من امريكا مع الاستاذ سليمان شاهي الدين : تحديات التباري الحضاري ٩


“الناس يحبون المال حبا جما و يعشقون التمسك بتلابيب الملكية الخاصة حتى الثمالة.”
يوتوبيا التسوق و السعادة المزيفة لقد أصبح السوق المرتع الأكثر جاذبية للبشر بل إن سحره لعيون الناس جعله قادرًا على إستيلاب عقولهم بقوة فائقة و يقعون تحت وطأة و طائلة الإغتراب و اليوتوبيا إلا من رحم الله بفضيلة القناعة. لقد أصبح السوق يقدم صورة عن بحبوحة الحياة. فمن كان لديه المال إستطاع أن يعيش في رغد العيش و جنة الأرض حيث يجد كل ما لد و طاب و كل الحاجات الفاخرة الخاصة بالمطابخ و المجالس و فضاءات الراحة و الإستجمام. إن التسوق يسوق وهم السعادة لأنه يقدم فرصة الإمتلاك و التحكم الرمزي ؛ و هذا شعور دفين يتغلغل إلى أعماق اللاشعور و يدغدغ مشاعر الإنسان بالنشوة و الشعور بالرضى من خلال الإحساس بإمتلاك زمام الأمر و القدرة على التّملّك و التحكم، و كيف لا و الناس يحبون المال حبا جما و يعشقون التمسك بتلابيب الملكية الخاصة حتى الثمالة.

إن السوق يجعل الناس يغرقون في يوتوبيا التسوق إلى درجة التفنن في إقتناء أي شيء يمكن أن يقدم بوصفه وصفة سحرية لسعادة ممكنة أو متخيلة ؛ و هي التي يمكن أن تتحقق وفقا للقدرة الشرائية المتاحة. خاصة أن معيار الجودة و مراتبها أصبحت متاحة من خلال العروض التي تقدمها السلع الصينية بناء على مقاس تكلفة التصنيع و نوعية المنتوج المتقن و الأقل رداءة.
إن الإنسانية تواجه في إطار الصراع الحضاري بين الأمم، إحدى الجبهات التي تشكل الحرب الناعمة العملاقة التي تغزو تصور الإنسان لعالم التشييئ، فتعمل على قولبته و إحتوائه من خلال ترسانة المنتوجات التي تقدمها بكونها تحقق المتعة و الراحة و اللذة. و التركيز على هذا النمط الإستهلاكي بوصفه يزعم أنه يحقق بإمتياز knowing how to live” le savoir-vivre / حسن العيش و le savoir-faire the know-how/ حسن العمل و الإتقان، خاصة أن توظيف الشركات لوسائل التواصل الإجتماعي في تسويق منتوجاتها ؛ حيث أصبحت هذه الوسائل أكثر من أي وقت مضى، أحد روافد البيع الأساسية التي تحقق فيها الشركات أرباحا طائلة، حيث تقدم العروض المغرية و تسهيلات الأداء و الدفع عن طريق الأقساط الشهرية و ضمان إيصال المنتوجات إلى عنوان المستهلك على وجه السرعة و وفقا لرغبات المستهلك.
إن التسوق أصبح ضمن مسار فلسفة الإستهلاك التي تقدمها الآلة الصناعية المتطورة و التحكم الرأسمالي في تدوير و تدويل السلع الجديدة الأكثر جودة بناء على الإحداثيات الجديدة و المتجددة على مدار الساعة، و التي تبنى عليها عملية الإنتاج الرأسمالي المعاصر
ذ سليمان شاهي الدين


هل حقا تقدم عملية إقتناء جل الأشياء الجميلة و الحاجات التي تنتجها الصناعات التحويلية و الصناعة التقليدية لتسيير الوجود الإنساني و الحد من شقائه مند أن أصبحت التكنولوجيا تسخر للنيابة عنه في القيام بالأعمال الشاقة و منحها للإنسان حياة اليسر من خلال الأدوات المنزلية الخاصة بالمطبخ و الأعمال الخاصة بترتيب البيت و الحفاظ عليه بحيث يكون قادراً على حماية الإنسان من غوائل الطبيعة ؟ إن التسوق أصبح ضمن مسار فلسفة الإستهلاك التي تقدمها الآلة الصناعية المتطورة و التحكم الرأسمالي في تدوير و تدويل السلع الجديدة الأكثر جودة بناء على الإحداثيات الجديدة و المتجددة على مدار الساعة، و التي تبنى عليها عملية الإنتاج الرأسمالي المعاصر، يعتبر أحد الأساليب المبتكرة التي تشد معظم البشر للتعود على مسايرة حب إقتناء المنتوجات الأكثر جدة و بوصفها آخر المنجزات الصناعية المبتكرة كطقس يومي أو أسبوعي أو شهري ينساق فيه الإنسان مع الآلة الإعلامية و أدوات الإشهار التي تلعب على أوتار حب الرفاه و الملكية الخاصة، و ما يحدثه ذلك من الشعور بالتميز و الإحساس بالتفوق على مقاس السوبرمان. إن الأمر لا يتعلق فقط بالإستقلال الفكري و الثقافي و نزوع الإنسان إلى الحياة الطبيعية القائمة على الكفاف و القناعة، بل إن السيولة المادية المعاصرة جعلت معظم البشر منقاد إلى عالم مصطنع تحكمه الصور الحالمة و تماهي الإنسان جسدا و روحا مع يوتوبيا الإستهلاك الصناعي و إنحراف الإنسان عن دفة قيادة ذاته بروية و تعقل و ثبات خارج تأثيرات صيغ الموضا التي تقدمها ” العولمة ” لتأخذ بلب عوام الناس و سلب أفهامهم و توجيهها بناء على تلبية و إشباع الرغبات و اللذة الآنية و العابرة، و هي النشوة التي تجعل الإنسان يعيش وهم السعادة خارج الفطرة الطبيعة الإنسانية الأصيلة.

كيف يمكن الخروج من دوامة هذه الحرب الحضارية الضارية التي تنغص علينا حياتنا في عقر دارنا ؟ كيف لنا أن نواجه هذه الحرب و نصلح الأعطاب التي تحدثها في شعورنا و في الاوعي الجمعي ؟ أليس حري بِنَا أن نراجع آفات العصر المعاصر و نرصد مساوئه و نعمل على تقديم بدائل محلية نستعيض بها عن الغزو الحضاري الذي لا يروم فقط تغيير ثقافتنا بل يريد تغيير نمط عيشنا و جعلنا سوقا إستهلاكية متلهفة على جديد الصناعات الرأسمالية ؟ أليست خريطة الإكتفاء الذاتي أحد السبل الناجعة التي تسمح بقطع الطريق على متاهات التبعية للغرب ماديا و معنويا ؟
ذ. سليمان شاهي الدين كاتب و مفكر
مقالات للكاتب