المنبر الحر

يا بشراي بلقاء أستاذي أبي الشتاء! الجزء الاول

ذ ابراهيم أعبيدي

يا بشراي بلقاء أستاذي أبي الشتاء!( الحلقة الاولى)

أكادير في 07 يناير 2024.

بينما كنت صباح هذا اليوم، بأكادير، صافي الذهن، مقبلا على الحياة، أُجِدُّ السير، مستغرقا في حصة من رياضة المشي، أحاول أن أصلح بها، من الجسم، ما أحدَثتْه فيه عوادي الدهر، وأدفع بها بعض وهنِ التقدم في السن؛ إذا بجهاز هاتفي النقال يهتز ويرن، فتنحيت جانبا، بعد أن توقفت عن السير، وقلت في نفسي: لعله طارقُ خير. فالتقطته من جيبي، كما تلتقط الأم الرضيع الإبن، لتُسكت صراخه بضمة إلى الحضن، وتيممت شاشته أُطِلّ، بعد أن آويت بها إلى الظل، فإذا بي أرى اسم أستاذ لي من فاس، هو الدكتور السكيوي أبو الشتاء، لم أره، منذ قرابة نصف قرن، وذلك حينما زارني، في الرباط بالدار، وأنا طالب بجامعتها في أول طور، فكأني بنور ذلك الاسم، قد ملأ مني بؤبؤَ العين.

الدكتور السكيوي أبو الشتاء

فتحتُ الخطَّ كي أجيب، على الفور، فإذا صوته الحنون يبادر إلى أعماق الأذن، مبشرا بخير خُبْر. بعد أن ألقى علي السلام، وسألني عن الحال، بادر إلى السؤال: هل أنت ألسي عابدي بأكادير الآن؟ قلت: نعم، فقال: إني وزوجتي، نازلان بها لبضعة أيام. قلت: يابشراي، مفاجأة أفرحتني بها، أستاذي، لم تكن لي على بال، والحمد لله الذي أحيى بيننا الصلة بعد ما أماتها دهرا، وهو إذا يشاء، قادر على جمع الأحبة، وقد يسر لنا بكم لقاء، بعد فراقِ حوالي خمسين عاما، أين أنتما، لأنزلكما عندنا في الدار؟ فقاطعني وقال: لا، نحن بالفندق نازلان. ولدينا برنامج لنصل، في الله، مجموعة من الإخوان، ونحب أن تزورنا بالنزل، نملأ ، من بعضنا البعض، العين، ونتجاذب أطراف الكلام. فلو تفضلت، وقدِمت إلينا فورا، فإننا في انتظارك الآن!

لقد كان لقاء، كأي لقاء للأحبة، بعد طول مدة، يمتزج فيه الشعور بالفرحة، مع الرغبة في البكاء، وقد تدفقت فيه، أمواجٌ من الكلام، تريد أن تخرج دفعةً، من فَمَيْ كِلَيْ الجليسين، واندفعت في ازدحام، حتى إنك تكاد ترى كُتَل الكلام قد انضغط منها الجانبان، كما يحدث، في حوداث الاصطدام، لطابور من السيارات في الطريق السيار

‏رتبت أمْرَ ما كنتُ فيه من انشغال، رغم أني لم يتيسر لي أن أذهب، وشأني على اكتمال، ثم توجهت مُسرعا، إلى حيث قد حط الرحال، فوجدته، رغم إبطائي عنه، صابرا في الانتظار. إذ لمحتُ مَلْمَح رجُلٍ مرفوع الهام، لا زال مستقيم القامة، متزن الوقفة، معتدل المشية، حسَنَ المظهر أنيق االهندام، لا تكاد تدرك، من أول وهلة، أنه قد أصبح شيخا، منذ مدة، حيث لا تزال تعلو بشرته مسحةٌ من الرطوبة والشّقرة، وعليه أثر نضرة النعمة، كما لو أنه حضر، للتو، من أجواء جوار الجنة. ومن جهة أخرى، فقد كسا الشيب شعره، دون أن يُلاحظ على حركاته تسللُ البطء من العياء، فكان اللقاء أشبه بكرامة الأولياء، من حيث أنه لم يكن لي في الحسبان، ولا واردا في الإمكان. بل أكاد أزعم زعما، أن قصته تبدو وكأنها تمُتُّ بِصِِلة ما، إلى قصة معجزة عودة عُزير، بعد أن أماته الله مائة عام، مع قصة أصحاب الكهف إذا “التقوا مع أنفسهم”، حين البعثة، بعد نومة ثلاثمائة من الأعوام.

{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}

يا بشراي بلقاء أستاذي أبي الشتاء! ( الحلقة الثانية)

أكادير في 07 يناير 2024.

كما أنه كان لقاء غاية في النذرة، التقى فيه أمران، تقبيل رأس ويد أستاذ كفء من الكبار، مع إقباله بعطف وحنان، على احتضان تلميذه بالأحضان، وكأني بتلك اليد تأخذ بيدي اليسرى، إلى حيث كان يجلس مع امرأته الفضلى، ببهو الفندق، في تلك اللحظة، فجلسنا نتحادث، ونحن متقابلان. وهي تقول لي أكثر من مرة: إنه ظل يَذكرك ولا يزال.

لقد كان لقاء، كأي لقاء للأحبة، بعد طول مدة، يمتزج فيه الشعور بالفرحة، مع الرغبة في البكاء، وقد تدفقت فيه، أمواجٌ من الكلام، تريد أن تخرج دفعةً، من فَمَيْ كِلَيْ الجليسين، واندفعت في ازدحام، حتى إنك تكاد ترى كُتَل الكلام قد انضغط منها الجانبان، كما يحدث، في حوداث الاصطدام، لطابور من السيارات في الطريق السيار. بل وكأنما تمردَت، في كِلَينا، رقابةُ منعِ التكلم معا، في نفس الآن، على نظام التحدث باحترام تناوب الأدوار، وكأن كل واحد منا يريد أن يقول لصاحبه، دفعةً ،كلَّ ما تبقَّى متراكما في جوفه، مما لم يقله له، منذ اعوام. ومن جهة اخرى تزاحمت علينا مواضيع الكلام، مابين تذَكُّر الذكرى والإيناس بالنكتة والإمتاع بالطُّرفة، والإفادة من الحكمة، واستخلاص العبرة، والسؤال عن الأحوال، والاستنفاع بالعظة، والحث، فيما تبقّى، على المبادرة بصالح ونافع الأعمال، والبحث عن سبل التكيف مع ما طرأ علينا، مِن تقدّم في سِنّ الأعمار، وبذْلِ النصح ومشاركة التجربة والخبرة في الكتابة والنشر الإصدار.

بل قد كان، في ذلك اللقاء، حتى بث الشكوى، وتسرية آلام وأحزان الشعور بتبذل أخلاق كثير، من أهل هذا الزمان، في مجال التباذل والتزاور والاتصال، خاصة وأن أستاذي أبي الشتاء، كما عرفته، وأنا لا أزال يومئذ من الاغرار، له قلب طيب شفاف مثل “كأس البلار”، قد ملئ حبا، لا يعرف الحقد ولا الكره ولا الغدر، خَيِرُ النفس، سليم الصدر، يتحوِّط من سوء الظن بالتماس الأعذار، لتصرفات الأغيار. فمثل ذلك القلب، مثل دار الأجاويد الكرام، مفتوح بصدق، لكل من آوى إليه، من الأغيار، تماما كحال ما يملك من بيت أو دار. كما أنه يجيب كل من دعاه ولو كان دونه معاناة وعورة طُرق الجبال، متواضع إلى أبعد حد، عافاه ربه من داء الكبْر، لا يحقر ولو كراع شاة إذا دعي إليه كطعام، وإن أرض إقليم تارودانت، لَتشهد، على طيب سيرته إلى الآن.

يا بشراي بلقاء أستاذي أبي الشتاء! ( الحلقة الثالثة)

أكادير في 08 يناير 2024.

ومما أمتعني ونفعني الله به، خلال ذلك اللقاء، وألهمني به لأستاذي أبي الشتاء، مزيدا من التقدير والإكبار، أن الكلام، معه يجعلك تكتشف أنه، في تعامله، مع “طمع الدنيا”، ومعاملته للخلق على سواء، يشبه متصوفا، من أهل الله بالفطرة، على طريقة أعلام أهل السنة. فهو يتصرف، في غير كلفة ولا حبٍّ للسمعة، ولا تَصنُّعٍ أو تلَبُّسٍ بالرياء. صادق القلب واللسان، يعبر عن شعوره، في غير تعَرُّج ولا التواء، ودون أن يجافي جانب الأدب والحياء. مطمئن، يسير على مَهله. قويٌّ في نقده. صليب في نُصحه، مع حٍدَّة، تُلازم أهل الغيرة والإباء، يسلطها على من داس بنعله، على بساط حرمة الحق وأهله، واثقُ من نفسه، ثابت في قوله، واضح في عمقه، سهلٌ في فهمه، لايرهقك بالاضطرار إلى استعمال حساب أوجهٍ شتى، في الاحتمال، لسبره. هَيِّن مطاوع لِخِلِّه، لين متسامح في حقه.

حتى انك تجده قد كتم بعض الآلام، جراء أذى بعض الأغيار، وأبقى بعض الأعمال، في الخفاء، ولولا قوة سلطان تداعي “رَمْل” الكلام، ما علِمها أحدٌ من الأغيار، ولا بدت للعيان. وإني، وحاشا أن أُقَدّم بين يد الله فأزكيه، ما أحسبه، بتلك الحال، فيما بينه وبين الخَلق، إلا قد ترَك شأنه لله وحده، وفوض إليه أمْرَه، وأنه قد طهَّر، من درن الطمع والشحِّ قلبََه، وكأنما يتزكى لله في صمته، بلا تكلُّف ولا تزلُّف لعبدِه، ولا جعجعة يجمعهم بها مِن حولِه. وكأنه مُتَزَيِّن بالفطرة والسجِيَّة، محبوب من طرف البريّة، بجاذبية جمال الطوية. فطوبى له بتلك الحال!

(يتبع في الجزء الثاني)

ذ. ابراهيم أعبيدي، كاتب و مفكر وبرلماني سابق

مقالات الكاتب السابقة :

https://dr-achbani.com/حول-طبيعة-الإصلاح-34-و-35-و-36/
https://dr-achbani.com/حول-طبيعة-الإصلاح-31-و-32-و-33/
طبيعة الإصلاح -ابراهيم اعبيدي -الفساد-https://dr-achbani.com
https://dr-achbani.com/حول-طبيعة-الإصلاح-25-و-26-و-27/
https://dr-achbani.com/مع-الاستاذ-ابراهيم-أعبيدي-حول-طبيعة-ال-5/
حول طبيعة الإصلاح – dr-achbani.com -الجهاد- التعصب – الاسلام
مذ ابراهيم أعبيدي حول طبيعة الإصلاح -19- dr-achbani.com
مع ذ ابراهيم أعبيدي طبيعة الإصلاح -17- و -18- Dr-achbani.com
-براهيم أعبيدي-حول طبيعة الإصلاح -15-16 dr-achbani.com
مع الاستاذ ابراهيم أعبيدي : حول طبيعة الإصلاح 13 و14- dr-achbani
مع الاستاذ ابراهيم أعبيدي : حول طبيعة الإصلاح -11- و -12- – الموقع العلمي للدكتور الحسن اشباني (dr-achbani.com)
حول طبيعة الإصلاح -9- و -10- (dr-achbani.com)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Radio
WP Radio
OFFLINE LIVE