مع الاستاذ ابراهيم أعبيدي : مَغْرَبَ اللهُ الزلزال، فأنطقه وقال.


قلت له:
“ما تقول في أمر وقوع هذا الزلزال، الذي أصاب قلب المغرب الاقصى، قبيل انصرام الربع الثالث من هذا العام، وفَجعَنا في كثير من إخواننا واهلنا الكرام؟ أطرقَ قليلا وزفر زفرة ظننتها أخرجت معها، من صدره، كثلة ثقيلة من الأحزان. ثم أسند ظهره بجنب الطريق إلى جدار، وتبسم ضاحكا مِن قَوْلي.”
وقال:
“وهل يحتاج هذا الزلزال، بعد أن تمغرب، إلى من يحكي عنه أو إلى ترجمان، وقد انطقه الله كما أنطق الإنسان، فتكلم بنفسه فأفصحَ عن نفسه وأبانَ؟!“


مَغْرَبَ اللهُ الزلزال، فأنطقه وقال. (1).
أكادير في 19 شتنير 2023.
قال الراوي، وقد أثقل لسانه الشوق والحنين إلى وجبات التدوين، بينما أنا شارد أسير، خلال مجمع سكني بمدينة أكادير، إذ لقيت أبي محمد ابراهيم، فلم أشعر إلا وقد تقابلنا بالوجهين. فصِحت، وقد تلعثم مني اللسان مرة أو مرتين، وارتبكَت مني بنات الشفتين: يا اهلا بأبي محمد، بل يا أهلين! أين غيّبَك عنا زمانك، يا إبراهيم، خلال كل هذين الشهرين، فلم نعد نصادف ما عودتنا عليه من تدوين؟ تكأكأ الرجل تكأكؤ المهموم الحزين، ثم نظر إلي بعينين تحمل كل منهما مِن كل همّ همين، وقال يا ايها السائل رفقا بالمسؤول المسكين، فما جعل الله في جوفي من قلبين!.


مَغْرَبَ اللهُ الزلزال، فأنطقه وقال. (2).
أكادير في 20 شتنير 2023.
قال يا أيها السائل عن الاحوال، لا تسرف في طرح السؤال، إن الإسراف في السؤال قد يكون نوعا من العدوان. وما حياة الخَلق، يا صاح، في هذه الدار، إلا مكابدة للابتلاء في امتحان ضبط كفتي الميزان، فيما يشبه حياة ربان السفينة في ظلمات البحار، إذ يكابد مسؤولية توجيه ميزان شراع السفينة في قلب الإعصار. فاللهم لا تشغلنا بفتنة السؤال، عن مجاهدة النفس في درب الانشغال بإعداد الجواب للقاء الملك الديان. وسلم اللهم الجرة من سوء ما ياتي به الزمان، وسدد الخطوة في كل آن، وثبت الأقدام على أرضية خير مسار، واعصمنا من شر الغفلة وسوء الانشغال، عن مراتب واجبات الوقت وتفاضلِ الأعمال، واسترنا يا ستار، فيما بقي من الاعمار، حتى توردنا حسن الختام!

… وقد سمى الله لغة الطير منطقا في القرآن، في معرض الكلام عن قصة نبيه سليمان. وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميع ما خلق الله، مما تدركه الابصار، فهو، بهذا المعنى، ينطق بكلام، ويفيد كل أولي الأبصار بحظ من البيان. ويدخل في هذا الإطار، ما قد يقدره الله من زلزال، وإن كان يتميز بمزلزِل الكلام!
ذ ابراهيم أعبيدي

مَغْرَبَ اللهُ الزلزال، فأنطقه وقال. (3).
أكادير في 20 شتنير 2023.
ثم إني لما أدركت ان أبا محمد الدوان، قد أصر على ترحيل موضوع السؤال، من مجرد مناسبة لتفريغ شكوى شخصه من عبوس الحال، إلى التذكير بصُلْب حقيقة وجود الإنسان، بالإشارة إلى بعض ما فتح الله به من أفكار، وما وَفق إليه من استحضار بعض معانٍ مما ينفع في التمثل بالادِِّكار ويساعد النفس على استشعار نور التعقل والاهتداء والاعتبار، استجمعْتُ ما يَسَّر الله من بقية رمقِ البداهة وقدرة على البِدار، لإعادة توجيه وتكييف السؤال. فقلت: يا أبا محمد، أريد أن أسألك سؤالا غير هذا السؤال!
نظر إلي من طرف خفي كالخجلان، وقال: تفضل، وأفدني بذلك السؤال، وسأنظر إن كنت أطيق شيئا من الجواب عنه، وكان في الإمكان، فإني لست ممن له زادٌ مِنْ عِلمٍ يصلح للكلام، ولا لي باع في الاطلاع ولا مقام!! فقلت: ما تقول في أمر وقوع هذا الزلزال، الذي أصاب قلب المغرب الاقصى، قبيل انصرام الربع الثالث من هذا العام، وفَجعَنا في كثير من إخواننا واهلنا الكرام؟ أطرقَ قليلا وزفر زفرة ظننتها أخرجت معها، من صدره، كثلة ثقيلة من الأحزان. ثم أسند ظهره بجنب الطريق إلى جدار، وتبسم ضاحكا مِن قَوْلي وقال: وهل يحتاج هذا الزلزال، بعد أن تمغرب، إلى من يحكي عنه أو إلى ترجمان، وقد انطقه الله كما أنطق الإنسان، فتكلم بنفسه فأفصحَ عن نفسه وأبانَ؟!


مَغْرَبَ اللهُ الزلزال فأنطقه وقال. (4).
أكادير في 22 شتنير 2023.
قلت لأبي محمد الدوان: وكيف تكون للزلزال القدرة على الكلام؟! سدد سبابته اليمنى واشار بها إلى عينه وقال: إن مشكلتنا في هذه الدار ليست في انعدام ومحدودية الكلام، وإنما المشكلة في مدى قدرة الأفهام على الاستقبال. فحتى الكلام الذي أنزله الله وجعله يتلى بيننا بالليل والنهار، لا يجد طريقه إلى عقول كثير من الأنام، إذا تَمَكَّن الوقر فيهم من الآذان، فتراهم ينظرون إلى قارئه، وقد عميت منهم الأبصار، وحالت، دون أن تفقهه قلوبُهم الأقفال، وتعطلت عقولهم عن تدبر ما تحمله ألفاظه من معان. وبهذا المعنى العام، فإن كل ما خلق الله في هذا الكون الذي تدركه الأبصار، ينطق بلغة يفهمها سليمي الانظار. نعم، إنه يمثل علامة، باصطلاح علم اللسانيات او اللسان، ويُجسد آية بلغة القرآن، تدل على الحقيقة العظمى، وراء هذه الأكوان، مهما واجهها السفهاء الجاحدون بالإنكار.
وبهذا المعنى أيضا، فإن الفكر لن ينفك يحار، إذا أصابه الضلال، بفعل الغرور والاغترار، بالميل إلى لعبة القفز والاختزال، والتلبس بهوى فصل الترابط بين العلم بالآخرة والعلم بظاهر هذه الدار، فيعتقد صاحبه أن أمور هذه الحياة وأحداثها مجرد نتيجة صدف كصدفة لعب القمار، ووليدة فوضى لا علاقة لها بالكبير المتعال، وان الأمور متروكة سدى، ولا علاقة لها بالخلاّق الحكيم مُقدرِ الأقدار. وغيرها من أشكال اللامنطق والحمق والهذيان، التي يبتدعها الانسان، لإسكات صوت تأنيب ضميره، من آن إلى أن، حين يغلبه داعي هواه إلى الانخراط في سلك الفجار، فيسأل أيان يوم القيامة، على سبيل الجحود والكفر والإنكار!
وهنا يظهر لنا أن الكلام، الذي هو التجلي العملي للغة كلسان، إنما هو رسائل تتقمص مجموعة من العلامات بشكل من الأشكال، يحيل فيها الدال على المدلول الذي هو معنى أو معانٍ، ولولا قدرة جهاز السامع او المبصر على حسن الاستقبال، بما له من استعداد على العبور من الدال إلى المدلول، لكان الكلام مجرد رسوم أو مجرد ضجيج ليست له معان، كأصوات الطير بالنسبة للإنسان. لذلك تحمل اللغة منطقا به تستوعب رسائلها الأفهام. وبذلك يكون الفرق الكبير بين العاقل والاحمق عندما نقارن ما يصدر من كلام. وقد سمى الله لغة الطير منطقا في القرآن، في معرض الكلام عن قصة نبيه سليمان. وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميع ما خلق الله، مما تدركه الابصار، فهو، بهذا المعنى، ينطق بكلام، ويفيد كل أولي الأبصار بحظ من البيان. ويدخل في هذا الإطار، ما قد يقدره الله من زلزال، وإن كان يتميز بمزلزِل الكلام!

***************************************
ملاحظة: لقد كنت قررت أن أكتفي، في نشر سلسلة هذه التوينة، بفقرة واحدة، في كل مرة، تخفيفا على المتتبعين من الأخوات والإخوة، غير أني تلقيت اقتراحا كريما من طرف أخي العزيز الدكتور الحسن اشباني الإطار الوطني في مجال البحث الزراعي، والصحافي العصامي، بالإبقاء عل حجم نص جزء التدونية أطول، حتى يتسنى له إعادة نشرها في موقعه الإلكتروني القيم، كما اعتاد أن يفعل مع سابقتها، فيما مضى، بمبادرة منه. فمعذرة.
رحم الله شهداءنا
ذ. ابراهيم أعبيدي، كاتب و مفكر وبرلماني سابق
مقالات الكاتب السابقة :