلك الأرض، وكان يقول عن نفسه إنه “نسيم حجازي هبّ على بلاد الهند” اما الابيات الاصلية باللغة الفارسية هي : سرود رفته باز آید که ناید؟نسیمی از حجاز آید که ناید؟، سرآمد روزگار این فقیری دگر دانای راز آید که ناید؟. اي بالعربية : أيمكن أن تعود الأنغام التي رحلت؟ هل تهب نسمة من الحجاز من جديد؟. قد أفلَ يومي يا هذا الفقير، وهل يأتي من يعرف الأسرار؟.
نحن جميعًا أبناء الحضارة الإسلامية، وجذورنا، خاصة نحن العرب المسلمين، مرتبطة بالحجاز: ارتباطًا عقائديًا ووجدانيًا وإنسانيًا. الإسلام فجّر طاقة روحية هائلة في جزيرة العرب دفعت أهلها إلى الخارج. المؤرخ العسكري العراقي محمود شيت خطاب يذكر أن 80% من الصحابة ماتوا خارج الجزيرة. شخصيًا، عندما عشت في اليمن، شعرت وكأنني عدت إلى بيت جدي وجدتي.
الحنين والهوية الحضارية
أحمل حنينًا خاصًا لوطني وأتذكر دائمًا أن جذوري الحضارية مرتبطة بالحجاز – مثل إقبال الذي ملأ شعره بحنينه حتى وهو لم يزر الأرض الحجازية. ووفقًا للمؤرخ محمود شيت خطاب، توفي أكثر من 80% من الصحابة خارج الجزيرة العربية ↘ مصدر. تلك الروح شعرت بها بقوة حين عشت في اليمن.
د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي



