مع الاستاذ وضاح خنفر: الحرب على غزة أحدثت ثورة في الوعي الجمعي للأمة -الجزء الثالث-


د. الحسن اشباني
فيما يلي الجزء الثالث من نص الحوار الذي قمت بتسجيله وتحريره كتابة وتصحيحه انطلاقا من صوت وصورة، مع الحرص على تمثيل كل الأفكار المثارة التي تمت مناقشتها في هذا النقاش الشيق. وللتذكير، الحوار من بودكاست الشرق الذي اجراه الصحفي والباحث عبد الرحمن ناصر، مع الأستاذ وضّاح خنفر تحت عنوان ” الحرب على غزة أحدثت ثورة في الوعي الجمعي للأمة ”. ولفهم الجزء الثاتي منه لابد من قراءة الجز الاول الذي نشرناه الاسبوع الماضي في موقعنا. قراءة ممتعة.
..أننا متجهون بلا شك نحو حالة اقتصادية سيئة للغاية. ومن الواضح أنه في مصلحة عالمنا العربي أن يعمل على تحسين الوضع، حيث سيكون من بين أكبر المتضررين. فالعديد من دولنا، خاصة في شمال أفريقيا، تعتمد على التصدير والتصنيع والتوزيع لصالح أوروبا، التي تواجه تراجعاً اقتصادياً حقيقياً. وكثير من دولنا الأخرى تعتمد على العمالة المهاجرة التي تعمل في دول غنية وترسل أموالها إلى الوطن…
نص الحوار -الجزء الثالث-


سؤال: قبل السابع من أكتوبر، كان هناك حديث واسع النطاق حول الأزمة الاقتصادية العالمية، ولكن بعد طوفان الأقصى ثم الحرب على غزة، لم يعد هناك اهتمام متسارع بهذه الأزمة، أو ربما تخفّت أحاديثها. ومع ذلك، في منطقتنا العربية، نشهد آثارا واضحة لهذه الأزمات الاقتصادية، فالتضخم ينتشر، وتتراجع قيمة بعض العملات المحلية باستمرار. هل هناك طوفان اقتصادي آخر في الطريق، ونحن لا نلتفت إليه بالقدر الكافي في الوقت الحالي؟
ذ. وضاح : لا أعتقد أن هناك محللاً اقتصاديًا محترمًا في العالم تنبأ بهذا الواقع. على الرغم من أنني لست خبيرًا اقتصاديًا، إلا أنني أعتقد أن المستقبل الاقتصادي العالمي بعيد كل البعد عن الاستقرار، ويشهد مستويات عالية جدًا من التوتر. الحقيقة هي أننا نعيش في فترة أزمة، لا يهم ما نشعر به أو لا نشعر به، فنحن نواجه الآن حقيقة واضحة؛ ليس فقط في عالمنا العربي أو في أوروبا، بل في العالم بأسره. في مقابل ذلك، تتدخل الولايات المتحدة لحل هذه الأزمات بطرق غير واقعية، مثل تسهيل الوضع عبر الاقتراض المتزايد وزيادة المديونية وطباعة الأوراق النقدية، وهذا يغذي العالم بصورة مضللة تمامًا. إنها صورة تحمل مستويات عالية جدًا من التضليل، حيث تشوه حقائق وقيمة هذا النقد والدولار والنظام المالي الذي تزود به الولايات المتحدة العالم.
ما نراه اليوم هو أن الدولتين تتجهان إلى مواجهة شبه حتمية. ومركز هذا الصراع على الأرجح سيكون تايوان.
باعتقادي، فإننا قد تجاوزنا مرحلة انهيار قيمة الدولار. يعتبر الدولار اليوم قيمة لا يمكن تقييمها إلا من خلال الثمن المطبوع على الورق، إن تم طباعته.. أرى أننا قد نقترب من أزمة اقتصادية هائلة إذا بدأ الاقتصاد الأمريكي يتراجع، نتيجة للتورط العميق في سياسة الاقتراض الهائلة التي لا تطيقها أية حضارة، ولم يحدث في التاريخ من قبل. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الصراع الجيوسياسي القادم بين القوتين الرئيسيتين اقتصاديا، الولايات المتحدة والصين. هذا الصراع ستكون له تداعيات عظيمة. عادةً، تعتبر الدول الأمن الاستراتيجي أمرًا أساسيًا، وربما يكون لديها منظور مختلف عن الصراع الحالي. ورغم أن الصين قد تمتلك تريليونات الدولارات، إلا أنني أعتقد أن هذا الرقم أقل بكثير، وبالتالي، لا يعتبر الصراع في مصلحتها، وانهيار الاقتصاد الأمريكي ليس من مصلحتها ايضا. لكن، إذا تعرضت الصين لأي تهديد على سيادتها، فسوف تتحدى هذا التهديد بقوة من أجل فرض احتراماً لذاتها.
لا يمكننا نسيان الأزمة الاقتصادية الكبرى التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى، والتي أدت في النهاية إلى الكساد الكبير واندلاع الحرب العالمية الثانية وما يتبعها. عندما تتداخل الحروب، تتغير معادلات القوى الاقتصادية، وإذا كانت هذه الحروب تشمل دولتين مثل الولايات المتحدة والصين، فإن ذلك سيكون له تأثير كبير على الاقتصاد العالمي.

ما نراه اليوم هو أن الدولتين تتجهان إلى مواجهة شبه حتمية. ومركز هذا الصراع على الأرجح سيكون تايوان. بشكل واضح، فإن الولايات المتحدة لا ترغب في أن تصبح الصين قوة عالمية منافسة لها. ومع ذلك، تتقدم الصين بسرعة كبيرة، وتسعى أولاً للحفاظ على عمقها الجيوسياسي والإستراتيجي في بحر الصين الجنوبي وفي تايوان. وفي نفس الوقت، تحاصرها الولايات المتحدة في كل دولة، وكل ممر مائي، وكل بحر من البحار المجاورة لها. لذا، نجد أنفسنا أمام توترات كبيرة بين الطرفين.
عند النظر إلى المشهد الجيوسياسي والاقتصادي الذي نتحدث عنه، يبدو أننا متجهون بلا شك نحو حالة اقتصادية سيئة للغاية. ومن الواضح أنه في مصلحة عالمنا العربي أن يعمل على تحسين الوضع، حيث سيكون من بين أكبر المتضررين.
إن بعض الأفراد والشباب المثقفين والسياسيين العرب يظلون يعتقدون أن إسرائيل تمثل معجزة اقتصادية وتكنولوجية يجب الاستفادة منها، ويدعون إلى تطبيع العلاقات معها، متجاهلين حقا أن وجود هذا “الكيان” يشكل تهديدًا لأمننا الوطني ومستقبلنا،
فالعديد من دولنا، خاصة في شمال أفريقيا، تعتمد على التصدير والتصنيع والتوزيع لصالح أوروبا، التي تواجه تراجعاً اقتصادياً حقيقياً. وكثير من دولنا الأخرى تعتمد على العمالة المهاجرة التي تعمل في دول غنية وترسل أموالها إلى الوطن، وهذا النمط من العمل سيتراجع في السنوات القادمة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم دولنا أو العديد منها أصبحت تواجه أزمات اقتصادية حادة أو على وشك الانهيار، مثل سوريا ولبنان والسودان واليمن، بالإضافة إلى التراجع الكبير في وضع مصر والتمزق في ليبيا وتأثيره على وضعها الحالي والمستقبلي، والوضع الاقتصادي في تونس. إننا بالفعل دخلنا في أزمات من خلال موجات الهجرة والبحث عن عمل، ولا يمكننا تجاهل حقيقة أن العالم لم يدخل بعد في الصراع الكبير الذي ينتظرنا. لذا، يجب علينا أن نستعد من خلال تنظيم أنفسنا ككيانات تكاملية تعمل معًا وفقًا لقواعد مفيدة للجميع. فالقوة أحيانًا تكون ضعفًا والغنى أحيانًا يكون فقرًا، لذا يمكننا الوصول إلى شيء أقوى من خلال توحيد الجهود بين القوي والضعيف والغني والفقير لضمان العيش الكريم للجميع.
سؤال : نحن الآن في وسط أزمة اقتصادية، ويبدو أننا متجهون نحو أزمة اقتصادية عالمية، مع وجود شقوق في النظام الدولي الحالي بسبب التنافس بين الصين وأمريكا، وعودة قضية فلسطين إلى الواجهة. إلى أين تتجه الأمور مستقبلاً؟
ذ. وضاح : يجب أن ندرك أن إسرائيل تسرّع انهيار المنظومة الغربية، سواء أخلاقيًا أو جيوسياسيًا. فقد شهدنا كيف انهارت القيم الليبرالية بسبب سلوكيات الصهيونية، وكيف تدفع إسرائيل أمريكا نحو الضرب في العمق لمصالحها، كأن ترسل قواتها إلى البحر المتوسط، أو تَنشُب نزاعات مثل النزاع الذي وقع في البحر الأحمر مع الحوثيين وربما نزاعات أخرى قادمة كلها ضد المصلحة الأمريكية، بدلاً من التركيز على التحديات الكبرى مثل الصين.
يبدو أن أمريكا مضطرة في يوم من الأيام لمراجعة علاقتها مع إسرائيل التي تسرع انهيارها على مستويات عدة أخلاقي ومنهجي واستراتيجي عسكري. فالكيان الإسرائيلي ليس له مستقبل في المنطقة، لأنه كيان ولد بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة تسويات قام بها آخرون وليس لنا نحن المعنيين علاقة بها. هم خططوا وقاموا بصفقات معينة وجاؤوا بالمهاجرين اليهود إلى فلسطين، بدعم من بريطانيا التي أعطتهم الحق في الإقامة فيها ووعد بلفور وقيام دولة إسرائيل إلى أخره. هذا الكيان المرتبط بنظام دولي بدأ يتغير وموازين القوة فيه غير ثابتة، لا أعرف كيف سيكون شكل النظام الجديد القادم ؟ هل سيكون بنفس الحميمية مع هذه الدولة الوظيفية؟ عندما يكون لديك شك إستراتيجي، لا محالة سيؤدي إلى قلق وجودي حقيقي. ما معنى وجود دولة محاطة بالجدران والموانع، محاطة بالعرب والمسلمين الذين لن يقبلوا بوجود مثل هذا الكيان على الإطلاق؟ حتى وإن تمت كل عمليات التطبيع مع الدول القائمة، لن يقبلوا. فالشراكة مع دولة تعتبر نفسها هجينة ومحصنة لن تُقدر أبدًا على جذب التأييد العربي والإسلامي. عندما يكون لديك استراتيجية متخمة بالشكوك، يجب أن يثير ذلك قلقك. كما يجدر التذكير بأننا نجحنا في التصدي لكيانات مماثلة في الماضي، انظر الى المغول آذونا كثيرا وذبحوا منا اعدادا هائلة يصل الى عشرة بالمئة منا وهي نسبة كبيرة في زمن كان عدد البشرية فيه قليلا. لما جاء المغول وسيطروا على هذه المنطقة، حاولوا تدمير كل ما فيها، وبالرغم من ذلك، استوعبتهم حضارتنا الضخمة، فأسلم كثير منهم وأصبحوا بعد ذلك ملوكا مسلمين وإمارات مسلمة وبنوا حضارة كبيرة في الهند. بمعنى اننا استطعنا أن نهضم هذه الكيانات في الماضي، ونحن قادرون على التغلب على التحديات التي تواجهنا اليوم.
ما معنى وجود دولة محاطة بالجدران والموانع، محاطة بالعرب والمسلمين الذين لن يقبلوا بوجود مثل هذا الكيان على الإطلاق؟ حتى وإن تمت كل عمليات التطبيع مع الدول القائمة، لن يقبلوا.

لكن إسرائيل تبقى عصية على الهضم، ولا ترغب في أن تصبح جزءاً من المنطقة، ولا تقبل أن تندمج فيها. في الأيام التي كانت فيها الجاليات اليهودية تعيش بيننا، كانت جزءاً من المجتمع المحلي، وكان العالم الإسلامي يعتبر مأوىً لليهود الذين كانوا يفرون من الاضطهاد المسيحي في الغرب. لكن مع وجود كيان صهيوني يعتمد على مبادئ الصهيونية العنيدة، لن تتمكن من الاندماج والتأقلم مع المنطقة، بل ستظل كجسد غريب يعمل على تفتيت الهيكل الكبير طالما تحافظ على قوتها. وهذا لأنها تدرك أنه إذا تماثل الهيكل الكبير وتجدد قواه، فسيتم القضاء عليها. لذا، يجب فك تفكيكها بأي طريقة ممكنة، وكل محاولة لتفكيكها تخدم مصالحها، سواء كان ذلك عبر التحريض المباشر أو الإستراتيجيات الخفية.
الجهود المبذولة للتوحيد واللقاء هي جهود حقيقية للتخلص من هذا الاحتلال العنيد. يجب أن ندرك أن وجود إسرائيل بهذا الشكل، وفلسفتها الصهيونية المتطرفة، وعقليتها الاستعلائية العنصرية، لن يستمر طويلاً في المدى البعيد. حتى بين اليهود، هناك من لا يرون الموضوع بهذا النظر. ومع ذلك، فإن بعض الأفراد والشباب المثقفين والسياسيين العرب يظلون يعتقدون أن إسرائيل تمثل معجزة اقتصادية وتكنولوجية يجب الاستفادة منها، ويدعون إلى تطبيع العلاقات معها، متجاهلين حقا أن وجود هذا “الكيان” يشكل تهديدًا لأمننا الوطني ومستقبلنا، ومستمر على أن يبقى كيانهم على جبل عال مشرف على العالم العربي كله، من عُمَان إلى المغرب بحيث لا تبقى أية دولة لديها القدرة أن تواجه اسرائيل.يجب أن ندرك أن الاستمرار في الالتزام بالتبعية لهذا الكيان، بكل ما يمتلكه من تكنولوجيا ومعرفة، يعتبر تهديدا لرسالتنا وهويتنا. نحن بشر، ولدينا قيم تحكم تصرفاتنا، ونحن ندفع الثمن لتقديم المصلحة اللحظية على حساب الاستقرار والوئام والسلام الدائم.
الصحفي والباحث عبد الرحمن ناصر : شكرا جزيلا أستاذ وضّاح على هذا اللقاء وبارك الله فيكم
اعداد النسخة المقروءة و تصحيح المادة : د. الحسن اشباني مدير بحث سابق بالمعهد الوطني للبحث الزراعي و صحفي مهني
المقال ذات صلة بالموضوع :
https://dr-achbani.com/وضاح-خنفر-الحرب-على-غزة-أحدثت-ثورة-في-ا/