الغرب والكيان الصهيوني: تاريخ الهيمنة ووظيفة الإدامة

د. الحسن اشباني
ملخص
يستعرض هذا المقال مسارًا تاريخيًا ممتدًا من القرون الاستعمارية الأولى إلى يومنا هذا، كاشفًا كيف أعاد الغرب صياغة العالم الإسلامي عبر خمس مراحل مترابطة: العنف، والتجزئة، والتغريب، والإلحاق الاقتصادي، ثمّ قيام الكيان الصهيوني بوصفه الذراع الحارس لمشروعه في المنطقة.يرصد النص التحولات العميقة التي حوّلت الأمة من منتجٍ مستقل إلى تابعٍ اقتصادي وثقافي، ويحلّل دور النخب المتغربة في تفكيك الوعي الجمعي، ثم يربط بين سياسات الماضي وأحداث الحاضر — من وعد بلفور إلى الإبادة الجماعية في غزة بعد 7 أكتوبر 2023 — باعتبارها استمرارًا لنفس المنظومة التي تتزيّا بثوب «التحضّر» وتعمل بمنطق «الهيمنة».
ويبيّن المقال أنّ أغلب الأنظمة العربية والإسلامية الحديثة صُنعت لحماية المصالح الغربية مقابل بقائها في الحكم، وأنّ الربيع العربي الأول كان محاولةً مبكرة لكسر تلك الحلقة فأُجهض بتحالف الاستبداد مع الوصاية الأجنبية. وفي خاتمته، الدعوة إلى وعيٍ جديدٍ ونهوضٍ حضاريّ ينطلق من الذات لا من الغرب، ويؤكّد أنّ المقاومة — في غزة وسواها — ليست نهاية التاريخ، بل بدايته الحقيقية نحو فجرٍ عربيٍّ وإنسانيٍّ جديد.
Summary
This article traces a long historical trajectory from the early colonial centuries to the present, revealing how the West reshaped the Islamic world through five interconnected phases: violence, fragmentation, Westernization, economic dependency, and finally, the establishment of the Zionist entity as the guardian of Western interests in the region. It examines the deep transformations that turned the Muslim world from an independent producer into a cultural and economic satellite, analyzing the role of Westernized elites in dismantling collective consciousness. The text connects past policies to current events — from the Balfour Declaration to the ongoing genocide in Gaza after October 7, 2023 — portraying them as continuations of the same system of domination masked by the rhetoric of “civilization.” The article further argues that most modern Arab and Islamic regimes were engineered to safeguard Western interests in exchange for preserving their own power, and that the first Arab Spring (2011) represented an early attempt to break this cycle, thwarted by the alliance of tyranny and foreign tutelage. In conclusion, it calls for a new consciousness and civilizational awakening rooted in self-reliance rather than imitation of the West — affirming that resistance, in Gaza and beyond, is not the end of history but the dawn of a new Arab and human renaissance.
المقدمة :
مواجهتنا اليوم ليست مجرد مواجهة مع «إسرائيل» فحسب؛ بل في جوهرها ومعناها الأعمّ، هي مواجهة مع الغرب — ذلك الحَضن الذي أنشأ الكيان الصهيوني، والذي يمدّه بكل أسباب الحياة والنهوض. الكيان الصهيوني لم يُولد من فراغ، بل جاء تتويجًا لمسارٍ طويل من الصراعات والمشاريع الاستعمارية التي استهدفت جسد الأمة الإسلامية وروحها معًا. إنّه كيان صُنِع بعناية في مختبرات السياسة الغربية، ووُضِع في قلب المشرق العربي ليكون أداةً استراتيجية، لا مجرد دولة، ولينفّذ دورًا محددًا في منظومة السيطرة الإقليمية التي صاغها الغرب بعد الحربين العالميتين.
فالكيان الصهيوني ليس إلا رأس حربةٍ في مشروعٍ أوسع يسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح القوى الاستعمارية القديمة والجديدة، وضمان استمرار تدفّق الموارد والطاقة، وكبح أيّ نهوضٍ حضاري مستقلّ يمكن أن يُهدّد موازين القوى العالمية. لقد تمّت تغذيته بالمال والسلاح والغطاء السياسي من واشنطن ولندن وباريس وبرلين، وأُحيط بمنظومة حمايةٍ دبلوماسية وإعلامية لا مثيل لها في التاريخ الحديث، حتى غدا امتدادًا عضويًا للغرب في الجغرافيا العربية والإسلامية.
ولولا الصِّلة التي تربط هذا الكيان بعواصم القرار الغربي لانهبَطَ وضاع، ولانتهى أمره في أول اختبارٍ حقيقي مع إرادة الشعوب. فالغرب هو الذي يُنعشه سياسيًا حين يُدان، ويُسنده عسكريًا حين يُهزم، ويُبرّره أخلاقيًا حين يرتكب المجازر، ويُقدّمه إعلاميًا على أنه «ضحية» لا «معتديًا». إنّه النموذج الأوضح لتحالف القوة والمصلحة والأيديولوجيا، حيث تتقاطع الدوافع الدينية والتاريخية والاستراتيجية لتُنتج منظومةً واحدة متماسكة هدفها إدامة السيطرة، وإبقاء الشرق الأوسط منطقةً متنازعةٍ ومنهكةٍ لا تنهض أبدًا.
ومن هنا، ونحن نتابع بطولات غزة وصمود حماس والمقاومة الفلسطينية، لا نرى الحدث محصورًا في إطار المعركة وحدها، بل في سياقٍ أوسع هو صراع الأمة مع البنية الغربية ذاتها التي أفرزت هذا الكيان ورعته. ومن منطلق تعاطفنا الأقصى مع إخواننا هناك، يجب أن نتوقّف لحظةً لنتأمل المسار التاريخي الذي أوصلنا إلى هذه النقطة: خمس محطاتٍ كبرى مررنا بها مع الغرب — من الغزو العسكري، إلى التجزئة، فالتغريب، فالإلحاق الاقتصادي، وصولًا إلى قيام الكيان الصهيوني ليؤدي الدور المرسوم له بدقةٍ منذ قرنين على الأقل.
لقد كان قيام الكيان الصهيوني تتويجًا لمخططٍ متدرّجٍ لم يبدأ عام 1948، بل سبقته مراحل متراكمة من الهيمنة والتفكيك والتغريب. فمنذ أن وطئت أقدام الحملات الغربية أرضنا، اشتغل العقل الاستعماري على هندسة واقعٍ جديدٍ للأمة يضمن استمرار تبعيتها وفقدانها لعناصر قوتها الذاتية. وما كان تأسيس إسرائيل إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من العمليات المتقنة التي أعادت تشكيل وعينا، وحدودنا، واقتصادنا، ومناهجنا، وحتى لغتنا.
ومن هنا، لا يمكن فهم الحاضر دون استحضار ذلك الماضي الممتد؛ فكل مرحلة من تلك المراحل كانت تمهيدًا لما بعدها، حتى انتهى بنا الأمر إلى مرحلة الكيان الوظيفي الذي نواجهه اليوم.
ولعلّ البداية المنطقية لقراءة هذا المسار تكون من المحطة الأولى: مرحلة العنف العسكري المباشر، حيث بدأ الغرب مشروعه لإخضاع الأمة بالمدفع قبل الفكر، وبالقوة قبل الحوار.
أولاً: مرحلة العنف
بدأ الغرب مشروعه للهيمنة على الأمة الإسلامية بالعنف الصريح لا بالفكر، وبالقوة المجرّدة لا بالحوار ولا بالحجة. فكانت الحملات العسكرية المتلاحقة — الفرنسية (1798م على مصر، ثم 1830م على الجزائر)، والهولندية (منذ 1602م في جزر الملايو وجنوب شرق آسيا)، والبريطانية (1801م على مصر، ثم 1882م احتلالها الكامل، واحتلال السودان 1898م، والخليج والهند قبل ذلك)، والإيطالية (1911م على ليبيا، ثم 1935م على الحبشة) — سلسلة من الغزوات المنظّمة التي استهدفت كسر إرادة الأمة وتفكيك وحدتها التاريخية. حملاتٌ جاءت تحت شعارات «التمدين» و«التحرير»، لكنها في حقيقتها كانت حملات نهبٍ واستعبادٍ وإذلال.


لم يكن الغرض من تلك الحملات السيطرة المؤقتة أو الانتقام العسكري، بل إعادة تشكيل الخريطة السياسية والذهنية للعالم الإسلامي، وإسقاط المراكز الحضارية التي كانت تمثل منارات للعلم والدين والكرامة. فالحملة الفرنسية على مصر مثلًا (1798م) لم تكن مجرّد غزو، بل تجربة أولى لاختبار كيف يمكن إخضاع الشرق بقوة السلاح من جهة، وبقوة الفكرة الاستعمارية من جهة أخرى. ومن بعدها توالت الحملات: على الجزائر وتونس والمغرب في الشمال الإفريقي، وعلى السودان والصومال وليبيا والحبشة، وكلها حملات تشترك في غاية واحدة — اقتلاع الأمة من جذورها وتجريدها من عناصر قوتها.


لقد كُسرت الأمة بالمدفع والرصاص، قبل أن تُخترق بالفكر والثقافة. سقطت مدنها تباعًا، ودُمرت مراكزها العلمية، ونُهبت خيراتها، وأُذلَّت شعوبها تحت حراب الجيوش التي حملت أسماءً براقة لقادة الغرب: كرومر في مصر، كيتشنر في السودان، روميل في شمال إفريقيا، وغيرهم ممن تركوا بصماتهم دمارًا ودمًا ووصمةَ عارٍ في تاريخ البشرية انظر: الملحق رقم 1 – القادة العسكريون الغربيون في الحقبة الاستعمارية)..
وحين أنهكوا الأمة جسديًا، انتقلوا إلى تمزيقها سياسيًا؛ فكانت اتفاقيات سايكس-بيكو (الملحق رقم (2): اتفاقية سايكس–بيكو (1916م)) وأخواتها بمثابة نحرٍ رسمي للجسد الإسلامي الكبير. قُسمت الأوطان كما تُقسم الذبيحة: هذه لفرنسا، وتلك لبريطانيا، وتلك لإيطاليا، وذاك النفوذ لألمانيا أو هولندا. تحوّلت الأمة من وحدةٍ حضارية مترابطة إلى فسيفساء من الكيانات الضعيفة، تُدار من الخارج وتُوجّه بوصاياه.
لقد كانت مرحلة العنف هي الشرارة الأولى في سلسلة المراحل اللاحقة، إذ لم يكتفِ الغرب بإخضاع الأرض، بل مهّد بذلك لإخضاع الإنسان والفكر والهوية. فالعنف لم يكن غاية في ذاته، بل وسيلة لبناء نظامٍ عالميّ جديدٍ يُحكم قبضته على الشرق، ويفرض عليه خريطةً سياسية وثقافية واقتصادية تخدم الغرب إلى يومنا هذا.
لقد أدرك الغرب أن أمةً موحَّدةً تحت رايةٍ واحدة لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، وأنّ بقاءها على هذا النحو يُهدّد مصالحه وهيمنته. فابتكر أدواتٍ جديدة: المعاهدات، والاتفاقيات، والحدود المصطنعة، والأنظمة التابعة
ثانياً: مرحلة التجزئة
بعد أن كُسرت الأمة بالعنف العسكري، انتقل الغرب إلى المرحلة التالية من مشروعه الاستعماري: مرحلة التجزئة. فالعنف كان وسيلة الهدم، أمّا التجزئة فكانت وسيلة الإدامة. لم يكتفِ الغازي بإخضاع الأرض، بل عمد إلى تقطيعها بخناجر السياسة والخرائط، حتى لا تقوم لها قائمة بعد اليوم.
لقد أدرك الغرب أن أمةً موحَّدةً تحت رايةٍ واحدة لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، وأنّ بقاءها على هذا النحو يُهدّد مصالحه وهيمنته. فابتكر أدواتٍ جديدة: المعاهدات، والاتفاقيات، والحدود المصطنعة، والأنظمة التابعة. فجاءت البداية بـ اتفاقية سايكس–بيكو (1916م) التي مزّقت المشرق العربي، ثم تبعها وعد بلفور (1917م) الذي مَهّد لزرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة، ومؤتمر سان ريمو (1920م) الذي شرعن الاحتلالين البريطاني والفرنسي باسم «الانتداب»، ثم معاهدة سيفر (1920م) التي حاولت تفكيك الدولة العثمانية واقتسام أراضيها، تلتها معاهدة لوزان (1923م) التي ثبّتت الحدود الجديدة وأغلقت ملف الخلافة.وهكذا وُلدت من رحم هذه الاتفاقيات المتعاقبة أجيالٌ من الدول الكرتونية الصغيرة التي لا تملك من أمرها إلا ما أُذن لها به، وأصبح الانقسام هو القاعدة، والوحدة هي الحلم المؤجل (الملحق رقم (3): أبرز المعاهدات والاتفاقيات التي كرّست تجزئة الأمة (1916م – 1923م)).
نتيجة لهذه التجزئة، صار كل قُطرٍ ينظر إلى ذاته ككيانٍ مستقلٍّ لا كجزءٍ من أمةٍ واحدة. فاختفى مفهوم “الأمة” لتحلّ محلّه “الوطنية الضيقة”، وغابت الهوية الجامعة لتحلّ مكانها الانتماءات الممزقة. حوّل العالم الإسلامي من كيانٍ حضاري متماسك إلى أطرافٍ متنازعةٍ تتنافس على رضا المستعمِر نفسه.
رُسمت الحدود بمسطرةٍ على الخرائط، فقُسمت القبائل، وفُصلت المدن عن عمقها الحضاري، وقُطعت أوصال الأمة كما تُقطع الذبيحة على موائد المنتصرين. الجزائر لفرنسا، وتونس للمستعمر ذاته، وليبيا لإيطاليا، والمغرب للمغاربة تحت الوصاية الفرنسية والإسبانية، والسودان لمصر ثم لبريطانيا، والحجاز والعراق والشام لكلٍّ نصيبه حسب ميزان المصالح. وهكذا أُعيد تشكيل الجغرافيا الإسلامية لتصبح فسيفساء من الكيانات المنهكة التي تُدار من الخارج وتُراقَب من السماء. (الملحق الرايع: الخريطة الوصفية للتمزق)
ولم تقف التجزئة عند حدود السياسة، بل امتدّت إلى الفكر واللغة والثقافة، فتمّ فصل الشعوب عن بعضها ذهنيًا كما فُصلت جغرافيًا. تباينت المناهج، وتناقضت الولاءات، وصار كل قُطرٍ ينظر إلى ذاته ككيانٍ مستقلٍّ لا كجزءٍ من أمةٍ واحدة. فاختفى مفهوم “الأمة” لتحلّ محلّه “الوطنية الضيقة”، وغابت الهوية الجامعة لتحلّ مكانها الانتماءات الممزقة.
بهذه الطريقة حوّلت العالم الإسلامي من كيانٍ حضاري متماسك إلى أطرافٍ متنازعةٍ تتنافس على رضا المستعمِر نفسه. وكلما حاولت منطقةٌ أن تستقل أو تستعيد وحدتها، وُوجهت بالتأديب السياسي والعسكري والإعلامي كما حدث في الثورة العربية الكبرى (1916م) (الانتفاضة المسلحة التي قادها الشريف الحسين بن علي، شريف مكة، ضد حكم الدولة العثمانية، بهدف تحقيق الاستقلال وتأسيس دولة عربية موحدة. بدأت هذه الثورة في الحجاز ثم امتدت إلى مناطق أخرى في المشرق العربي، وتزامن انطلاقها مع أحداث الحرب العالمية الأولى.)، وثورة الجزائر (1954–1962م)، ومحاولة الوحدة المصرية–السورية (1958–1961م)، والثورة الإسلامية في إيران (1979م)، وتجربة نجم الدين أربكان في تركيا (1996م)، والربيع العربي (2011م)، حتى تعود إلى الصف. (انظر الملحق رقم 5 لتفاصيل الأمثلة التاريخية).

لقد كانت مرحلة التجزئة أكثر خبثًا من مرحلة العنف، لأنها لم تترك آثارها في الخرائط فحسب، بل في العقول والقلوب. فالعنف يقتل الجسد، أمّا التجزئة فتقتل الروح، وتُحوِّل الأمة إلى شظايا لا يجمعها سوى الضعف والحنين إلى ماضٍ مجيد.
وهكذا اكتمل الجزء الثاني من الخطة: أمّة مكسورة ومجزّأة، يسهل توجيهها والتحكم بمصيرها، تمهيدًا للانتقال إلى المرحلة الثالثة: مرحلة التغريب، حيث سيبدأ المستعمِر بإعادة تشكيل العقل نفسه بعد أن فرّغ الجسد من قوته
بعد أن فُكّك الجسد السياسي للأمة، بدأ الغرب بتفكيك وعيها عبر مشروعٍ منظّم للتغريب. أُنشئت نخبٌ مبهورة بالغرب تُعيد إنتاج فكره في التعليم والإعلام والسياسة. ومع الوقت، غدت الأمة غريبةً عن ذاتها، تستورد قيم غيرها وتستحي من جذورها باسم التنوير.
ثالثاً: مرحلة التغريب
بعد أن فُككت الأمة جغرافيًا وسياسيًا، وذُبحت وحدتها على موائد سايكس-بيكو، انتقل الغرب إلى مرحلةٍ أخطر: مرحلة التغريب. فبعد أن هدم الجسد وقطع الأوصال، شرع في تفكيك العقل والهوية والوجدان. كانت هذه المرحلة أعمق من الغزو العسكري، لأنها استهدفت جوهر الإنسان المسلم: فكره، لغته، إيمانه، ونظرته إلى ذاته وتاريخه.
لقد صنع الغرب في هذه المرحلة «الوسيط المحلي» — نخبًا محلية متغربة مبهورة ببريق باريس ولندن وروما،، تتقن اللغات الأوروبية، وتتشرب القيم الغربية، وتتبنى رؤيته في الحياة والسياسة والتعليم والاقتصاد. أُرسلت البعثات، وافتُتحت المدارس الأجنبية، وتسلّلت مناهج المستعمر إلى العقول الناشئة. نخبا ترى في الغرب النموذج الأوحد للتقدّم والتمدّن. تلك النخب لم تكن أفرادًا عابرين، بل مشروعًا متكاملًا لتغيير البنية الفكرية للمجتمع من الداخل.ففي مصر القرن التاسع عشر، خرجت من البعثات التعليمية إلى فرنسا فئة من المثقفين الذين عادوا منبهِرين بما رأوه هناك، أمثال رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، فكانوا الجسر الذي عبر منه الفكر الغربي إلى المؤسسات المصرية الحديثة. ثمّ تبعتهم أجيال أخرى في مطلع القرن العشرين، مثل طه حسين الذي دعا إلى «الاقتداء بأوروبا في ثقافتها وحياتها» (بعد الخمسينيات، بدا أكثر اتزانًا ومصالحة مع تراثه العربي والإسلامي)، وسلامة موسى الذي أعلن صراحة أنّ «نهضتنا لا تكون إلا على أساس الفكر الأوروبي». (الملحق رقم (6): مقارنة بين النخبة الأصيلة والنخبة المتغربة في العالم الإسلامي الحديث) (الملحق رقم (7): سير موجزة للمثقفين المتأثرين بالفكر الغربي في مصر الحديثة) وفي بلاد الشام، تخرّجت فئات من المثقفين في مدارس الإرساليات الفرنسية والأمريكية، مثل مدرسة «عين طورة» و«الجامعة الأمريكية في بيروت»، فتكوّن جيلٌ أدبي وفكري يرى في الثقافة الغربية مرجعًا وحيدًا، حتى أصبحت العربية عند بعضهم لغة تراثٍ لا لغة علمٍ وحياة. وفي شمال إفريقيا، صنعت فرنسا نخبًا على شاكلتها من خلال نظام التعليم الفرنكفوني، مثل بعض خريجي المدارس العليا في الجزائر وتونس والمغرب، ممن تبنّوا النموذج الفرنسي في الإدارة واللغة والحكم، فصاروا يوقّعون قراراتهم بالفرنسية، ويستمدّون من باريس تصورهم عن الحداثة. تلك النخب أمسكت بمفاصل التعليم والإدارة والإعلام، فبدأت عملية إعادة تشكيل الوعي الجمعي: تغيّرت المناهج الدراسية، وغابت الهوية الإسلامية والعربية من الكتب، وأصبح الطفل العربي يحفظ أسماء الفلاسفة الأوروبيين قبل أن يعرف أسماء علمائه. في الصحافة، ارتفعت أصوات التبشير بالتغريب باسم «التمدّن» و«الحرية»، وفي الجامعات انتشر نقد التراث بوصفه ماضٍ يجب تجاوزه لا فهمه. وهكذا، تحوّل الانبهار إلى انبهارٍ أعمى، والإعجاب إلى تبعيةٍ فكرية جعلت الأمة غريبةً عن ذاتها، منقطعةً عن جذورها، تجهل لغتها وتستخفّ بثقافتها، وتُعادي ماضيها باسم «التنوير».

وفي ظل هذا الانقلاب الثقافي، نشأت الفجوة بين النخبة والأمة، بين المثقف والمجتمع، بين اللغة الرسمية واللغة الأم، وبين العقل الموروث والعقل الموروث عنه. صار كثيرٌ من القادة والمفكرين يتحدثون لغة الغرب ويفكرون بعقليته، لكنهم يحكمون شعوبًا لا تشاركه تلك القيم ولا ذلك التصور للعالم. وهكذا تفككت منظومة الانسجام بين القيادة والقاعدة، وبين الفكر والواقع، فغدت الأمة كجسدٍ تُقاد برأسٍ غريب عنها.
إنّ التغريب لم يكن غاية في ذاته، بل أداة لإتمام السيطرة بعد العنف والتجزئة. فحين يُستعمَر العقل، لا تعود هناك حاجة إلى المدفع. وحين تُصبح قيم الغالب معيارًا يُحتذى، يتحول المغلوب إلى تابعٍ راضٍ بالهيمنة، يظنّها طريقًا إلى الحضارة.
وهكذا، اكتملت المرحلة الثالثة من المشروع الغربي: أمة مغلوبة الفكر، تُدار بنُخبٍ لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من العروبة إلا رسمها. وحين رسخت هذه النخب في مواقع القرار، بات الانتقال إلى المرحلة التالية أمرًا طبيعيًا — وهي مرحلة الإلحاق الاقتصادي، حيث سيُستبدل بالهيمنة الفكرية هيمنةٌ مادية تُمسك بخناق الشعوب عبر المال والموارد والأسواق.
رابعاً: مرحلة الإلحاق الاقتصادي
بعد أن استُعبدت الأرض بالعنف، وتفككت الجغرافيا بالتجزئة، واستُلب الفكر بالتغريب، جاء دور السيطرة على الشريان الذي يمدّ الأمم بالحياة: الاقتصاد. فقد أدرك الغرب أن إخضاع الشعوب لا يكتمل إلا حين تُربط حاجاتها المعيشية، ومصادر رزقها، ومواردها الطبيعية بعجلة اقتصاده وصناعته. ومن هنا بدأت مرحلة الإلحاق الاقتصادي، أخطر مراحل المشروع الاستعماري وأكثرها استدامة.
تحوّل اقتصاد الأمة من منتجٍ مستقلّ إلى تابعٍ مُغذٍّ للغرب، بعد أن كانت مجتمعاتنا قبل القرن التاسع عشر تعتمد على اقتصادٍ زراعي وصناعاتٍ محلية تلبي حاجاتها الذاتية. ومع مطلع الاحتلالات الأوروبية، خضع هذا الاقتصاد لإعادة هيكلةٍ شاملة، جعلته جزءًا من المنظومة الرأسمالية الغربية التي تحتاج إلى المواد الخام الرخيصة والأسواق الاستهلاكية الجديدة. (الملحق رقم (8): معطيات اقتصادية مختارة عن الإلحاق الاقتصادي في العالم العربي والإسلامي)

صارت أراضينا تُزرع بما تحتاجه مصانع أوروبا، لا بما تحتاجه شعوبنا. ففي مصر مثلًا، خُصصت منذ عهد محمد علي وبعد الاحتلال البريطاني (1882م) أكثر من 60٪ من الأراضي المزروعة للقطن، ليغذّي صناعة النسيج في مانشستر ولندن، بينما عانت السوق المحلية من نقص القمح والغذاء.
في المغرب، أعاد الاستعمار الفرنسي (1912–1956م) هيكلة الاقتصاد الزراعي ليخدم حاجات الصناعة الفرنسية لا حاجات المغاربة. فحوَّل مساحاتٍ واسعة من الأراضي الخصبة في سهل الغرب ودكالة وسوس إلى زراعة الحمضيات وقصب السكر والحبوب الموجَّهة للتصدير، بينما حُرم الفلاح المغربي من موارده المائية وأُجبر على العمل في المزارع الكبرى التي امتلكها المعمّرون الفرنسيون. كما سيطر الفرنسيون على الثروات المعدنية، خاصة الفوسفاط في خريبكة، الذي أصبح منذ الثلاثينيات أحد أعمدة الصناعة الفرنسية. وبذلك تحوّل المغرب إلى اقتصادٍ تابعٍ يصدّر المواد الخام والغذاء، ويستورد في المقابل السلع المصنّعة من باريس، في دورةٍ استعماريةٍ أبقت البلاد رهينة العجز والتبعية.

وفي الجزائر، حوّل الاحتلال الفرنسي (1830–1962م) أكثر من 1.5 مليون هكتار من الأراضي الخصبة إلى مزارع للكروم والعنب المخصّص لتصنيع الخمور في مصانع فرنسا، في حين حُرم الفلاح الجزائري من حقّه في أرضه ومائه.
وفي الهند وباكستان (حين كانتا تحت التاج البريطاني)، أُجبرت الفلاحة على إنتاج القطن والنيلة والشاي بدل الحبوب، فاندلعت مجاعات متكرّرة بين 1876 و1900 ذهب ضحيتها نحو 20 مليون إنسان بسبب نقص الغذاء وتوجّهه للتصدير.
أمّا النفط العربي، تلك الهبة الإلهية التي اكتُشفت في بدايات القرن العشرين، فقد جُعل أداة ربطٍ عضوي بالاقتصاد الغربي. فبين عامي 1950 و1970 كانت 90٪ من عائدات النفط العربي تُدار عبر شركات بريطانية وأمريكية (أرامكو، بريتيش بتروليوم، شِل، توتال). ولم تبدأ الدول العربية بالتحكم الفعلي في إنتاجها إلا بعد تأسيس منظمة الأوبك (1960م)، ومع ذلك ظلّ التسعير والتمويل والتسويق بيد الغرب.

الموانئ التي أنشأها الاستعمار — كميناء الجزائر العاصمة، وبورسعيد، وعدن، والدار البيضاء — لم تُبنَ لخدمة التجارة بين الشعوب العربية والإسلامية، بل لتسهيل تصدير القطن، والفوسفات، والنفط، والمعادن، واستيراد البضائع المصنعة من أوروبا. أما المصارف التي فُتحت في القاهرة وتونس والدار البيضاء والخرطوم منذ أواخر القرن التاسع عشر، فكانت فروعًا لبنوك أوروبية (كالبنك الأهلي المصري البريطاني الأصل 1898م، وبنك باريس والأراضي التونسية 1880م)، هدفها ضمان تدفق رؤوس الأموال الأجنبية وإخضاع السوق المحلية لنظام الائتمان الغربي.
حتى التعليم الاقتصادي والمناهج الجامعية صُمِّمت على النموذج الأوروبي، تُدرِّس الليبرالية الاقتصادية وتُهمّش مفاهيم الاقتصاد الإسلامي أو التنمية المستقلة. وبهذا أصبح القرار المالي والسيادي بيد الخارج، وأضحى النمو في بلداننا رقمًا يُكتب في تقارير البنك الدولي أكثر مما يُبنى على الأرض.
في ظل هذا التبعية، تحوّل الاستقلال السياسي إلى استقلالٍ شكلي، وصارت السيادة تُمارس ضمن حدود مرسومة من الخارج. كل مشروعٍ اقتصادي محلي كان يُراقَب ويُحاصَر، وكل محاولةٍ للنهضة الصناعية كانت تُجهَض باسم «العولمة» أو «الإصلاح الاقتصادي». وبهذا الأسلوب الناعم، استُبدلت الجيوش بالديون، والمدافع بالقروض، والمستعمر العسكري بالمستشار المالي.
ولم يكن الإلحاق الاقتصادي مجرد علاقة تبادلية غير متكافئة، بل كان آلية لإدامة السيطرة. فحين يملك الغرب مفاتيح اقتصادك، يملك قرارك السياسي، وموقفك الدبلوماسي، بل حتى خياراتك الثقافية والتعليمية. أصبحنا نستهلك أكثر مما ننتج، ونستورد حتى ما كنا نصنعه، ونقيس نجاحنا بمدى انفتاحنا على الأسواق الأجنبية، لا بقدرتنا على تحقيق الاكتفاء الذاتي.
إنّ هذه المرحلة لم تكن أقل فتكًا من المدافع أو البنادق، لأنّها استبدلت الاحتلال العسكري بالاحتلال المالي، وغيّرت طابع العبودية من قسرٍ إلى تبعيةٍ طوعية. فقد صارت الشعوب تُرهَق بالقروض، وتُدار بالعملة، وتُقيَّد بمعاهداتٍ اقتصاديةٍ ظاهرها التعاون وباطنها الاستغلال.
وهكذا، اكتملت دائرة الإخضاع: عنفٌ كسر الجسد، وتجزئةٌ مزّقت الكيان، وتغريبٌ شوّه الوعي، وإلحاقٌ اقتصاديّ قيد الإرادة. ولم يبقَ سوى المرحلة الأخيرة التي توّجت المشروع بأخطر أدواته وأكثرها رمزية: قيام الكيان الصهيوني، ليكون الحارس الدائم لهذه المنظومة، والرمز المادي لاستمرار السيطرة الغربية على قلب الأمة.
خامساً: مرحلة قيام الكيان الصهيوني ودوره الوظيفي
منذ تأسيس الكيان الصهيوني، تمّ إحاطته بكل وسائل البقاء: الدعم المالي المفتوح من أمريكا وأوروبا، التفوق العسكري النوعي، الغطاء السياسي في مجلس الأمن، والحماية الإعلامية التي تُلمّع جرائمه وتُبرّر عدوانه. وأصبح هذا الكيان هو الضامن الميداني لاستمرار النظام الدولي الظلم، حيث تُقاس شرعية الدول بمدى ولائها له أو صمتها أمام جرائمه.
غير أنّ التحوّل الأخطر في مسار هذا الكيان تجلّى بعد عملية السابع من أكتوبر 2023، حين هبّت المقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال، فكشفت عن وجهٍ جديدٍ للعالم القديم: وجهٍ متوحشٍ، عارٍ من كلّ ادعاءات “المدنية” و“الإنسانية” التي تباهى بها الغرب لعقود. فخلال أشهر قليلة تحوّلت غزة إلى مدينةٍ من الرماد: قد ارتفع عدد الشهداء في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 إلى أكثر من 67000 شهيد تقريباً، منهم نحو 20000 طفل، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 169000 جريح، حسب السلطات الصحية في قطاع غزة، اضافة الى دمارٌ شبه كامل للبنية التحتية، ومستشفيات ومدارس ومساجد سُوّيت بالأرض، في مشهدٍ غير مسبوق في العصر الحديث. لقد رأى العالم — بالصوت والصورة — الإبادة الجماعية تُنفّذ على الهواء، ورأى الغرب الذي أنشأ هذا الكيان يصفّق أو يصمت، أو يمدّه بالسلاح والمال والغطاء السياسي. انكشفت أمام الإنسانية حقيقةٌ كان يُراد إخفاؤها: أن إسرائيل ليست ضحية، بل أداة قتلٍ دولية محصّنة، وأنّ ما يجري في غزة لم يكن حربًا بين جيشين، بل مجزرة ضدّ المدنيين العزّل، ضدّ الأطفال والنساء والمستشفيات والبيوت (الملحق رقم (9): الحرب على غزة بعد 7 أكتوبر 2023 – الأرقام تتحدث).
في تلك اللحظة الفاصلة، سقط القناع عن الخطاب الغربي الذي طالما قدّم نفسه راعيًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان. تبيّن أنّ القانون يُفعّل فقط حين يخدم مصالح الأقوياء، وأنّ الضمير الإنساني الذي صمت أمام دماء غزة ليس سوى ضميرٍ مبرمجٍ على الطاعة. لقد تهاوت في تلك الأيام قيم الحداثة الغربية أمام مشاهد الأطفال المدفونين تحت الركام، والآباء يحملون أبناءهم في أكفانٍ بيضاء، والعالم المتحضر يبرّر القصف بعباراتٍ باردة عن “الدفاع عن النفس”.
هذه الحرب لم تكشف وحشية إسرائيل فقط، بل فضحت المنظومة الغربية التي أنشأتها وحمتها. فالإبادة لم تكن عملًا منفردًا لدولةٍ متهوّرة، بل كانت عملاً مشتركًا بين المصنع الغربي للسلاح، وغرف الإعلام التي شيطنت الضحية، والمؤسسات السياسية التي منحت الضوء الأخضر للدمار. ومع ذلك، كانت المفارقة المدوية: أن غزة — رغم الركام والحصار والجوع — هزّت ضمير العالم الحرّ، وأعادت تعريف مفهوم المقاومة والكرامة الإنسانية.
لقد انكشفت وظيفة الكيان الصهيوني في أوضح صورها: أن يبقى أداةً لضبط الشرق بالنار والحديد، وأن يُبقي الأمة في حالة استنزافٍ دائم. غير أنّ ما لم يدركه الغرب هو أنّ غزة قلبت المعادلة، إذ أخرجت صورة إسرائيل من إطار “الأسطورة التي لا تُقهر” إلى الكيان المرتجف الذي يقتل لأنه يخاف، ويُدمّر لأنه يعجز عن مواجهة الإنسان الحرّ.
وهكذا، أثبتت حرب غزة أنّ هذا الكيان ليس إلا الوجه العسكري لإمبراطورية غربية فقدت بوصلة الإنسانية، وأنّ الأمة — برغم جراحها — ما زالت تملك ما لا يملكه الآخرون: الإيمان بعدالة قضيتها، والصبر الذي يصنع النصر ولو طال الزمن.
ولعلّ أخطر ما أدركه الغرب منذ البداية أن هذه الأمة إن استيقظت، فلن يقف في وجهها شيء. لذلك حرص على أن تبقى مأسورةً داخل منظومةٍ من الضعف الممنهج: أن تبقى مقطّعة الأوصال، مأسورة الفكر، مقيّدة الاقتصاد، ومكبّلة الخيال. وهنا بالضبط تكمن وظيفة الكيان الصهيوني: أن يكون السياج الأخير للهيمنة الغربية، وأن يذكّر الأمة في كل لحظةٍ أنها ما زالت تحت الوصاية.
وهكذا، تكتمل الحلقات الخمس لمشروع السيطرة الغربية: عنفٌ سحق الجسد، وتجزئةٌ قطّعت الجغرافيا، وتغريبٌ شوّه الوعي، وإلحاقٌ اقتصاديّ كبّل الإرادة، وكيانٌ صهيونيّ يحرس كل ما سبق.
لكنّ الصورة لا تكتمل دون الإشارة إلى أنّ أغلب الأنظمة العربية والإسلامية الحديثة كانت ثمرة هذا المشروع نفسه؛ صُنعت في مختبرات السياسة الغربية بعد الاستقلالات الشكلية لتضمن استمرار النفوذ الغربي بأدواتٍ محلية. أُقيمت على أنقاض الاستعمار جيوشٌ وإداراتٌ وطبقات حاكمة تربّت في أحضان المستشارين الأجانب، وتعلّمت أن بقاءها مرهونٌ برضا العواصم الكبرى لا برضا شعوبها.
لقد صارت هذه الأنظمة أحزمة أمانٍ تحمي مصالح الغرب أكثر مما تحمي أوطانها، تُطبّق سياساته الاقتصادية والأمنية مقابل الحفاظ على كراسيها. غير أنّها لم تستوعب درس التاريخ جيّدًا؛ فحين هبّت الشعوب في الربيع العربي الأول (2011م) مطالبةً بالحرية والكرامة، وقفت هذه الأنظمة ومعها الغرب في خندقٍ واحد لإخماد الصوت الجديد الذي أرعب الجميع. لكنّ النتيجة كانت كارثية: رؤساءٌ أطاح بهم الشارع أو التاريخ بطريقةٍ بشعة أو مهينة — من زين العابدين بن علي في تونس، إلى حسني مبارك في مصر، إلى معمر القذافي في ليبيا، إلى علي عبد الله صالح في اليمن، ومن قبلهم صدام حسين في العراق — سقطوا الواحد تلو الآخر، لأنهم ظنّوا أن حماية الكرسي تكفي دون حماية الكرامة (الملحق رقم (10): دروس الربيع العربي الأول (2011م) — بين سقوط الأنظمة واستمرار الوصاية).
لقد علّمتنا تلك التجارب أنّ الأنظمة التي تُبنى على رضا الخارج لا تصمد أمام غضب الداخل، وأنّ الاستبداد ليس درعًا ضدّ الانهيار بل طريقٌ إليه. ومع ذلك، لم تنتهِ القصة بعد، لأن الأمة ما تزال تحتفظ بما هو أعمق من الهزيمة: روحًا تقاوم وتتعلم وتنهض كلّما ظنّ أعداؤها أنها انتهت. وما غزة اليوم إلا الشاهد الحيّ على أن الدم لا يُطفئه إلا النور، وأن أمةً تملك الإيمان والصبر لا يمكن أن تبقى راكعةً إلى الأبد.
خاتمة: نحو وعيٍ جديد وبداية النهوض
إنّ قراءة هذه المراحل الخمس ليست استعراضًا للتاريخ من باب البكاء على الأطلال، بل هي ضرورة وعيٍ واستيقاظٍ حضاريّ. فما من أمةٍ تستطيع أن تواجه حاضرها ما لم تفهم كيف صيغ ماضيها، ولا يمكن أن تبني مستقبلها إن ظلت تجهل أدوات إخضاعها. لقد استخدم الغرب في مشروعه كلّ الوسائل الممكنة: السيف حينًا، والسياسة حينًا، والثقافة والاقتصاد دائمًا، ثمّ سلّم الراية إلى الكيان الصهيوني ليواصل الحراسة من الداخل. لكن ما غاب عنهم أنّ التاريخ لا يُكتب بالقوة وحدها، بل بالإرادة، وأنّ الأمم التي تتذكّر ذاتها لا تموت مهما اشتدّ عليها الحصار.
وما يزيد الجرح عمقًا أن بعض الأنظمة العربية والإسلامية لم تكن ضحية هذا المشروع بل شريكًا فيه؛ فقد اختارت أن تضمن بقاءها بالولاء للخارج لا بالانتماء للداخل، فكانت حارسةً لحدود النفوذ الغربي أكثر مما كانت حاميةً لأوطانها. وعندما هبّت الشعوب في الربيع العربي الأول (2011م) مطالبةً بالحرية والكرامة، اصطفّت تلك الأنظمة مع الغرب لإخماد الشرارة التي أرعبت المستبدّين والمستعمرين معًا. لكنّها لم تفهم بعد أنّ الشعوب قد تُقهر زمناً، لكنها لا تُلغى، وأنّ التاريخ حين يدور، لا يُبقي للمتخاذلين موطئ قدمٍ فيه.
إنّ الوعي بهذه الحلقات ليس دعوةً للكراهية، بل دعوة للتحرّر من الوهم؛ من وهم أنّ الغرب وسيطٌ عادل أو شريكٌ في الإنسانية المتكافئة. فالذي صنع الاحتلال لن يُنهيه، والذي غذّى الضعف لن يمنح القوة. الطريق الوحيد هو أن نستعيد وعيَنا ونبني نهضتنا بأدواتنا نحن: بفكرٍ أصيل، واقتصادٍ مستقل، وتعليمٍ يعيد الإنسان إلى مركز رسالته، لا إلى هامش تقليد الآخر.
وما غزة اليوم إلا النموذج الصارخ لذلك الوعي الجديد؛ فحين يُحاصَر الجسد تنهض الروح، وحين تُغلق الأرض تُفتح السماء. إنها تُذكّرنا أن الأمة لم تمت، وأن التاريخ، مهما طال انكساره، لا يمكن أن يُختتم إلا بنهضةٍ تليق بكرامتها. شكرا لغزة التي عرت الجميع.
فالمعركة ليست مع كيانٍ عابر، بل مع منظومةٍ كاملةٍ من الظلم والهيمنة والتواطؤ. ومعركةٌ كهذه لا تُحسم بالسلاح وحده، بل بالوعي، وبالإيمان، وبإعادة بناء الذات من جديد.
إنها مواجهة بين أمةٍ تبحث عن حريتها، وحضارةٍ تخشى أن تراها تنهض. وبينهما يقف الإنسان المسلم أمام قدره، ليقرّر: هل يكون تابعًا في مشروعٍ غربيٍّ عابر؟ أم رائدًا في مشروعٍ إنسانيٍّ خالد؟
والأمل لا يزال ممكنًا ما دام هناك مقاومة في بلداننا جميعا استقتها من غزة العزة، وعقول تفكّر، وقلوب تؤمن أن المستقبل لنا مهما طال الطريق.الليل.
د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي
——————–
الملحقات
ملحق 1 تعريفي: قادة الحملة الغربية على العالم الإسلامي
1. اللورد إيفلين بارينغ (Lord Evelyn Baring) الملقّب بـ «كرومر» (1841 – 1917م)
كان المندوب السامي البريطاني في مصر بعد الاحتلال (1882–1907م). حكم فعليًا البلاد بقبضةٍ استعمارية صارمة، وأرسى نظام السيطرة الاقتصادية والإدارية البريطانية، فأخضع الزراعة والبنوك والتجارة لسيطرة لندن. كتب لاحقًا كتابه الشهير “Modern Egypt” الذي برّر فيه الاستعمار بوصفه “تمدينًا لشعبٍ غير مؤهل للحكم الذاتي”، في تجسيدٍ كامل للعقلية الاستعمارية المتعجرفة.
2. اللورد هربرت كتشنر (Herbert Kitchener) – «كيتشنر» (1850 – 1916م)
قائد عسكري بريطاني اشتهر بقيادته للحملة على السودان (1896–1898م) والتي انتهت بمذبحة أم درمان، حيث قُتل الآلاف من السودانيين بأسلحة حديثة في مواجهةٍ غير متكافئة. بعد ذلك أصبح الحاكم العام للسودان ثم وزير الحربية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى. يمثّل كيتشنر نموذج “الجنرال الإمبراطوري” الذي استخدم القوة المفرطة لترسيخ الهيمنة البريطانية في إفريقيا.
3. إرفين روميل (Erwin Rommel) – «ثعلب الصحراء» (1891 – 1944م)
قائد ألماني في عهد النازية، قاد قوات المحور في شمال إفريقيا بين 1941 و1943م. اشتهر بذكائه العسكري، لكن حملاته تسببت في دمار واسع بليبيا ومصر وتونس، وشارك في المعارك التي دارت على أرضٍ عربية لمصلحة صراعٍ أوروبي لا شأن لشعوبها به. بقي رمزًا لعسكرة الصحراء واستخدام أراضي العرب ميدانًا لصراعات القوى الكبرى.
هؤلاء القادة الثلاثة لم يكونوا مجرد عسكريين، بل رموزًا لمراحل متعاقبة من الغزو الغربي: كرومر يمثل الهيمنة الاقتصادية، كيتشنر يمثل الإخضاع العسكري، وروميل يمثل تحويل أرضنا إلى ساحةٍ لحروبهم. وكلٌّ منهم ترك بصمته في ذاكرة الأمة بوصفه شاهدًا على زمنٍ كانت فيه البنادق هي اللغة التي فُرض بها “التمدين” المزعوم.
الملحق رقم (2): اتفاقية سايكس–بيكو (1916م) — خريطة تفكيك الأمة
الخلفية التاريخية:
في خضمّ الحرب العالمية الأولى (1914–1918م)، وبعد أن أيقنت القوى الغربية أن الدولة العثمانية – آخر إطارٍ سياسي يجمع الأمة الإسلامية – بدأت تنهار، اجتمع ممثلان عن بريطانيا وفرنسا، هما مارك سايكس (Sir Mark Sykes) وجورج بيكو (François Georges-Picot)، لوضع خطةٍ سرية لتقسيم أراضي المشرق العربي بعد سقوط الدولة العثمانية، بموافقةٍ روسية ضمنية.
مضمون الاتفاقية:
نصّت الوثيقة على تقسيم المشرق العربي إلى مناطق نفوذٍ غربية:
- المنطقة الزرقاء (فرنسا): وتشمل سوريا ولبنان وجنوب الأناضول، أي الساحل الشرقي للمتوسط.
- المنطقة الحمراء (بريطانيا): وتشمل العراق والأردن وفلسطين والخليج العربي ومناطق النفوذ حول قناة السويس.
- المنطقة البنية (دولية): وهي فلسطين تحديدًا، التي خُصصت لتكون منطقة إدارة دولية، تمهيدًا لإقامة الكيان الصهيوني لاحقًا.
- كما منحت الاتفاقية لروسيا القيصرية نفوذًا في الأناضول الشرقي ومضائق البوسفور والدردنيل.
النتائج والتداعيات:
كانت سايكس–بيكو أول خنجرٍ رسمي في جسد الأمة بعد قرونٍ من الوحدة، إذ حوّلتها إلى كياناتٍ مجزّأةٍ خاضعةٍ لحدودٍ مصطنعة.
- قُسمت القبائل والعائلات بين دولٍ جديدة لم تعرفها من قبل.
- تغيّرت الخرائط، وتحوّل البحر المتوسط إلى حاجزٍ بدل أن يكون جسرًا.
- فُرضت أنظمة حكمٍ تدين بالولاء للمستعمر.
- ومهّدت الاتفاقية الطريق مباشرةً لـ وعد بلفور (1917م)، الذي أعلن فيه وزير الخارجية البريطاني دعم بلاده لإقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين.
وهكذا مثّلت سايكس–بيكو نقطة التحول من الاحتلال العسكري إلى الاستعمار السياسي المُمأسس، إذ لم تعد الأمة تحت حكم جيوشٍ أجنبية فحسب، بل تحت نظمٍ محلية صُممت على مقاس المصالح الغربية.
الملحق رقم (3): أبرز المعاهدات والاتفاقيات التي كرّست تجزئة الأمة (1916م – 1923م)
| رقم | المعاهدة / الاتفاقية | التاريخ | الأطراف الموقعة / المشاركة | الهدف المعلن | النتيجة الفعلية / الأثر في الأمة |
|---|---|---|---|---|---|
| 1 | اتفاقية سايكس–بيكو | 1916م | بريطانيا 🇬🇧 – فرنسا 🇫🇷 – روسيا القيصرية 🇷🇺 | تقاسم أراضي الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى | تقسيم المشرق العربي إلى مناطق نفوذ غربية، وتمهيد الأرضية السياسية لوعد بلفور وإنشاء الكيان الصهيوني. |
| 2 | وعد بلفور | 1917م | بريطانيا 🇬🇧 (آرثر بلفور – وزير الخارجية) | دعم إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين | الاعتراف السياسي الأول بالمشروع الصهيوني، وبدء التهجير المنظّم لليهود إلى فلسطين تحت حماية بريطانية. |
| 3 | مؤتمر سان ريمو | 1920م | بريطانيا 🇬🇧 – فرنسا 🇫🇷 – إيطاليا 🇮🇹 – اليابان 🇯🇵 (قوى الحلفاء المنتصرة) | توزيع “الانتدابات” على أراضي الدولة العثمانية السابقة | منح بريطانيا انتدابًا على فلسطين والعراق، وفرنسا على سوريا ولبنان، وإضفاء “شرعية دولية” على الاستعمار. |
| 4 | معاهدة سيفر | 1920م (10 أغسطس) | الدولة العثمانية المهزومة – قوى الحلفاء | تفكيك الدولة العثمانية واقتطاع أراضيها لصالح القوميات والأقليات | تقليص أراضي الدولة العثمانية إلى الأناضول، وفرض وصاية غربية على معظم الأقاليم الإسلامية. |
| 5 | معاهدة لوزان | 1923م (24 يوليو) | تركيا الحديثة 🇹🇷 – دول الحلفاء | مراجعة بنود معاهدة سيفر وتثبيت الحدود الجديدة | إلغاء الخلافة فعليًا، تثبيت الحدود التركية الحالية، وإضفاء الطابع النهائي على تجزئة العالم الإسلامي. |
الملحق 4 : خريطة وصفية: المشرق بعد التقسيم
بعد تلك المعاهدات المتتابعة، تغيّر وجه المشرق العربي كما لو أنّ يدًا غريبة أعادت رسمه بمسطرةٍ باردة لا تعرف حرارة التاريخ ولا نبض الشعوب.
فأصبحت سوريا ولبنان في حضن النفوذ الفرنسي، تُدار بلسان باريس وتُربّى على قيمها.
ووقعت العراق والأردن وفلسطين تحت الكفّ البريطانية، تتنقّل بينها الجيوش والموظفون كما تتنقّل البضائع في موانئ الإمبراطورية.
أمّا فلسطين فكانت المأساة الأعظم، إذ جُعلت منطقةً «دولية» في ظاهرها، تمهيدًا لزرع الجرح المزمن في قلب الأمة: الكيان الصهيوني.
في الشمال، تقلّصت الدولة العثمانية إلى تركيا الحديثة بعد أن فُصل عنها العرب والبلقان،
وفي الجنوب، فُصلت الجزيرة العربية والخليج إلى إماراتٍ وسلطناتٍ متفرّقة خاضعة للحماية البريطانية.
وهكذا، انكسرت الخريطة كما ينكسر الزجاج:
ألوانٌ متباعدة، وحدودٌ مصطنعة، وأوطانٌ جديدة بلا ذاكرة.
لم يعد المشرق العربي كما كان — جسدًا واحدًا ممتدًّا من الأناضول إلى عدن — بل رقعًا متناثرة على رقعة الشطرنج الدولية، يتحكم الغرب في حركتها، ويراقب أن لا يجتمع منها حجرٌ إلى حجر.
الملحق رقم (5): أمثلة على “التأديب السياسي والعسكري والإعلامي” في التاريخ الحديث
تُظهر هذه النماذج أنّ «التأديب الغربي» لا يقتصر على القنابل، بل يشمل الحصار، والإعلام، والانقلابات الناعمة، وتزييف الوعي. كل محاولةٍ نهوضية تُقابَل إمّا بالاحتواء، أو بالإسقاط، أو بالتشويه. وهكذا يُعاد ضبط الإيقاع السياسي للأمة كلما حاولت أن تعزف نغمة الحرية.
| رقم | الحدث / التجربة | التاريخ | نوع التأديب | الجهة أو القوى المتدخلة | النتيجة الفعلية / المآل |
|---|---|---|---|---|---|
| 1 | الثورة العربية الكبرى | 1916م | سياسي وعسكري | بريطانيا وفرنسا | استُخدمت الثورة لتفكيك الدولة العثمانية، ثم خُذل العرب باتفاقية سايكس–بيكو وتقسيم أراضيهم. |
| 2 | ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي | 1954–1962م | عسكري وإعلامي | فرنسا، بدعم أطلسي ضمني | قُتل أكثر من مليون جزائري، وواجهت الثورة حملات إعلامية ضخمة لتشويهها، قبل أن تنتزع استقلالها بعد تضحيات جسيمة. |
| 3 | الوحدة المصرية–السورية (الجمهورية العربية المتحدة) | 1958–1961م | سياسي واقتصادي وإعلامي | الغرب وحلفاؤه الإقليميون | أُفشلت بالتحريض الداخلي والتآمر الخارجي، لتبقى الأمة مجزّأة. |
| 4 | الثورة الإسلامية في إيران | 1979م | سياسي واقتصادي وإعلامي | الغرب والولايات المتحدة | حُوصرت الثورة بالعقوبات، وشُيطن خطابها في الإعلام العالمي لأنها خرجت من دائرة التبعية الغربية. |
| 5 | تجربة أربكان في تركيا | 1996م | سياسي وعسكري | حلف الناتو والجيش التركي | أُطيح بحكومته بانقلاب «ناعم» بسبب محاولته بناء صناعة عسكرية وطنية وتقليل الاعتماد على الغرب. |
| 6 | الربيع العربي | 2011م | سياسي وإعلامي وأمني | قوى إقليمية ودولية متداخلة | انطلقت شعارات الحرية، لكن التدخلات الخارجية حولتها إلى فوضى، فتم وأد إرادة الشعوب ووأدت معها فكرة النهضة. |
الملحق رقم (6): مقارنة بين النخبة الأصيلة والنخبة المتغربة في العالم الإسلامي الحديث
تجسّد النخبة الأصيلة مشروعًا نهضويًا مستقلًا، ينطلق من الذات ويستفيد من الآخر بوعي. بينما تُجسّد النخبة المتغربة مشروعًا تابعًا، يرى ذاته من خلال مرآة الغرب. وبين هذين النموذجين ظلّت الأمة تتأرجح قرنًا من الزمان بين من يريد لها أن تنهض على قدميها، ومن يريدها أن تظلّ تسير خلف غيرها.
| البند | النخبة الأصيلة | النخبة المتغربة |
|---|---|---|
| المرجعية الفكرية | تستمدّ فكرها من القرآن والسنة والتراث الحضاري الإسلامي، وتؤمن بقدرة الأمة على التجديد الذاتي. | تستمدّ فكرها من الفلسفات الأوروبية (الوضعية، الليبرالية، العلمانية)، وتعتبر الغرب النموذج الأعلى للحضارة. |
| اللغة والثقافة | تعتزّ بالعربية كلغةٍ للعلم والهوية، وتعمل على تجديدها لتواكب العصر دون التفريط في أصالتها. | تكتب وتفكر باللغات الأوروبية (الفرنسية، الإنجليزية)، وتراها أرقى من لغتها الأم. |
| الهدف من التعليم | بناء إنسانٍ متوازنٍ يجمع بين الإيمان والعقل، ويخدم أمته بعلمه. | إعداد جيلٍ من الموظفين والخبراء يدورون في فلك المصالح الغربية ويخدمون مشاريعها. |
| الموقف من التراث | يرى التراث أساس النهضة، ومصدر العزة والهوية. | يرى التراث عبئًا يجب تجاوزه أو تفكيكه باسم الحداثة. |
| العلاقة بالغرب | يتعامل مع الغرب بندّيةٍ نقدية: يأخذ ما ينفع، ويرفض ما يتعارض مع قيمه. | يتعامل مع الغرب بتبعيةٍ فكرية وثقافية: يقلّده في النموذج والمفاهيم والسلوك. |
| الوظيفة الاجتماعية | يسعى لنهضة الأمة واستقلالها، ويقف في وجه الهيمنة الأجنبية. | يروّج للفكر الغربي، ويبرّر التبعية السياسية والاقتصادية باسم “التقدّم” و”العصرنة”. |
| الرموز البارزة | محمد عبده، عبد الحميد بن باديس، مالك بن نبي، أبو الحسن الندوي، علي شريعتي. | طه حسين، سلامة موسى، فرح أنطون، بعض خريجي المدارس الاستعمارية والجامعات الغربية. |
الملحق رقم (7): سير موجزة للمثقفين المتأثرين بالفكر الغربي في مصر الحديثة
مثّلت هذه الشخصيات التالية الجيل الأول من النخب المتغربة التي رأت في الغرب منارةً للتقدم وفي التراث عائقًا أمام النهضة. ومع اختلاف نياتهم ودرجات وطنيتهم، إلا أنّهم أسسوا لفكرةٍ خطيرة: أنّ طريق النهضة يمرّ عبر بوابة الآخر، لا من داخل الذات.
| الاسم | الحياة | التعريف الموجز | الأثر الفكري |
|---|---|---|---|
| رفاعة رافع الطهطاوي | (1801–1873م) | إمام وأديب ومترجم مصري، أُوفد إلى فرنسا إمامًا لبعثةٍ طلابية، ثم عاد متأثرًا بالفكر الأوروبي. | يُعدّ أول من نقل أفكار التنوير الغربي إلى مصر عبر كتبه مثل تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ودعا إلى تحديث التعليم والإدارة على النمط الفرنسي. |
| علي باشا مبارك | (1823–1893م) | مهندس ومصلح إداري، تلقّى تعليمه في فرنسا، وتولّى مناصب عليا في الدولة المصرية الحديثة. | ساهم في إنشاء المدارس الحديثة وتنظيم التعليم المدني، وأدخل النظام البيروقراطي الغربي في الإدارة المصرية. |
| طه حسين | (1889–1973م) | أديب وناقد ووزير مصري، درس في الأزهر ثم في السوربون بفرنسا. | دعا في كتابه مستقبل الثقافة في مصر إلى تبنّي النموذج الأوروبي في التعليم والثقافة، معتبراً أن مصر جزء من الحضارة المتوسطية. |
| سلامة موسى | (1887–1958م) | كاتب ومفكر قبطي مصري، درس في أوروبا وتأثر بالفكر العلماني والاشتراكي الغربي. | نادى بإحلال الفكر الأوروبي محلّ الفكر الديني، ودعا إلى «عصرٍ جديد للعقل والعلم»، وهاجم التراث العربي والإسلامي باعتباره عائقًا أمام التقدّم. |
الملحق رقم (8): معطيات اقتصادية مختارة عن الإلحاق الاقتصادي في العالم العربي والإسلامي
لقد تحوّل الاقتصاد العربي والإسلامي إلى امتدادٍ وظيفي للغرب، ينتج ما لا يستهلك، ويستهلك ما لا ينتج. واستُبدلت الهيمنة العسكرية بالهيمنة المالية، فأصبحت المصارف والبورصات والعقود التجارية الحديثة أدواتٍ جديدة للاستعمار، لا تقلّ فتكًا عن المدافع القديمة.
| المجال | الفترة التاريخية | المعطيات / النسب التقريبية | الجهة المستفيدة | النتيجة |
|---|---|---|---|---|
| الزراعة المصرية (القطن) | 1882–1940 | 60–70٪ من الأراضي المزروعة مخصّصة للقطن للتصدير | مصانع النسيج البريطانية | نقص غذائي محلي، ارتفاع أسعار القمح، تبعية اقتصادية. |
| الزراعة الجزائرية (الكروم) | 1900–1950 | 1.5 مليون هكتار تحت زراعة الكروم والعنب الصناعي | مصانع الخمور الفرنسية | تفقير الفلاحين، تحويل الجزائر إلى مزرعة لصالح فرنسا. |
| التجارة البحرية (الموانئ) | القرن 19–20 | إنشاء أكثر من 20 ميناء استعماري على المتوسط والأطلسي | فرنسا وبريطانيا وإيطاليا | ربط الموانئ بخطوط التصدير الأوروبية بدل التجارة الداخلية. |
| النفط العربي | 1950–1970 | 90٪ من الإنتاج بإدارة شركات غربية (BP، Aramco، Shell) | الاقتصاد الغربي | تثبيت الاعتماد المالي والتكنولوجي على الغرب. |
| المصارف والعملة | منذ 1890م | تأسيس أول بنوك استعمارية في مصر وتونس والمغرب | بنوك فرنسية وبريطانية | السيطرة على الائتمان المحلي وربط العملة بالمصارف الغربية. |
الملحق رقم (9): الحرب على غزة بعد 7 أكتوبر 2023 – الأرقام تتحدث
كشفت حرب غزة عن الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني وعن ازدواجية المعايير الغربية في أبهى صورها:
إبادة جماعية تُبَثّ مباشرة أمام العالم، وصمتٌ رسمي من القوى الكبرى، وتبريرٌ أخلاقي باسم «الدفاع عن النفس»، ومضاعفة للمساعدات العسكرية بدل إيقاف آلة القتل. لقد تحولت غزة إلى مرآة للضمير الإنساني: فيها سقطت أسطورة “إسرائيل الديمقراطية”، وانكشف زيف الخطاب الغربي الذي طالما رفع شعار حقوق الإنسان. فبعد 7 أكتوبر، لم يعد السؤال: هل ترتكب إسرائيل جريمة؟ بل: كم جريمة يمكن للعالم أن يتجاهلها وهو يدّعي الحضارة؟
| المؤشّر | القيمة التقريبية (حتى أكتوبر 2025) | المصدر / التوثيق | الملاحظات الأساسية |
|---|---|---|---|
| عدد الشهداء | أكثر من 67 000 شهيد | وزارة الصحة في غزة – تقرير أكتوبر 2025، رويترز، الأمم المتحدة | يُقدّر أنّ نحو 30 % من الضحايا أطفال و20 % نساء. |
| عدد الجرحى | نحو 169 000 جريح | رويترز – إحصائية 7 أكتوبر 2025 | كثير منهم أُصيبوا بعاهات دائمة نتيجة القصف العشوائي. |
| الدمار العمراني | تدمير أكثر من 70 % من مباني القطاع | UN OCHA، UNRWA | انهيار شبه تام للبنية التحتية (المياه، الكهرباء، المستشفيات، المدارس). |
| عدد النازحين داخليًا | نحو 1.9 مليون نازح من أصل 2.3 مليون | UNRWA – تقرير صيف 2025 | نزوح قسري متكرر نتيجة القصف والتجويع. |
| المنشآت الصحية المستهدفة | أكثر من 35 مستشفى وعيادة | منظمة الصحة العالمية | استهداف مباشر للمرافق الطبية وسيارات الإسعاف. |
| المنازل المدمّرة كليًا | أكثر من 300 000 منزل | برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) | آلاف الأسر فقدت مأواها نهائيًا. |
| الدعم الغربي لإسرائيل خلال الحرب | ما يفوق 20 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية + تسليح من دول أوروبية | الكونغرس الأمريكي، وزارة الدفاع البريطانية، بيانات الاتحاد الأوروبي | استمرار الإمدادات رغم الإدانات الدولية. |
الملحق رقم (10): دروس الربيع العربي الأول (2011م) — بين سقوط الأنظمة واستمرار الوصاية
لقد أوقف الغرب مسار الربيع العربي الأول حين أدرك أنه يهدد بنية الأنظمة التي صنعها ورعاها منذ عقود. فاستبدل الاستبداد القديم بفوضى جديدة، وحوّل الثورات إلى أوراق ضغطٍ سياسية واقتصادية، بينما بقيت الشعوب تدفع ثمنًا باهظًا من دمها واستقرارها.
ومع ذلك، يبقى الدرس الأعظم أنّ الحرية لا تُمنح من الخارج، بل تُنتزع من الداخل، وأنّ الأمة إذا أعادت بناء وعيها ستنهض من رماد الربيع الأول إلى فجرٍ عربيٍّ جديد لا وصاية فيه ولا خوف.
| البلد | الحدث الرئيسي | النظام أو الرئيس الذي سقط | طبيعة السقوط | المآل السياسي والاقتصادي | الدرس المستفاد |
|---|---|---|---|---|---|
| تونس | اندلاع الثورة من مدينة سيدي بوزيد في ديسمبر 2010م | زين العابدين بن علي | فرار إلى السعودية في 14 يناير 2011م | انتقال سياسي متعثر، ثم انقلاب ناعم على التجربة الديمقراطية (2021م) | يمكن للشعوب أن تُسقط الاستبداد، لكن غياب المشروع الوطني الموحّد يعيد إنتاجه بأشكال جديدة. |
| مصر | ثورة 25 يناير 2011م في ميدان التحرير | حسني مبارك | تنحٍ قسري بعد ضغط شعبي هائل (فبراير 2011م) | انتخابات حرة قصيرة العمر، ثم انقلاب عسكري (2013م) أعاد الحكم الأمني | لا نهضة بلا مؤسسات راسخة تحمي إرادة الشعب من الارتداد. |
| ليبيا | انتفاضة فبراير 2011م ثم تدخل الناتو | معمر القذافي | قُتل بطريقة مأساوية في أكتوبر 2011م | انهيار الدولة، فوضى أمنية، وتدخل خارجي واسع | الاستبداد الطويل يُسقِط الدولة بسقوط الحاكم، إذ لا مؤسسات تبقى بعده. |
| اليمن | احتجاجات فبراير 2011م ضد حكم صالح | علي عبد الله صالح | تنحٍ باتفاق سياسي (2012م) ثم مقتله (2017م) | حرب أهلية مدمّرة وتدخلات خارجية متعددة | غياب التوافق الداخلي يجعل الثورات مطيّة للصراع الإقليمي. |
| سوريا | انتفاضة مارس 2011م تحولت إلى صراع مسلح | بشار الأسد (باقٍ في الحكم) | دعم عسكري روسي وإيراني وغربي متناقض | تدمير واسع، نزوح أكثر من 6 ملايين سوري | حين تُخطف الثورة من أهلها، تتحول إلى ساحة صراع بين القوى الكبرى. |
| العراق(سابقًا 2003) | غزو أمريكي قبل الربيع العربي | صدام حسين | إعدام بعد محاكمة صورية (2006م) | انهيار مؤسسات الدولة، وتمزيق النسيج الاجتماعي | الاحتلال لا يجلب الحرية، بل يكرّس التبعية والانقسام. |
المقالات ذات الصلة
https://dr-achbani.com/في-بيان-كيف-أجهز-طوفان-الأقصى-استراتيج



