حين يتكلم الذكاء الاصطناعي: كيف يُعيد رسم ملامح العمل والتكنولوجيا مستقبلا؟

مقدمة المحرّر :

مع تسارع التحولات الرقمية وتداخل الخطوط الفاصلة بين البشر والآلات، علينا أن ننصت لصوت الخبراء لنرى من يتصدر القيادة العالمية للذكاء الاصطناعي. لقد بُذل جهدٌ ووقتٌ كبيران لترجمة هذه المحادثة الصوتية الغنية بين مايكل ميلكن وجينسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، إلى نصٍّ عربيٍّ فصيح، مع شرحٍ مُبسّطٍ لبعض المفاهيم التقنية التي تمت مناقشتها، مع ملاحق توضيحية عند الاقتضاء. ما تقرأونه هنا ليس مجرد نصٍّ مكتوبٍ لمحادثةٍ صوتية؛ إنه عملٌ آمل أن يُلهم القراء العرب للاهتمام بالتكنولوجيا التي بدأت تُعيد تشكيل عالمهم – تكنولوجيا لا تُحسّن الأداء فحسب، بل تُغيّر العقول وتُعيد تعريف العمل والتعليم والصناعة والبحث العلمي.
هذا الحوار ليس عابرًا، بل هو نافذة نادرة على تفكير رجل يقف خلف واحدة من أهم شركات الذكاء الاصطناعي في العالم. أضعه اليوم بين أيديكم، لا للاستهلاك العابر، بل للتأمل في القادم، والاستعداد له. د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي
ملخص الحوار بين مايكل ميلكن وجينسن هوانغ حول الذكاء الاصطناعي
يؤكد جينسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، في الحوار الذي اجراه معه مايكل ميلكن، رئيس معهد ميلكن، حول الذكاء الاصطناعي، أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد ثورة معلوماتية جديدة، بل يمثل الثورة الصناعية المقبلة، إذ بات قادرًا على الإدراك، والإنتاج، وحل المشكلات، مما سيُحدث تغييرًا شاملًا في سوق العمل العالمي. ويوضح أن الوظائف لن تزول بسبب الذكاء الاصطناعي، بل بسبب تجاهل الناس له، إذ إن من سيتقن استخدامه هو من سيقود المرحلة المقبلة. ويصف هوانغ الذكاء الاصطناعي بأنه فرصة تاريخية لسد الفجوة الرقمية التي فُرضت بفعل اقتصار تكنولوجيا المعلومات على نخبة صغيرة، ويؤمن بأن هذه الأدوات أصبحت الآن في متناول الجميع، داعيًا كل طالب ومهني إلى اعتبار الذكاء الاصطناعي “معلّمًا شخصيًا” يوميًا. وفي ظل النقص العالمي في اليد العاملة، يرى أن الذكاء الاصطناعي قادر على إعادة دمج ملايين الأشخاص في سوق العمل بطرق مبتكرة. كما يروي كيف بدأت شركة Nvidia بمهمة بدت مستحيلة في بداياتها، وهي حلّ مشكلات تعجز الحواسيب التقليدية عن التعامل معها، في سوق لم يكن مستعدًا بعد لمثل هذا النوع من الابتكار. ويؤكد أن ما يسمّى بـ”الذكاء الاصطناعي الفيزيائي” – أي الآلات التي تفكر وتتفاعل – سيكون المحرك الأساسي للجيل الجديد من المصانع والإنتاج الصناعي. ويُعرب عن رفضه لفرض القيود على تصدير تقنيات Nvidia، معتبرًا أن التوسع العالمي هو السبيل لترسيخ المعايير الأمريكية بدلًا من ترك المجال للبدائل المنافسة. ويشير إلى أن التفاعل المباشر مع المستخدمين ساعد الشركة على تطوير شرائح جديدة قادرة على فهم ومحاكاة الخلايا البشرية، وليس فقط النصوص أو الصور. وفي فلسفته لاختيار الموظفين، يشدد على أهمية الحافز الشخصي والشغف بالتعلّم، معتبرًا أن من يتحمّل الصعاب ويؤمن بالمهمة هو الأجدر بالانضمام إلى فريق Nvidia.
الترجمة الكاملة لهذا الحوار المهم بين جينسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، ومايكل ميلكن، رئيس معهد ميلكن، حول الذكاء الاصطناعي. نظرًا لطول النص وغزارة محتواه، تم تقسيم الترجمة إلى تسعة أجزاء، لكل منها عنوان يعكس فكرته المركزية، بهدف تسهيل القراءة والتأمل في مضامينه.

الجزء الأول: الذكاء الاصطناعي: بداية الثورة الصناعية الجديدة
مايكل ميلكن : يرجى الترحيب بالرئيس والمدير التنفيذي لشركة إنفيديا، جينسن هوانغ، في حوار مع رئيس معهد ميلكن، مايكل ميلكن.
جينسن هوانغ: شكرًا لكم. إنهم من كبار المعجبين بك.
مايكل ميلكن: أعتقد أن هذا التصفيق لك.
جينسن هوانغ: أعتقد أن التصفيق لك، وأعتقد أن زيّك لي.
مايكل ميلكن : إذًا، مرحبًا بك. هل الذكاء الاصطناعي هو الثورة الصناعية القادمة؟
جينسن هوانغ: نعم.

مايكل ميلكن : هل هو الثورة القادمة في التصنيع؟
جينسن هوانغ: نعم، دعني أشرح. لقد تحدثنا جميعًا عن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. يمكنها إدراك العالم، ويمكنها توليد المحتوى، ويمكنها الترجمة، ويمكنها الآن حتى التفكير وحل المشكلات، واستخدام الأدوات، واستخدام متصفح الويب، وقراءة ملفات PDF، وإجراء البحوث نيابةً عنك. لذا، نحن نعرف ما تستطيع هذه التكنولوجيا فعله، وهذا بحد ذاته مثير للغاية. إنها تحولية تمامًا بحد ذاتها. نفهم أن هذه التكنولوجيا تختلف عن أي تكنولوجيا معلومات سابقة. تذكر، تكنولوجيا المعلومات هي أداة. عليك استخدامها لتكون فعالة. يجب أن تجلس أمام الكمبيوتر وتستخدمها. ولكن الآن، يرتبط ذلك بالقدرة على الأتمتة. ومفهوم الروبوتات مفهوم جيدًا. لذا، تخيل روبوتًا ماديًا. نحن نفهم ذلك. يمكننا تخيله. تخيل روبوتًا رقميًا في جهاز الكمبيوتر الخاص بك وفي مركز البيانات الخاص بك يعمل من أجلك. هذا مثير لأنه، ولأول مرة، لم يعد الأمر يتعلق فقط بالاستبدال أو الجيل التالي من تكنولوجيا المعلومات (الملحق 1) التي نعرفها، ولكن لأول مرة، يمكنه فعليًا تعزيز وإضافة إلى القوى العاملة الرقمية. لذا، الجزء من الاقتصاد الذي ينتمي إليه هو أكبر بكثير من تريليون دولار؛ إنه جزء من 100 تريليون دولار. وهذا هو المستوى الأول.
الجزء الثاني : هل ستخسر وظيفتك؟ أم انها الفرصة التاريخية أمام البشرية لسدّ الفجوة الرقمية
لن تفقد وظيفتك بسبب الذكاء الاصطناعي، بل ستفقدها لصالح شخص يستخدم الذكاء الاصطناعي.
مايكل ميلكن : فلنأخذ خطوة إلى الوراء لبضع دقائق ونتحدث عن المهارات اللازمة للتفاعل مع هذه التكنولوجيا. قبل بضع سنوات، قُمنا بتقدير أنه إذا تم تطبيق أحدث تكنولوجيا زراعية، فمن الممكن القضاء على نصف مليار وظيفة في مجال الزراعة عالميًا، من حيث الدعم الزراعي وما إلى ذلك. اليوم، هناك سؤال مهم: من الذي سيتم تجاوزه؟ في الستينيات، كنت أتمتع بميزة كبيرة: كنت أستطيع حساب العوائد في ذهني. ثم، في السبعينيات، ظهرت الآلة الحاسبة… لقد تم “تجاوُزي”.
لكن، يبدو أنني لم أتأثر كثيرًا منذ اختراع الآلة الحاسبة. كنت أستطيع تذكّر ملايين المعاملات، ثم جاءت الحواسيب لتخزين تلك البيانات. ما الذي تراه الآن في مفهوم العمل والتفاعل مع التكنولوجيا التي توفّرونها؟
لقد سمعنا جميعًا كثيرًا عن مسألة استبدال الوظائف. في الواقع، كل وظيفة ستتأثر؛ بعض الوظائف ستزول، وأخرى ستُستحدث، ولكن لا وظيفة ستظل على حالها. وأقولها بكل وضوح: لن تخسر وظيفتك بسبب الذكاء الاصطناعي، بل ستخسرها لصالح شخص يُحسن استخدام الذكاء الاصطناعي. هذه حقيقة واضحة لا لبس فيها.
لكن اسمح لي أن أطرح أمامك طرفي النقيض، فقد يكون من المفيد التأمل فيهما أيضًا.
حتى يومنا هذا، لا يتجاوز عدد المستفيدين الكاملين من تكنولوجيا المعلومات – أي من الحوسبة – ثلاثين مليون إنسان حول العالم، وهم أولئك الذين يُجيدون البرمجة ويعرفون كيف يوظفون هذه التكنولوجيا بأقصى طاقتها. لقد كنّا – نحن أبناء هذا القطاع – خلال الثلاثين عامًا الماضية، من أكبر المستفيدين منها. بل لعلها، بحق، الصناعة الأكثر خلقًا للثروات في العصر الحديث.
كنتُ قادرًا، لولا المصادفة، أن أُصبح مهندسًا في مجال البترول مثل والدي، أو طبيبًا كما كانت والدتي تأمل. لكنها كانت ضربة حظ أن وجدت طريقي إلى هندسة الحواسيب. ومع ذلك، ورغم كل هذا التقدم، فإن العاملين في هذا القطاع لا يتجاوزون 30 مليونًا فقط! ما يعني أننا – خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية – قد أسّسنا لما أعتقد أنه أكبر فجوة تكنولوجية عرفها التاريخ. اخترعنا أداة نُجيد استخدامها، فيما يقف سبعة مليارات ونصف من البشر عاجزين أمامها.
وهنا أقول: الذكاء الاصطناعي هو أعظم فرصة أمامنا لسد هذه الفجوة التكنولوجية. وسأبرهن لك على ذلك: لو نظرنا إلى هذه القاعة، فلن نجد أكثر من شخص أو اثنين يُجيدون البرمجة بلغة ++C، وربما العدد ذاته بلغة C (الملحق 3). ومع ذلك، يمكنني القول إن 100٪ منكم اليوم يستطيع “برمجة” الذكاء الاصطناعي.
لماذا؟ لأن الذكاء الاصطناعي سيتحدث إليك باللغة التي تختارها. بإمكانك أن ترسم له مخططًا ليسألك ما الذي ترغب بفعله به. يمكنك رسم صورة، وإعطاؤها إياه، ثم سؤاله عمّا يفهمه منها. تستطيع أن تخاطبه بالكلمات، أو تكتب له استفسارًا، أو تصف له رغبتك – وصفًا دقيقًا أو حتى مبهمًا. وإن لم تعرف كيف “تُبرمجه”، ما عليك سوى إخباره بذلك: “لا أعرف كيف أبرمجك، فكيف أفعل؟” وسيُرشدك بنفسه إلى الطريقة.
أعتقد أن الانتشار الكبير لأدوات مثل ChatGPT وGemini Pro وسواها، دليل قاطع على أنها من أسهل التكنولوجيات استخدامًا في تاريخ البشرية. اليوم، يمكن للجميع أن يستفيد منها – سواء كنت مدرسًا، أو طالبًا يبحث عن معلّم. بل أرى أن كل طالب ينبغي له أن يجعل من الذكاء الاصطناعي معلّمًا خاصًا له. وأنا شخصيًا أستخدمه كذلك كل يوم. لهذا، أؤمن بأن قدرتنا على تسخير الذكاء الاصطناعي لسد الفجوة التكنولوجية هي قدرة مذهلة، غير مسبوقة في التاريخ.
جينسن هوانغ:
النقيض الآخر الذي أود الإشارة إليه هو أننا نعيش أزمة نقص في القوى العاملة، وليس وفرة فيها. ولأول مرة في التاريخ، يمكننا أن نتخيل إمكانية ردم هذه الفجوة، وإعادة دمج ما بين 30 إلى 40 مليون عامل إلى سوق العمل — وهي فرصة لا يمتلكها العالم بطرق تقليدية. لذلك، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي هو أفضل وسيلة لدينا لزيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي. إذًا، هذه زاويتان إضافيتان لرؤية المسألة. وفي الأثناء، أوصي بنسبة 100٪ أن يستفيد الجميع من الذكاء الاصطناعي، وألا يكونوا من أولئك الذين يتجاهلون هذه التكنولوجيا ويخسرون وظائفهم بسبب ذلك.
ثمة طرف نقيض آخر أودّ لفت النظر إليه، وهو أن العالم لا يُعاني اليوم من فائض في اليد العاملة، بل من نقص حاد فيها. نحن نعيش، ولأول مرة في التاريخ، أزمة شح في القوى العاملة. وفي هذه اللحظة بالذات، يبدو ممكنًا – وللمرة الأولى أيضًا – أن نسد هذه الفجوة، وأن نُعيد ما بين 30 إلى 40 مليون عامل إلى سوق العمل عبر أدوات الذكاء الاصطناعي. وهي فرصة لا تتيحها الأساليب التقليدية بأي حال من الأحوال. ولذلك، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي هو أفضل وسيلة حالية لزيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي. انها وسيلة لإعادة التوازن، لسد النقص، ولتمكين شرائح واسعة من الناس من الانخراط مجددًا في الإنتاج والمساهمة الاقتصادية، ولو من بوابات جديدة وغير تقليدية. لذا أوصي الجميع – بلا استثناء – بأن ينخرطوا في استخدام الذكاء الاصطناعي، وأن لا يكونوا من أولئك الذين يُقصون أنفسهم عن هذه التكنولوجيا، فيخسرون وظائفهم وفرصهم لا بسببها، بل بسبب تجاهلهم لها.
مايكل ميلكن : دعنا ننتقل إلى زاوية أخرى. حين يغادر الحضور هذه القاعة، وبعد ستة أيام مكثفة من الجلسات والنقاشات، لا شك أنهم سيحملون معهم فضولًا أكبر تجاه الذكاء الاصطناعي، ورغبة في التعمق فيه. وسيكون أول ما يفعلونه هو التوجّه إلى أجهزتهم، وطرح السؤال مباشرة: “ما هو الذكاء الاصطناعي؟” فهل تُعدّ هذه الطريقة مناسبة كبوابة للفهم؟
جينسن هوانغ: بلا تردّد، أقول نعم. في رأيي، أفضل وسيلة اليوم لبدء هذا النوع من الاكتشاف هي هاتفك الذكي. فقط اسأله. أدوات مثل Perplexity، وChatGPT، وGemini Pro، كلها ممتازة – وأنا شخصيًا أستخدمها جميعًا بشكل يومي. كل ما عليك فعله هو أن تطرح سؤالك، وسيُجيبك بما يتناسب مع عمق فهمك أو اهتمامك. بل إنني في كثير من المواضيع الجديدة عليّ، أبدأ بمقاربة بسيطة: أقول للأداة: “اشرح لي هذا الأمر كما لو كنت طفلًا في الثانية عشرة.” ثم أطلب منه لاحقًا أن يرفع المستوى تدريجيًا، حتى أصل – إن أردت – إلى مستوى شرح أكاديمي بمستوى الدكتوراه. والجميل في هذه الأدوات، أنها متاحة للجميع، ويمكن لأيٍّ منكم أن يفعل الأمر ذاته، متى شاء، وبالوتيرة التي تناسبه.
قرأت كتابًا بعنوان “من صفر إلى واحد” (Zero to One) من تأليف بيتر تيل، ووجدت أن كثيرًا مما أورده المؤلف ينطبق تمامًا على رحلتنا في شركة Nvidia. لقد اخترنا أن نفعل شيئًا لا يعتقد أحد أنه ممكن، أو بدا للكثيرين شديد الصعوبة، أو غير ذي جدوى.
الجزء الثالث : نفايدي، من فكرة مستحيلة إلى بنية تحتية عالمية
مايكل ميلكن : دعنا نُعيد النظر إلى القصة من زاوية مختلفة، أكثر قربًا إلى مسارك الشخصي. جينسن، عائلتك جاءت من تايوان، وانتقلت بعدها إلى ولاية واشنطن، ثم استقر والداك في أوريغون. وقد أُتيح لي، خلال مسيرتي، أن أُموّل عددًا كبيرًا من رواد الأعمال الذين بدؤوا من الصفر. أتذكر، على سبيل المثال، بيل جالون من شركة MCI، حين قرر مواجهة عملاق يسيطر على 99% من السوق في مجال خدمات TNT، وقد كان مؤمنًا أن التحدي ممكن، رغم ضآلة الموارد. وأتذكرك في البدايات، حين كنت تتحدث كثيرًا عن حجم عدم اليقين. كنت تتساءل – في كل شهر – من أين ستأتي رواتب الموظفين؟ وكيف ستُدير الشركة في ظل تلك الضغوط؟ ومع ذلك، اليوم أنتم في المقدّمة. فالسؤال المحوري هو: ما الذي غفلت عنه الشركات الأخرى، والتي كانت تملك حينها موارد مالية أكبر منكم بكثير؟ بصيغة أوضح: ما الذي لم تره “إنتل” في السوق، ورأيتموه أنتم بوضوح؟ ما الذي التقطتموه باكرًا وفشل غيركم في ملاحظته؟
جينسن هوانغ: سؤالك دقيق للغاية، ولهذا احتجتُ للحظة من التريّث قبل الإجابة. منذ اللحظة الأولى، كانت رؤيتنا في الشركة واضحة ومختلفة: كنا نسعى لاختراع طريقة جديدة كليًا لمعالجة البيانات، طريقة قادرة على التعامل مع تحديات تعجز الحواسيب التقليدية عن حلّها. ولو أردتُ تلخيص تلك الرؤية في “رسالة مهمّة” للشركة، لقلت: “نحن نريد بناء منظومة تعالج ما يتعذّر حله بالطرق التقليدية.” وهذا شبيه بأن تقول: “أرغب بصنع مركبة تستطيع الوصول إلى أماكن لا تطالها المركبات المعتادة. لكن، بطبيعة الحال، تلك “الأماكن” التي لا تصل إليها المركبات العادية، هي إما مناطق وعرة وغير ممهدة، أو أماكن لا يرغب أحد أصلاً في الذهاب إليها. لقد التزمنا بتلك الرؤية: حلّ مشكلات لا تُحلّ بالحوسبة التقليدية.
وكانت هذه الرؤية محفوفة بتحديات كبرى، أهمها أن تحقيقها استغرق منّا 33 عامًا من العمل المتواصل، لكننا – في النهاية – بلغنا الهدف. أحد أصعب التحديات كان اقتصاديًا: الاقتصاد برمّته، بكل ما فيه من صناعة ونظم بيئية، يفضّل التعامل مع المشكلات القابلة للحل، لا تلك التي تبدو مستحيلة أو غير واقعية. لا أحد يختار طواعيةً أن ينخرط في حقل يبدو مستنزِفًا أو فاقد الأمل. وبالتالي، وجدنا أنفسنا في منطقة شبه معزولة. لم يكن هناك آخرون يحاولون فعل ما نقوم به، لا لأنه غير مهم، بل لأنه شديد الصعوبة. كما لم يكن هناك كثير من العملاء، لأن أغلبهم يبحث عن حلول جاهزة، لا عن تعقيدات أو رؤى غير مألوفة. أما بخصوص شركة إنتل، فقد كانت تراقبنا بالفعل. وكما تفضلت، كان لديهم أفضلية كبرى في الوصول إلى رأس المال، وهذا صحيح تمامًا. لقد كانوا ناجحين جدًا فيما يقومون به، ونجاحهم هذا جعلهم لا يرون ضرورة في التوقف أو التفكير خارج المسار الذي اعتادوه. ومن حسن حظّنا، أن هذا التجاهل منحنا فسحة من الزمن للعمل بهدوء واستقلال، دون ضغوط المنافسة المباشرة.

مؤخرًا، قرأت كتابًا بعنوان “من صفر إلى واحد” (Zero to One) من تأليف بيتر تيل، ووجدت أن كثيرًا مما أورده المؤلف ينطبق تمامًا على رحلتنا في شركة Nvidia. لقد اخترنا أن نفعل شيئًا لا يعتقد أحد أنه ممكن، أو بدا للكثيرين شديد الصعوبة، أو غير ذي جدوى. ولكن بالنسبة لنا، كان ذلك منطقيًا تمامًا. وأعتقد أن أحد الأسباب الجوهرية التي دفعت الآخرين لتجاهل ما نقوم به – إلى جانب صعوبة المهمة – هو أنهم كانوا منشغلين بنجاحاتهم الحالية، فلم يجدوا ما يدفعهم للتفكير خارج الصندوق…حتى جاء يوم، وفرض الواقع نفسه.
لم نكن في يوم من الأيام نأخذ أي شيء كأمرٍ مسلَّم به. وعندما تُواجهنا صعوبات أو نمرّ بنكسة، لا يصيبنا الذهول أو الإحباط المبالغ فيه. وحين نُخطئ – ونحن نُخطئ كما يفعل الجميع – لا نفاجأ كثيرًا، لأننا نعلم أن التجربة لا تخلو من الزلات. وحين نحقق إنجازًا أو نصل إلى هدف كبير، لا نغتر به ولا نحتفل على نحو مبالغ فيه. نظلّ دائمًا مركزين بعمق على العمل نفسه، لا على أصدائه.
الجزء الرابع : الذكاء الاصطناعي الفيزيائي: حين تتحرك الخوارزميات
مايكل ميلكن : وأنت تتقدّم اليوم على قمة هذا القطاع، فإن من الواضح أنك لا ترغب في أن تُعيد شركتك إنتاج المسار ذاته الذي سلكته شركة “إنتل” من قبل. سؤالي هو: كيف تُحافظ على ثقافة الابتكار المستمر داخل شركتك؟ ولو استعرنا تعبيرًا مألوفًا من عالم الخيال العلمي، كما في شخصية “الكابتن كيرك”، فكيف تواصل الذهاب إلى أماكن لم يسبق لأحد أن بلغها؟
جينسن هوانغ: أعتقد أن جزءًا كبيرًا من الإجابة يكمن في إدراك عميق بأن لا شيء مضمون. هذا الوعي الدائم بعدم وجود ضمانات هو ما يبقينا يقظين ومتواضعين. لدينا في شركتنا سمات فريدة أعتز بها كثيرًا، لا فقط كمؤسس، بل كإنسان، وأتمنى – بصدق – أن يحملها أطفالي وكل من أحبهم. إنها قصة الكدح الطويل، والمشقة، والمعاناة النبيلة التي ترافق مسيرة النضال حين تُبنى الأشياء من لا شيء. هذه التجربة تُعلمك ألا تأخذ شيئًا كأمر مسلَّم به. تصبح أكثر حرصًا، أكثر كفاءة، تدخر كل مورد، كل قرش، لأنك لا تعرف كم سيطول بك الطريق، ولا متى قد تواجهك العواصف. وتكتسب من تلك الرحلة مرونة نفسية مذهلة، لأنها استغرقت وقتًا طويلًا… طويلًا جدًا. وهذه السمة – بمرور الوقت – أصبحت جزءًا لا يتجزأ من شخصية الشركة نفسها. اليوم، معظم ما نقوم به هو مشروعات طويلة الأمد، تمتد لخمس، وربما عشر سنوات. نحن الآن، وبشكل متواضع ولكن واثق، من بين الرواد الأوائل في مجال جديد يُعرف باسم “الذكاء الاصطناعي الفيزيائي”، وهو ما يعني استخدام الذكاء الاصطناعي في عالم الروبوتات والتفاعل الحركي مع البيئة. كما نُسهم في بناء البنية التحتية الأساسية التي ستكون العمود الفقري للجيل القادم من الذكاء الاصطناعي (الملحق 4)– الجيل الذي لم يولد بعد. وأعتقد أن هذا المزيج بين الطموح الكبير من جهة، والمرونة وقدرة التحمل من جهة أخرى، هو ما يُمكّننا من الثبات في الطريق، حتى تتحقق تلك الرؤى التي حلمنا بها يومًا، وصدقنا أنها ممكنة.
مايكل ميلكن : هل لا تزالون دائمًا على حافة الإفلاس؟ هل هذا جزء من ثقافتكم؟
جينسن هوانغ: نعم، لقد عشنا – على مدار ثلاثين عامًا – في حالة قلق وجودي دائم. لم نكن في يوم من الأيام نأخذ أي شيء كأمرٍ مسلَّم به. وعندما تُواجهنا صعوبات أو نمرّ بنكسة، لا يصيبنا الذهول أو الإحباط المبالغ فيه. وحين نُخطئ – ونحن نُخطئ كما يفعل الجميع – لا نفاجأ كثيرًا، لأننا نعلم أن التجربة لا تخلو من الزلات. وحين نحقق إنجازًا أو نصل إلى هدف كبير، لا نغتر به ولا نحتفل على نحو مبالغ فيه. نظلّ دائمًا مركزين بعمق على العمل نفسه، لا على أصدائه.وأعتقد أن هذه السّمات – التي وُلدت من عناء الطريق وطول المسيرة – هي التي شكّلت ثقافة الشركة التي ترونها اليوم. ثقافة تؤمن بالاستمرارية، بالتواضع، وبأن العمل لم ينتهِ بعد، وأن القادم يستحق أن يُبنى بجدية أكبر مما مضى.
الجزء الخامس: كيفية تصنيع الشرائح الدقيقة (الـ Chips) وما يلزم لذلك؟
مايكل ميلكن : دعنا نتحدث بلغة بسيطة، أقرب إلى لغة الناس العاديين. كيف تُصنع شريحة إلكترونية؟ ما الذي يلزم فعليًا لصنع واحدة؟ الجميع يتحدث عن هذه التكنولوجيا ويريد أن يخوض فيها، لكن الحقيقة أن أغلبنا لا يملك أدنى فكرة عن كيفية إنتاجها. ومؤخرًا، كما تعلم، أقرّت الحكومة الأميركية خطة استثمارية كبرى في هذا المجال، بلغت 62 مليار دولار.
لكن المفارقة أنه، وبعد ستة أشهر فقط، اتضح أن لا أحد في الولايات المتحدة يعرف فعليًا كيف يُبنى مصنع لصناعة الشرائح! فاضطرت الحكومة إلى استقدام 7000 تقني ومهندس من تايوان للقيام بذلك. ما رأيك في هذا المشهد؟ وهل هذه الصناعة قابلة للتعلّم؟ بمعنى آخر، هل هي “حِرفة” وصنعة يمكن إتقانها، أم أنها تظل حكرًا على خبرات نادرة جدًا؟
جينسن هوانغ: بصراحة؟ نعم، أؤكد أن “الحرفة” والمهارة اليدوية والتقنية الدقيقة تُشكّل ركيزة أساسية في هذا المجال. ولو سألني أحد من أين يبدأ، لقلت له ببساطة: ابدأ من YouTube. نعم، يبدو ذلك ساخرًا، لكنه حقيقي. ففهم الأساسيات صار متاحًا، لكن بلوغ الاحترافية يتطلب عقودًا من التراكم والخبرة المتكاملة. لقد أصبحنا – في Nvidia – جيدين جدًا في هذا المجال، لكن ليس صدفة. منذ أيام IBM في الستينيات، لم تظهر شركة تبني منظومة تصنيع الشرائح بهذه الصورة الكاملة. نحن لا نشتري الحلول الجاهزة، بل نبدأ من الصفر: نُصمّم المعماريات بأنفسنا، نُنتج الشرائح، نبني الأنظمة التي تعمل بها، نطوّر الشبكات التي تربطها، نُشيّد البنية التحتية التي تُشغّلها، نكتب البرمجيات التي تتحكم فيها، ثم نأخذ هذه البرمجيات إلى الأسواق، ونُنشئ نظامًا بيئيًا عالميًا – Ecosystem – يعمل على هذا الحاسوب، كما يفعل الناس اليوم حين يطوّرون تطبيقات لهواتف iPhone أو أنظمة Windows. الفرق أن ما نفعله هو نظام شامل قائم بذاته. لهذا السبب، نحن اليوم لا نُعدّ مجرد شركة لتصنيع الشرائح، بل شركة بنية تحتية شاملة للذكاء الاصطناعي. انظر إلى الأنظمة التي نبنيها اليوم، كل شريحة من شرائحنا – إن صح التعبير – تزن طنًا ونصف، وتُكلّف نحو ثلاثة ملايين دولار للوحدة الواحدة.
نُنتج هذه الأجهزة بكميات ضخمة، نصنعها، نُركبها، نختبرها باستخدام حاسوب خارق لاختبار حاسوب خارق – لأنك تحتاج إلى عقل ذكي لاختبار عقل أكثر ذكاء. كل مكوّن يُبرّد بسائل خاص، وكل وحدة تُفكك وتُختبر بدقة، ثم تُشحن جوًا إلى مراكز البيانات العالمية، ونعيد تركيبها هناك ضمن نظام متكامل. هذه المنظومة لا يمكن أن تقوم إلا بتعاون هائل، فنحن نتعامل مع أكثر من 200 مصنع ومورّد في أنحاء متفرقة من العالم. نحن اليوم نبني أنظمة بقيمة مئات المليارات من الدولارات سنويًا. ولعلّ من المفارقات أن Nvidia باتت – في وقتنا الراهن – أكبر شركة تكنولوجية في العالم من حيث القيمة السوقية، أو كما قد يُقال “الشركة الأغلى في التاريخ المعاصر”. لكن هذا لم يكن طريقًا سهلاً. ميزانية البحث والتطوير التي نرصدها لكل جيل جديد من الشرائح تتراوح ما بين 20 إلى 30 مليار دولار. نحن نلعب في سوق ضخم، سوق الذكاء الاصطناعي، سوق يتّجه بسرعة إلى أن يُقاس بأرقام بآلاف المليارات من الدولارات. لهذا، فإن مستوى الاستثمار الذي نقوم به مبرّر تمامًا، لأنه يتناسب مع حجم التحوّل التاريخي والفرص الاقتصادية التي نراها أمامنا.
الجزء السادس : قضايا التصدير، الأمن القومي، والتوازن بين السيطرة على التكنولوجيا والمنافسة في السوق العالمي؟
مايكل ميلكن :
لقد أُتيحت لنا جميعًا الفرصة لقراءة ما يُقال حول القيود المحتملة على أماكن بيع شرائحكم (GPU). هذا موضوع يحمل جوانب إيجابية وسلبية. ما هي الرهانات الحقيقية كما تراها أنتم في Nvidia؟
جينسن هوانغ: تُوصف تكنولوجيا Nvidia غالبًا بأنها “كنز وطني”، وهذا الوصف يحمل قدرًا كبيرًا من الحقيقة؛ إذ أن التكنولوجيا التي نطوّرها تُعتبر أساسية لهذه الصناعة الجديدة التي تُعرف باسم “الذكاء الاصطناعي”.
في بعض حلقات النقاش يظهر جدال بأن ألا تُتاح هذه التكنولوجيا إلا لأصدقاء أمتنا، كي لا تقع في أيدي من قد يستخدمونها لأغراض عسكرية. وتعتبر هذا الحُجّة منطقية في إطار محاولات تقييد التصدير، سواء لأسباب أمنية أو اقتصادية.
لكن هناك مغالطة في هذا الطرح؛ فحتى الحكومات المنافسة لا تعتمد على قدراتها الحاسوبية الداخلية فقط عند تطوير إمكاناتها العسكرية. على العكس، إذا ما احتاجت أي حكومة شيئًا لأغراض عسكرية، فإنها ستحول كل مواردها الحوسبية المتاحة لهذا الغرض. وفي الواقع، هناك ملايين معالجات Nvidia متوزعة بالفعل في شتى دول العالم، مما يعني أن حظر تصدير وحدات GPU إضافية أو تكنولوجيا Nvidia إلى دولة ما لن يُحدّ بشكل فعلي من قدراتها العسكرية.
أنا أرى أنه من الواجب تشجيع تصدير هذه التكنولوجيا، والسبب بسيط؛ نحن نسعى لبناء ذكاء اصطناعي عالمي، وحين يتم تبني المعايير الأمريكية في كافة أنحاء العالم، فإن البيئة العالمية للذكاء الاصطناعي ستُشكل على أسس أمريكية، ولن تعتمد على معايير أي طرف آخر. وليس هذا الأمر مُجدّدًا لنا وحدنا؛ بل إن Nvidia هي الشركة الرائدة عالميًا حاليًا، وفي حال انسحابنا من سوق معين، فمن المؤكد أن شركات أخرى ستتبوأ مكاننا. خذ على سبيل المثال شركة Huawei، التي تُعدّ من أكثر الشركات التكنولوجية نفوذاً في العالم؛ فإذا انسحبنا نحن، فستنتزع هي موقع الريادة دون تردّد.
المنطق هنا يشير إلى أنه إذا رغبنا في كسب السوق العالمي، يجب أن نفرض المعيار الأمريكي ليصبح المعيار العالمي، وبذلك نبني الذكاء الاصطناعي على بنية تحتية تقنية أمريكية.
وفوق كل ذلك، هناك عامل مهم آخر يتمثل في حجم السوق نفسه، الذي يُعدّ ضخمًا للغاية. عندما تقيّدنا السلطات من التصدير إلى الصين، كنا نتحدث عن سوق من المتوقع أن يصل حجمه إلى 50 مليار دولار خلال سنوات قليلة؛ وهذا الحجم يُضاهي حجم شركة مثل Boeing بأكملها، وليس مجرد إنتاج طائرة واحدة. إنها فرصة تجارية هائلة، تنطوي على جلب ضرائب ضخمة، وخلق ملايين الوظائف، وتعزيز التكنولوجيا الأمريكية على مستوى العالم.
الجزء السابع : التفاعل مع العملاء، وتعلّم الشركة من كيفية استخدامهم للتكنولوجيا؟
مايكل ميلكن : هناك بُعد آخر مهم في هذا النقاش، وهو تفاعلكم مع العملاء. فأنتم، حين تُمنَعون من دخول بعض الأسواق، تفقدون أيضًا فرصة التعلّم المباشر من خلال الاحتكاك بالزبائن. والجميع يُدرك أن التفاعل مع العميل هو من أهم ركائز أي شركة ناجحة. فلو تأملنا فيما تعلّمتم من عملائكم على مدار السنوات الأخيرة – ليس فقط ما يطلبونه من شرائح، بل كيف يستخدمونها فعليًا – فكيف أثّر ذلك على عملكم، وعلى تطوّر شركة Nvidia تحديدًا؟
جينسن هوانغ: نحن نعمل اليوم مع معظم مطوّري الذكاء الاصطناعي في العالم، ونتعلّم منهم في كل مرحلة –
من طريقة بناء المعماريات، إلى مدى توافقها أو عدم توافقها مع مستقبل الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، حين نفهم ما الذي يسعى إليه باحث في الذكاء الاصطناعي – لنفترض أنه يُحاول تطوير نموذج ذكاء اصطناعي لمحاكاة خلايا افتراضية –
فهذا يفتح أمامنا أفقًا جديدًا بالكامل. كما تعلمون، لقد حققنا مؤخرًا تقدمًا مهمًا في نماذج البروتينات الافتراضية، ونعمل الآن على الانتقال إلى نماذج الخلايا الافتراضية (الملحق 5). فإذا تمكّنا من فهم كيفية تفاعل الخلايا فيما بينها، وكيف يمكنها التعبير “بصوتها الخاص” عن حالتها البيولوجية، وكيف تُظهر ديناميكيتها الداخلية، فإننا نكون قد اقتربنا من بناء نموذج يحاكيها بدقة باستخدام الذكاء الاصطناعي. ومثل هذه النماذج تختلف كليًا عن نماذج اللغة الضخمة التي يعرفها الجمهور اليوم. ومن خلال هذه الفهم العميق، نقوم بتكييف المعمارية المستقبلية للشرائح التي نطوّرها، لتصبح أكثر ملاءمةً مع هذا النوع من الاستخدامات المتقدمة.
الجزء الثامن : مستقبل الطلب على الذكاء الاصطناعي وتوجهاته؟
مايكل ميلكن : كما سبق وذكرت لك يا جينسن، أذكر أنني زرت شركة IBM قبل سنوات طويلة، وحاولت آنذاك إقناعهم باستخدام ما كان يُطلق عليه في ذلك الوقت اسم “الشرائح الخارقة” في خدمة البحث الطبي. لكن، وفي نهاية المطاف، تلقيت منهم رسالة اعتذار لبقة، مفادها: “شكرًا مايك، عرضك ممتاز، لكننا سنُركّز على ألعاب الفيديو.” وسؤالي الآن هو التالي: كيف ترى مستقبل الطلب على الذكاء الاصطناعي؟ هل هناك قطاعات أو صناعات بعينها مرشّحة لأن تكون الرائدة في التبني؟ هل ترى أن علوم الحياة مثلًا قد تلعب دورًا أكبر؟ وهل هناك آفاق وإمكانات جديدة لهذا المجال؟
“الذكاء الاصطناعي الفيزيائي” هو الذكاء الذي يُجسّد ذاته في الآلات، والروبوتات، والمصانع، ويعمل في بيئة مادية حقيقية.

جينسن هوانغ: إذا تأملت واقع الذكاء الاصطناعي اليوم، فستلاحظ أمرًا مثيرًا: رغم أن Nvidia أصبحت شركة ضخمة، ورغم أن قطاع الذكاء الاصطناعي بأكمله بات عملاقًا، إلا أننا ما زلنا نخدم شريحة ضيقة نسبيًا من السوق، متمثلة في المجال الاستهلاكي المرتبط بالإنترنت. لكن إذا وسّعنا زاوية النظر قليلًا، سنُدرك أن هذا السوق الحالي لا يُمثّل سوى جزء صغير جدًا من حجم الاقتصاد العالمي. هناك قطاعات اقتصادية ضخمة ما تزال شبه عذراء أمام الذكاء الاصطناعي، من أبرزها: الرعاية الصحية وعلوم الحياة والصناعات التحويلية والإنتاج الصناعي. وفي المستقبل، ستتغيّر الصورة جذريًا. ستُصبح المصانع الكبرى عبارة عن روبوتات ضخمة، تنسّق فيما بينها إدارة جيش من الروبوتات الصغيرة داخلها. بل أكثر من ذلك، ستعمل هذه الروبوتات جنبًا إلى جنب مع البشر لإنتاج سلع ومنتجات – بعضها سيكون روبوتات جديدة بدورها! تخيّل معي هذا المشهد: روبوتات تصنع روبوتات تصنع روبوتات. هذا المستوى من التشابك التكنولوجي أصبح أقرب مما نظن. وهذا التحوّل المرتقب في عالم الصناعة سيُطلق العنان لنوع جديد من الذكاء الاصطناعي نُسمّيه: “الذكاء الاصطناعي الفيزيائي” (الملحق 7) الذي يُجسّد ذاته في الآلات، والروبوتات، والمصانع، ويعمل في بيئة مادية حقيقية. وإذا تمكّنا من مواجهة التحديات التي تعترض هذا النوع من الذكاء الاصطناعي – سواء على مستوى البرمجة، أو التصنيع، أو الطاقة – فإننا نتحدث عن أسواق مستقبلية تقدر بتريليونات وتريليونات الدولارات.
الجزء التاسع: فلسفة نفايدي Nvidia في اختيار المواهب؟
مايكل ميلكن : سؤال أخير يا جينسن. بعد هذا الحوار الغني، والاستماع إلى رؤيتك العميقة حول الذكاء الاصطناعي ومستقبل الصناعات، أكاد أسمع كثيرين يتساءلون الآن: “كيف يمكنني الحصول على وظيفة في Nvidia؟” فما هي المهارات التي تبحثون عنها اليوم؟ وما الذي يجذبكم في المتقدمين للعمل لديكم؟
جينسن هوانغ مبتسمًا: إذا لم تكن تُجيد تصميم الشرائح الإلكترونية، ثم أتيت لتخبرني أنك تعلّمت ذلك من خلال YouTube… فذلك، بصراحة، سيقول لي الكثير! (يضحك). لكن لنكن واقعيين، كما ذكرت سابقًا، نحن في Nvidia لا نُطوّر منتجًا واحدًا فحسب، بل نبني بنية تحتية متكاملة للذكاء الاصطناعي، وهذا يتطلّب تنوعًا واسعًا في المهارات والتخصصات. لدينا اليوم في الشركة علماء في البيولوجيا الرقمية، كيميائيون فيزيائيون، مهندسون في الرسوميات الحاسوبية، خبراء في الروبوتات، ومتخصصون في اللغويات الحاسوبية. نغطي طيفًا واسعًا من العلوم، ونعمل في مجالات متعددة تمتد من الرعاية الصحية إلى الخدمات المالية، والتعليم، والصناعة. لذلك، إن كنت خبيرًا في مجال معيّن، فهذا محل تقدير عالٍ لدينا، وإن كنت تملك ذكاءً عامًا متينًا، وتحب العمل الجاد، فستجد مكانك أيضًا بيننا. ومع ذلك، فالأمر لا يتعلق فقط بالشهادات أو المؤهلات، بل يتعلق أيضًا بالشخصية والعقلية. نحن نبحث عن أولئك الذين يحبون الكدّ والتعلّم، ويجيدون الصبر والتحمّل، ويُتقنون فن المعاناة النبيلة في سبيل تحقيق هدف كبير. فإذا كنت من هذا النوع من الناس، فأنت تعرف بالضبط إلى من ينبغي أن تتوجّه.
مايكل ميلكن : أحد الأساتذة المعروفين، وهو صديق لي، أخبرني ذات مرة أنه عندما يبدأ عامًا دراسيًا جديدًا، يحاول أن يكتشف من من الطلاب دخل إلى القاعة بفضل كفاءته، ومن دخل بفضل علاقاته العائلية أو ما يُعرف بـ”الواسطة”. وكان يقول لي دائمًا: “أستطيع أن أميّز بينهم خلال أسبوع واحد فقط.” لكن التحدي الأكبر – كما يضيف – ليس في التمييز بينهما، بل في معرفة كم من الوقت سيستغرق الأمر قبل أن يعمل من دخل بالواسطة تحت إدارة من دخل بكفاءته. فالزمن، في نهاية المطاف، هو المعيار الحقيقي، وهو الكفيل بفرز الجميع ووضع كلٍّ في موضعه… تلك الأيام الصعبة التي مررتم بها، بكل ما فيها من مشقة وصبر، قد آتت ثمارها. ونحن متحمسون للغاية لرؤية ما ستنجزونه في المستقبل. شكرًا جزيلًا لك على حضورك معنا.
الملحقات
الملحق 1 : يُستخدم مصطلح “أجيال تكنولوجيا المعلومات” للإشارة إلى تطور أنظمة الحوسبة والبنية الرقمية عبر مراحل متتابعة. إليك ملخصًا موجزًا لأهم هذه الأجيال:
الجيل | الفترة | الخصائص الرئيسية |
---|---|---|
الجيل الأول | 1940s–1950s | حواسيب ضخمة تعمل بالأنابيب المفرغة (vacuum tubes)، بطيئة ومكلفة جدًا، لا تستخدم أنظمة تشغيل. |
الجيل الثاني | 1950s–1960s | استخدام الترانزستورات بدل الأنابيب، أسرع وأقل تكلفة، ظهرت لغات البرمجة الأولى (مثل Fortran). |
الجيل الثالث | 1960s–1970s | إدماج الدارات المتكاملة (ICs)، حواسيب أصغر وأكثر موثوقية، بداية أنظمة التشغيل متعددة المهام. |
الجيل الرابع | 1970s–1990s | المعالجات الدقيقة (Microprocessors)، الحواسيب الشخصية (PCs)، بداية الإنترنت. |
الجيل الخامس | 1990s–2010s | الذكاء الاصطناعي (AI) الأولي، الحوسبة الموزعة، الشبكات اللاسلكية، الهواتف الذكية. |
الجيل السادس (الحديث) | 2010s–حتى اليوم | الذكاء الاصطناعي المتقدم، إنترنت الأشياء (IoT)، الحوسبة السحابية، البيانات الضخمة، الحوسبة الكمّية. |
الملحق 2 : معاني المفاهيم الثلاثة في مجال تكنولوجيا المعلومات الحديثة:
1. الحوسبة الحدّية (Edge Computing)
هي طريقة لمعالجة البيانات قريبًا من مكان توليدها (مثل الكاميرات، أجهزة الاستشعار، السيارات الذكية)، بدلاً من إرسالها إلى خوادم سحابية بعيدة. و تهدف الى تقليل التأخير (Latency)، تحسين السرعة، وزيادة الأمان. كمثال، سيارة ذاتية القيادة تعالج البيانات من الكاميرا والرادار مباشرة داخل السيارة لتتخذ قرارات فورية، دون انتظار إرسال البيانات إلى السحابة.
2. الحوسبة السحابية (Cloud Computing)
هي تقديم خدمات الحوسبة (تخزين، قواعد بيانات، خوادم، ذكاء اصطناعي…) عبر الإنترنت من خلال خوادم سحابية عن بعد وتهدف الى الوصول إلى الموارد بسهولة من أي مكان، تقليل الحاجة لأجهزة قوية لدى المستخدم. كمثال، تخزين ملفاتك على Google Drive أو استخدام برامج مثل Microsoft 365 عبر الإنترنت.
3. الحوسبة الكمّية (Quantum Computing)
نوع جديد من الحوسبة يعتمد على مبادئ فيزياء الكم، يستخدم “الكيوبت” (qubit) بدلًا من “البت” التقليدي، ما يسمح بتنفيذ حسابات معقدة بشكل أسرع بكثير. ويهدف الى حل مشكلات مستحيلة أو تتطلب آلاف السنين على الحواسيب الكلاسيكية، مثل فك التشفير أو محاكاة الجزيئات. كمثال، شركة Google استخدمت حاسوب كمومي لحل مسألة في ثوانٍ كانت ستستغرق آلاف السنين على أقوى حاسوب تقليدي.

الملحق 3 : لغة C و (C++)
لغة C:
هي لغة برمجة قديمة وقوية ظهرت في السبعينيات وتُستخدم لبرمجة الأنظمة (مثل أنظمة التشغيل مثل Unix) وتمتاز بالسرعة والقرب من الأجهزة (hardware) وتُعتبر “أمّ اللغات الحديثة”. مثال الاستخدام: برمجة نظام تشغيل أو أجزاء من المتصفح.
لغة (C++):
هي تطوير للغة C أُضيفت لها مزايا البرمجة الكائنية (OOP) وتسمح بكتابة برامج معقّدة مثل الألعاب، أنظمة إدارة، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وC++ = C + مفاهيم متقدمة (كالـ Classes و الـ Inheritance). مثال الاستخدام: برمجة الألعاب الكبيرة، مثل FIFA أو محركات البحث.

الملحق 4 : المقصود بالبنية التحتية الأساسية للذكاء الاصطناعي:
هي مجموعة الأنظمة والأدوات والمكوّنات التقنية التي يُبنى عليها تطور الذكاء الاصطناعي مستقبلًا، وتشمل:
1. العتاد (Hardware):
- مثل المعالجات المتقدمة (GPUs وTPUs) التي تُستخدم لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي بسرعة وكفاءة.
- شركة Nvidia (التي يرأسها جينسن هوانغ) هي اللاعب الرئيسي عالميًا في تطوير هذا العتاد.
2. البرمجيات (Software frameworks):
- أنظمة تشغيل، مكتبات الذكاء الاصطناعي، منصات التدريب، أدوات التفاعل مع النماذج (مثل CUDA وTensorRT…).
3. الخوارزميات والنماذج الأولية:
- تطوير الأسس الرياضية التي تُبنى عليها الشبكات العصبية الحديثة ونماذج التعلّم العميق (Deep Learning).
4. البُنى التحتية السحابية:
مراكز بيانات ضخمة وقدرات تخزين وحوسبة موزّعة لتدريب وتشغيل النماذج الضخمة.
الملحق 6 :
1. نماذج البروتينات الافتراضية: مفهومها وأهميتها
▪️ ما المقصود بها؟ نماذج البروتينات الافتراضية هي نماذج حوسبية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وتهدف إلى محاكاة البنية ثلاثية الأبعاد للبروتينات، من خلال تحليل كيفية انطواء (Folding) سلسلة الأحماض الأمينية لتكوين بروتين فعّال يقوم بوظيفة بيولوجية محددة داخل الجسم.
▪️ لماذا تُعد هذه النماذج محورية؟ البروتينات تُشكّل البنية الأساسية لكل خلية في الجسم، وتُساهم في جميع التفاعلات البيولوجية. لذلك، فإن فهم شكل البروتين ووظيفته يمكّن العلماء من:
- فهم كيفية عمل الجسم البشري على المستوى الجزيئي.
- تفسير آلية تفاعل الأدوية مع أهدافها البيولوجية.
- تحديد الأسباب الجزيئية للأمراض المعقدة، مثل السرطان أو الزهايمر.
▪️ التقدم التقني الذي تحقق شهد العقد الأخير ثورة في هذا المجال، حيث طوّرت شركات كبرى أدوات متقدمة مثل:
- AlphaFold 2 (من شركة DeepMind/Google): أداة قادرة على التنبؤ ببنية البروتينات بدقة غير مسبوقة.
- Nvidia BioNeMo: منصة قائمة على الذكاء الاصطناعي لتحليل وتوليد بيانات البروتينات على نطاق واسع.
➤ النتيجة: ما كان يستغرق سنوات من العمل التجريبي المختبري، أصبح ممكنًا إنجازه في دقائق قليلة عبر الحاسوب، مع دقة عالية وتكلفة منخفضة.
2. من نماذج البروتينات إلى نماذج الخلايا الافتراضية
▪️ ما الفرق بين البروتين والخلية؟ البروتين هو جزيء مفرد يحمل وظيفة محددة. أما الخلية، فهي منظومة معقدة تحتوي على آلاف البروتينات، وجزيئات أخرى، وتفاعلات حيوية مترابطة. لذلك، محاكاة خلية واحدة يمثل قفزة نوعية كبرى في تطور الذكاء الاصطناعي في البيولوجيا.
▪️ ما هي الخلية الافتراضية؟ هي نموذج رقمي كامل يحاكي الوظائف الداخلية لخلية حية، بما في ذلك:
- التفاعلات الجزيئية بين البروتينات.
- الإشارات العصبية والكيميائية داخل الخلية.
- الاستجابة للمتغيرات الخارجية مثل الأدوية أو الطفرات الجينية.
▪️ ما الفائدة من هذا التطور؟
- التنبؤ بسلوك الأمراض قبل ظهور أعراضها.
- اختبار الأدوية الجديدة افتراضيًا دون الحاجة إلى التجارب البشرية المباشرة.
- تسريع البحث الطبي من خلال محاكاة دقيقة لمئات السيناريوهات داخل الخلية.
➤ التحدي الحوسبي: محاكاة خلية واحدة تتطلب قدرة حسابية هائلة، نظرًا لاحتوائها على:
- آلاف التفاعلات في الثانية الواحدة.
- شبكة ديناميكية معقدة من التوازنات الداخلية.
- تواصل دائم بين مكوناتها الدقيقة.
3. دور Nvidia في الثورة البيولوجية الرقمية
شركة Nvidia تجاوزت دورها التقليدي كشركة شرائح إلكترونية، وأصبحت: مزوّدًا رئيسيًا للبنية التحتية الحاسوبية الخاصة بالذكاء الاصطناعي في العلوم الحيوية ومطوّرة لمنصات برمجية متخصصة مثل Clara وBioNeMo التي تتيح إجراء عمليات محاكاة بيولوجية معقدة ومزوّدة لمعالجات قوية (GPUs) قادرة على تدريب نماذج ضخمة ومعقدة تعمل على بيانات البروتينات والخلايا.

الملحق 7 :
الذكاء الاصطناعي الفيزيائي ببساطة هو: “ذكاء اصطناعي يعمل في العالم الحقيقي، وليس فقط على الشاشات.” بمعنى آخر: هو نوع من الذكاء الاصطناعي يُركّب داخل أجهزة وآلات وروبوتات تستطيع:
- التحرك والتفاعل مع الأشياء من حولها،
- تشعر بما يجري (بالحساسات)،
- تفكر وتتخذ قرارات (مثل أن تتجنب العقبات أو تُساعد في الجراحة)،
- وتتعلّم من التجربة مع مرور الوقت.
أمثلة بسيطة: مكنسة ذكية تنظف المنزل لوحدها وتتحاشى العوائق وسيارة ذاتية القيادة تقود وتلتزم بالقوانين بدون سائق وروبوت جراحي يساعد الطبيب بدقة متناهية في العمليات وروبوت في مصنع يركّب قطعًا إلكترونية أو يتعاون مع عمّال بشر. فالفرق هو أن الذكاء الاصطناعي العادي نشاهده على الشاشة (مثل ChatGPT، الترجمة، الصور) والذكاء الاصطناعي الفيزيائي يُرى في الواقع المادي (آلات ذكية تتحرك وتعمل).
المقالات ذات الصلة :
https://dr-achbani.com/ثورة-الذكاء-الاصطناعي-في-الفصول-الدرا