المنبر الحر

ليلة القدر بين الرجاء والتناقض: المغفرة مشروطة بالتغيير

د. الحسـن اشباني

الإسلام ليس مجرد طقوس تؤدى أو كلمات تُردد، بل منهج حياة، عبادة وسلوك، إيمان وعمل. إن التناقض بين أخلاق الإسلام وسلوك كثير من المسلمين ليس خللًا عابرًا، بل هو أحد الأسباب العميقة لتخلف الأمة وتأخرها. كيف نرجو النصر والتمكين ونحن نمارس الظلم والفساد ثم نطلب العفو والمغفرة بلسان لا يصدقه العمل؟ لن يسعفنا ترديد “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا” إن لم نكن ممن يعفون عن الناس، ويردون الحقوق، ويُصلحون أنفسهم. فالله يغفر الذنوب، لكنه لا يغفر ظلم العباد لبعضهم إلا أن يُسامحوا. الإسلام عبادة وليس عادة، فلا معنى لصلاة لا تنهاك عن الفحشاء، ولا لصيام لا يعلمك الصدق، ولا لقيام لا يهذب أخلاقك. إن نهضة الأمة تبدأ من إصلاح النفوس، وليس بمجرد التمسك بالمظاهر الدينية دون تغيير حقيقي في القيم والسلوك..

انتظار ليلة القدر بين الرجاء والتناقض في السلوك : ليلة القدر، تلك الليلة المباركة التي أُنزل فيها القرآن، ليلة خير من ألف شهر، يتسابق فيها المؤمنون بالدعاء والعبادة، ويرددون: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. ولكن، أليس من العجيب أن نرى بعضًا من هؤلاء الذين ينتظرون العفو والمغفرة وهم ما زالوا غارقين في الظلم والفساد؟ كيف يستقيم طلب العفو مع التمادي في انتهاك حقوق العباد؟

تكرار الذنب وانتظار العفو : منا من يسرق وينتظر ليلة القدر، يمد يده إلى الحرام ثم يرفعها بالدعاء، وكأنه يستغفل الله، متجاهلًا أن الله لا يقبل إلا الطيب. ومنا من يظلم، يُفسد في الأرض، يأكل أموال الناس بالباطل، ثم يجتهد في الصلاة والقيام، متناسيًا أن المظالم لا تُغفر إلا برد الحقوق إلى أهلها. وأعجب من ذلك كله، قاضٍ يحكم بالهوى، ومحامٍ يبيع ضميره، وموظف يرتشي، وتاجر يغش في الميزان، ومسؤول يخون الأمانة، وإعلامي يزيف الحقائق، وصاحب جاه يستغل سلطته للبطش بالضعفاء، كلهم ينتظرون هذه الليلة، كأنها صك غفران يزيل خطاياهم دون توبة حقيقية.

النفاق الاجتماعي والدين الموسمي : كثيرون يمارسون الدين كعادة موسمية، يتذكرون التقوى في رمضان، ثم يعودون إلى ما كانوا عليه من سوء الخلق بعد انقضائه. يغتابون، ينافقون، يكذبون، يحسدون، يفسدون في الأرض، يخدعون الناس، ينقضون العهود، ثم ينتظرون ليلة القدر كفرصة لتبييض صفحاتهم، بينما نفوسهم ما زالت سوداء بالذنوب.

قال الله تعالى: إِنَّاللَّهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: 11). فكيف ننتظر المغفرة ونحن لم نغير من أنفسنا؟ وقال النبي ﷺ: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (رواه البيهقي). فأين نحن من هذه الأخلاق؟

العفو الإلهي مقرون بالإصلاح : إن الله عفوٌ كريم، ولكن رحمته لا تعني التهاون في رد المظالم، ولا تعني أن يُقبل دعاء الظالم دون تصحيح مساره. العفو الحقيقي يكون بالإقلاع عن الذنب، ورد الحقوق، والتحلي بأخلاق الإسلام في السر والعلن. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يراقب نفسه في أدق الأمور، حتى إنه خشي أن يسأله الله عن بغلة تعثرت في العراق، فكيف بمن يسرق أموال الأمة ويظلم العباد؟

ليلة القدر اختبار حقيقي : انتظار ليلة القدر ليس مجرد تكرار الدعاء، بل اختبار لمدى صدق الإنسان مع نفسه ومع خالقه. فمن كان ظالمًا، فليتوقف عن ظلمه. ومن كان سارقًا، فليعد الحقوق إلى أهلها. ومن كان مرائيًا، فليراجع نيته. ومن كان غشاشًا، فليكف عن غشه. ومن كان كاذبًا، فليصدق. فليلة القدر ليست مجرد فرصة للمغفرة، بل فرصة للتغيير الحقيقي.

في الاخير، لن يسعفنا ترديد “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا” إن لم نكن نحن ممن يعفون عن الناس، ويردون الحقوق، ويُصلحون أنفسهم. فالله يغفر الذنوب، لكنه لا يغفر ظلم العباد لبعضهم إلا أن يُسامحوا. فلنستعد لهذه الليلة بقلوب طاهرة، وأعمال صادقة، ونوايا نقية، لا بمجرد كلمات نرددها دون أن تغير شيئًا في سلوكنا.

د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي

مقالات الكاتب ذات الصلة :

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Radio
WP Radio
OFFLINE LIVE