المنبر الحر

تحولات النظام العالمي الجديد: تحليل وضّاح خنفر لموازين القوى الدولية ومستقبل العرب – الجزء الثالث

انطلاقًا من حرصنا على تعميم الفائدة وتيسير الفهم، تم نقل هذا المحتوى من منصة يوتيوب (بودكاست الشرق)، وأُعيدت صياغته في 3 اجزاء بعناية من طرف د. الحسن أشباني، مدير الموقع، بلغة عربية فصيحة وأسلوب حواري مبسّط يلائم مختلف القرّاء

ملخص الجزء الثالث من حوار بودكاست الشرق : العرب والنظام الدولي الجديد: سؤال الغياب وفرصة العودة

في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، يطرح الأستاذ وضّاح خنفر تساؤلًا جوهريًا حول موقع العالم العربي في النظام الدولي الآخذ في التشكل. ويؤكد في معرض حديثه أن الكيان العربي، بوضعه الحالي، لا يشكّل فاعلًا جيوسياسيًا موحدًا، بل هو أشبه بمجموع كيانات متباعدة تفتقر إلى مشروع تكاملي يضمن لها موضعًا على طاولة القوى الدولية. فغياب الرؤية الاستراتيجية المشتركة بين الدول العربية، إلى جانب استمرار الانقسامات والحسابات القُطرية، حال دون بلورة قطب عربي يمكنه التأثير في المعادلات الإقليمية والدولية، على غرار التجربة الأوروبية في بناء فضاء مشترك متكامل.

وبحسب خنفر، فإن هذا الفراغ العربي في صناعة القرار لا يمكن تجاوزه إلا بإرادة سياسية واعية تؤمن بضرورة تأسيس منظومة وحدوية تحترم السيادة الوطنية لكنها تتشارك في الأمن، والاقتصاد، والرؤية الحضارية. وفي مقابل هذا الغياب العربي، تتموضع تركيا وإيران كقوتين إقليميتين تتحركان ضمن مشاريع استراتيجية واضحة، في حين تستغل إسرائيل حالة الاضطراب العربي لتكريس رؤيتها التوسعية، خاصة في الملف السوري الذي بات ميدانًا مفتوحًا لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية.

يشير خنفر إلى أن تركيا تعتبر وحدة الأراضي السورية خطًا أحمر لأمنها القومي، وترفض أي مشروع لتقسيم سوريا يخدم أجندات كردية أو إسرائيلية. وفي هذا السياق، جاء اللقاء التركي الإسرائيلي في أذربيجان لترسيم حدود النفوذ وإدارة التصادم المحتمل. أما إيران، فهي تواجه مفترق طرق حرجًا مع الولايات المتحدة، حيث تتجاذب القرار الأمريكي رؤيتان: إحداهما تسعى إلى حرب بدفع من اللوبي الإسرائيلي، وأخرى تروّج لصفقة اقتصادية كبرى تعيد إيران إلى المنظومة الدولية عبر بوابة الاستثمار، لا مجرد اتفاق نووي تقليدي.

في المقابل، يلفت خنفر إلى أن إسرائيل، في لحظة فائض القوة، تتجه نحو سلوك غير عقلاني قائم على الخطاب التوراتي والأساطير الاستعمارية، ما يجعلها في مفارقة لافتة من أكثر الكيانات هشاشة على المدى الاستراتيجي، في حال تغيّر النظام الدولي الذي نشأت في ظله بعد الحرب العالمية الثانية.

أما على الصعيد العربي الداخلي، فيشدد خنفر على أن غياب رؤية حضارية جامعة يؤدي إلى تضخم الخلافات الهوياتية والقطرية، ويُبقي الشعوب العربية في حالة من التشرذم والضياع الاستراتيجي. ومن هنا، يوجه دعوته للنخب والمثقفين بضرورة التحرك الجاد نحو بناء مشروع حضاري عربي ينطلق من قراءة واعية للواقع، لا من ترداد الشعارات. ويرى أن الشعوب، رغم غياب الديمقراطية، لا تزال تملك وعيًا أصيلًا يمكن أن يُترجم إلى فعل تاريخي، إذا ما تحوّل إلى وعي استراتيجي جمعي.

إن التحول الجاري في موازين القوى الدولية لا يعني بالضرورة نهاية الهامش العربي، بل قد يكون فرصة استثنائية لإعادة التموضع إذا أُحسن استثمارها. غير أن ذلك مشروط بجرأة السؤال، وشجاعة الرؤية، ووضوح المشروع.

 قراءة ممتعة للجزء الثالث والاخير من هذا الحوار الشيق.

الحوار بين الصحفي عبدالرحمن ناصر و الاستاذ وضاح خنفر -الجزء الثالث والاخير –

دعوة للنخب والمثقفين بضرورة التحرك الجاد نحو بناء مشروع حضاري عربي ينطلق من قراءة واعية للواقع، لا من ترداد الشعارات

عبد الرحمن ناصر: 

في ظل كل ما يحدث، هل يمكن للعالم العربي أن يجد لنفسه مكانًا في هذا النظام الدولي الجديد؟ هل من الممكن أن يكون فاعلًا، أو أن يدخل في هذه القطبية بطريقة أو بأخرى؟

وضاح خنفر: 

هذا سؤال مهم جدًا. بدايةً، يجب أن نتفق على المصطلح: “العالم العربي” كمصطلح جيوسياسي غير موجود حاليًا. لدينا شعوب عربية تتكلم اللغة العربية، لكن لا يوجد لدينا “قطب استراتيجي عربي” واحد. نحن مجموعة من اللاعبين، للأسف، غير استراتيجيين في معظم الأحيان. وبالتالي، لا يمكن الحديث عن حضور عربي موحد ومؤثر ما لم نؤسس منظومة تكاملية عربية، تمامًا كما فعل الأوروبيون.

عبد الرحمن ناصر:

وما الذي يلزمنا لتحقيق ذلك؟

وضاح خنفر: 

نحن بحاجة إلى فضاء عربي مشترك، بمركزية جيوسياسية واحدة، واقتصاد متكامل، وبرؤية استراتيجية موحدة. إذا نجحنا في ذلك، نستطيع الجلوس على الطاولة الدولية ونقول: نحن نمثل أربعمائة مليون إنسان، ولدينا ثروات هائلة، من نفط وغاز واقتصادات ناشئة. أما إذا لم نفعل، فسنظل كما كنا خلال العقود الماضية، ملعبًا للقوى الكبرى بدلًا من أن نكون فاعلين حقيقيين.

عبد الرحمن ناصر:

وما الذي يمنع هذا التكتل العربي؟ ما العقبة الرئيسية؟

وضاح خنفر:  فقداننا لفكرة الإجماع. منذ قرن ونحن غير قادرين على الوصول إلى رؤى مشتركة. لدينا 23 دولة عربية، وكل دولة لها حساباتها الخاصة. فشلنا في تحديد المشترك بيننا سياسيًا واقتصاديًا واستراتيجيًا. لكني أؤمن بأن العرب مؤهلون إن هم أرادوا، إن هم أسسوا هذا النظام التكاملي الذي دعوت إليه.

عبد الرحمن ناصر: وهل يجب أن نلغي الدولة الوطنية من أجل ذلك؟

وضاح خنفر:  أبدًا. لا أتحدث عن إلغاء الدول الوطنية، بل عن فضاء عربي مشترك ينظم المصالح الاقتصادية، ويجمع الرؤى السياسية والاستراتيجية. كما فعل الأوروبيون. هذا الفضاء لا بد أن يتشكل ضمن منظومة تكاملية وحدوية.

عبد الرحمن ناصر: إذًا، ضمن هذه التكتلات الإقليمية، أين تقف تركيا وإيران؟

وضاح خنفر:  تركيا وإيران موجودتان بطبيعة الحال. في السنة ونصف الماضية، خصوصًا بعد 7 أكتوبر والحرب على غزة، والتراجع النسبي لمحور المقاومة، وكذلك التراجع الإيراني بعد سقوط الأسد، بدأ نقاش جديد يظهر حول إيران: هل ستُضرب؟ هل ترامب سيتخذ قرارًا عسكريًا أم سيتجه إلى التفاوض؟

عبد الرحمن ناصر: كيف ترى أسلوب ترامب في التعامل مع إيران؟ هل سيوجه ضربة عسكرية؟

وضاح خنفر:  بصراحة، حتى ترامب نفسه لا يعلم ما إذا كان سيفعل أم لا. الوضع معقد. هناك انهيار اقتصادي عالمي كبير قادم، وترامب يعلم أن أي حرب مع إيران ستكون مكلفة جدًا، خاصة مع أزمة اقتصادية بهذا الحجم. إسرائيل، من جانبها، هي الدافع الأكبر نحو المواجهة.

عبد الرحمن ناصر: وهل لإسرائيل هذا التأثير الكبير في القرار الأمريكي؟

وضاح خنفر:  للأسف، نعم. إسرائيل الآن تمتلك نفوذًا داخل الإدارة الأمريكية يتجاوز حتى المصالح الأمريكية نفسها. هناك فريق في إدارة ترامب مؤيد لإسرائيل بشكل غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة. وفي المقابل، هناك فريق آخر يرى ضرورة عقد صفقة مع إيران؛ صفقة اقتصادية تعيد إيران إلى النظام الدولي وتفتح أبوابًا هائلة للثروات الأمريكية.

عبد الرحمن ناصر: تحدثت عن توجهين داخل الإدارة الأمريكية بشأن إيران: توجه يدفع نحو الحرب وتوجه آخر يسعى لعقد صفقة. فهل هذه الصفقة واقعية؟ وهل يمكن أن تُبرم بالفعل؟

وضاح خنفر:  نعم، الواقع الآن أن هناك صراعًا حقيقيًا داخل الإدارة الأمريكية بين جاذبية الصفقة وغواية الحرب. الحرب تدفع بها إسرائيل، فيما الصفقة تحكمها البراجماتية التي تسيطر على تفكير ترامب ومن حوله، حيث يطمحون لجني ترليونات الدولارات من وراء إيران. ولا ننسى أن الإيرانيين عرضوا هذا الخيار على الأمريكيين، أي أن يكون هناك استثمار أمريكي مباشر داخل إيران، لا مجرد اتفاق نووي تقليدي كما كان سابقًا.

عبد الرحمن ناصر: إذًا، نحن أمام خيارين: صفقة اقتصادية ضخمة أو مواجهة عسكرية.

وضاح خنفر:  بالضبط. ولهذا ترامب بدأ بالدخول في مفاوضات. وحتى الآن، الصفقة هي الخيار المفضل لديه، لكن إن لم يتم التوصل إلى اتفاق، وقرر نتنياهو أن الفرصة مواتية لتوجيه ضربة، فقد يفعلها، وبدعم من اللوبي الصهيوني في البيت الأبيض الذي له تأثير ضخم.

عبد الرحمن ناصر: وهل هناك تيار ثالث غير الحرب والصفقة؟

وضاح خنفر:  نعم، هناك تيار ثالث داخل الإدارة الأمريكية، يرى أن الإيرانيين شعب “آري”، أي أنهم ينتمون إلى العرق الأوروبي الأبيض، وليسوا عربًا. وهذه القومية الثقافية تؤثر في طريقة تفكير بعض صناع القرار الأمريكيين، وتجعلهم يرون أن التفاهم مع إيران معقول وممكن. ثم إن إيران، قبل الثورة الإسلامية، كانت صديقة لأمريكا وإسرائيل، وكانت شرطي المنطقة. فما الذي يمنع من استعادة ذلك الدور في سياق تاريخي جديد ومصلحة اقتصادية؟

عبد الرحمن ناصر: إذًا الحديث الآن عن صفقة اقتصادية خالصة، وليس مجرد العودة إلى الاتفاق النووي؟

وضاح خنفر:  بالضبط. نحن لا نتحدث عن اتفاق نووي فقط، بل عن استثمار أمريكي مباشر في إيران. وأنت تعرف أن أمريكا لا تفعل شيئًا مجانًا، فهي ليست جمعية خيرية، ولا توجد دولة في العالم كذلك. كل ما يجري مرتبط بالمصالح الاستراتيجية.

عبد الرحمن ناصر: ولكن أسلوب ترامب في إدارة هذه الملفات يختلف عن سابقيه.

وضاح خنفر:  صحيح. أسلوبه هو ما يسبب الإشكال. الفكرة التي يحملها ترامب قد تكون صحيحة من حيث المبدأ، لكن تطبيقها كان خاطئًا. مثلًا، ترامب يريد فرض تعريفات جمركية عالية، ويريد نقل المصانع العالمية إلى داخل أمريكا، وهذا من حيث المبدأ كلام عقلاني. لكن تنفيذه بطريقة دراماتيكية متسرعة أربك المشهد، وخلق فوضى لا يمكن إصلاحها بسهولة.

عبد الرحمن ناصر: إذًا، هل كان من الممكن تنفيذ هذه الأفكار بطريقة أنجح؟

وضاح خنفر:  بالتأكيد. بناء مصانع جديدة داخل أمريكا يحتاج إلى 4 أو 5 سنوات على الأقل، ويحتاج إلى إصلاحات قانونية وبنيوية. الحمائية الاقتصادية التي ظهرت بعد جائحة كورونا كانت مشروعة، لأن العالم اكتشف أننا عيال على الصين. لكن هذه الحمائية يجب أن تُطبق تدريجيًا وضمن منطق اقتصادي، لا بأسلوب استعراضي كما فعل ترامب.

عبد الرحمن ناصر: ترامب يعتقد أن الاقتصاد الأمريكي كان في أفضل حالاته عام 1913. ما رأيك؟

وضاح خنفر:  هذا تفكير ساذج. العالم في 1913 كان مختلفًا جذريًا. آنذاك كنا نصنع أدوات، اليوم نصنع أفكارًا، رؤى، برامج، روبوتات، وذكاء اصطناعي. ولم يعد ممكنًا أن تصنع كل شيء بنفسك. لا مفر من الاندماج الاقتصادي العالمي، ولكن يمكن اختيار بعض الصناعات الاستراتيجية التي نعيد بناؤها في الداخل.

عبد الرحمن ناصر: الآن ونحن نتحدث عن السياسات المسرحية، مثل فرض رسوم جمركية بنسبة 225%، ورفع أسعار الفائدة في مشهد ترامب وهو يتحدث مع نتنياهو، ويتناول مشاكل تركيا في سوريا… من الواضح أن هناك علاقات تركية أمريكية جيدة. فهل هذا قد يُسهم في صعود الدور التركي؟ وفي المقابل، لدينا سوريا، اللاعب المحوري، وفي الخلفية إيران المتقهقرة. ما قراءتك للقاء التركي الإسرائيلي الأخير في أذربيجان؟ خصوصًا وأن جدول الأعمال كان حول سوريا.

وضاح خنفر:  بدايةً، دعنا نتحدث عن إسرائيل. إسرائيل، للأسف، ليست مؤسسة على قواعد استراتيجية ثابتة، بل حصلت على نوع من “النشوة” والقوة المفرطة مؤخرًا، وهذا جعلها تعيش وهمًا بالتفوق والضخامة. في تقديري، إسرائيل ستكون من أكبر الخاسرين استراتيجيًا في حال تراجع أو تغيّر النظام الدولي الحالي، لأن هذا النظام هو من صنع إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية. إسرائيل لم تكن قائمة قبل عام 1948.

عبد الرحمن ناصر: إذًا انهيار النظام أو تبدّله قد يهدد وجود إسرائيل نفسه؟

وضاح خنفر:  نعم، لهذا السبب هناك قلق وجودي متزايد في إسرائيل بشأن المستقبل. في السنوات الأخيرة، تحديدًا بعد طوفان الأقصى، وما حصل من تدمير للبنية التحتية للمقاومة في لبنان وغزة، شعرت إسرائيل بنشوة القوة. فخرجت عن المعقول والمنطق في أفعالها. تقوم يوميًا بقصف سوريا ولبنان، وتمارس إبادة جماعية في غزة، وتتحدث عن مشاريع غريبة مثل “ممر داوود” من سوريا إلى القامشلي. هذه أوهام توراتية استعمارية عنصرية عادت للظهور بقوة.

عبد الرحمن ناصر: تقصد أن الخطاب الإسرائيلي بات دينيًا توراتيًا أكثر مما هو عقلاني؟

وضاح خنفر:  نعم، العقل الصهيوني عاد للمقولات التوراتية. إسرائيل تضرب أكثر مما ينبغي، ولو كانت تفكر بعقل استراتيجي لما فعلت ذلك. ما تفعله اليوم هو تدمير للذهب، تدمير للمستقبل على المدى البعيد. هي تنفلت من عقالها، وأفعالها الحالية تتجاوز الحد المعقول لدولة بهذا الحجم. هي تعيش غطرسة مطلقة مستغلة تراجع النظام الدولي الذي أسّسها.

عبد الرحمن ناصر: ماذا عن سوريا؟ وأين موقع تركيا في هذه المعادلة؟

وضاح خنفر:  تركيا ترى سوريا مجالًا حيويًا للأمن القومي التركي. هناك حدود مشتركة طويلة (حوالي 900 كم)، وملف الأكراد يمثل تهديدًا تاريخيًا خطيرًا. كذلك ملف اللاجئين، الذي يؤرق تركيا، خاصة أن أي اضطراب جديد سيزيد موجات اللجوء. تركيا بحاجة إلى استقرار في سوريا، ولذلك ترى أن قيام دولة مركزية واحدة في سوريا يخدم مصلحتها الاستراتيجية.

عبد الرحمن ناصر: لكن إسرائيل لا تريد ذلك، أليس كذلك؟

وضاح خنفر:  بالضبط. إسرائيل تريد تقسيم سوريا إلى أربع كيانات. هذا تهديد مباشر للأمن القومي التركي. تركيا لا تريد دولة كردية في شمال سوريا، ولا تريد بؤرًا للإرهاب مستقبلاً. لذلك حاولت أن تؤسس لبنية عسكرية داخل سوريا لتحقيق هذا الهدف.

عبد الرحمن ناصر: وفهمت أن إسرائيل قصفت مواقع كانت من المفترض أن تؤول للجيش التركي، صحيح؟

وضاح خنفر:  نعم، وهذا كان نقطة التحول. هناك اتفاق بين خمس دول في المنطقة – من بينها الأردن، العراق، سوريا، تركيا ولبنان – على تأسيس منظومة عسكرية في سوريا لمكافحة ما يسمى الإرهاب. بعض الدول سترسل قوات، وأخرى ستكون شريكة استخبارية. لكن إسرائيل أرادت إفشال هذا المشروع، وبدأت بقصف مواقع تخص هذا التحالف.

عبد الرحمن ناصر: وماذا عن الشخصيات الإسرائيلية المؤثرة في هذا القرار؟

وضاح خنفر:  أقرب الناس الآن إلى نتنياهو هو مستشار أمريكي الأصل، وُلد في الولايات المتحدة، والده كان حاكمًا لولاية أمريكية، ثم انتقل إلى إسرائيل وأصبح مستشارًا لنتنياهو. هذا الرجل هو صاحب فكرة التقسيم. نتنياهو بدوره يتبنّى هذا المشروع بقوة.

عبد الرحمن ناصر: وهل هذا يصطدم مباشرة بالمشروع التركي؟

وضاح خنفر:  تمامًا. التصادم مباشر، ليس فقط مع تركيا، بل مع مشاريع عربية أخرى ترى في وحدة سوريا ضمانًا للأمن القومي. تقسيم سوريا يعني فرض واقع خطير جدًا على تركيا، ويعني أن أي عمل عسكري تركي داخل سوريا سيتحوّل إلى صراع متعدد الأطراف.

عبد الرحمن ناصر: وهل يعني هذا أن اللقاء في أذربيجان كان محاولة لاحتواء التصادم؟

وضاح خنفر:  كان لقاء تقنيًّا، لطرح الحدود القصوى التي يمكن لكل طرف أن يتحرك ضمنها. تركيا قالت بوضوح: إذا شعرنا بأن إسرائيل تتواصل مع البي كي كي (الجهات الكردية المسلحة)، فهذا إعلان حرب مباشر. إسرائيل لا تريد وحدة سوريا، وتركيا ترى أن سوريا الموحّدة ضمانة لأمنها.

عبد الرحمن ناصر: بتقديرك، ماذا جرى بين تركيا وأمريكا في سياق الأزمة السورية؟

وضاح خنفر: أعتقد، من قراءتي للمشهد، أن تركيا قدّمت شكوى للولايات المتحدة — طبعًا لا أقول أن لديّ معلومات مؤكدة، لكن هذا ما يبدو لي من خلال التطورات. فالعلاقة بين أنقرة وواشنطن كانت جيدة من حيث المبدأ. ومن ثم، استدعى ترامب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن لبحث أمرين رئيسيين: الأول هو إيران، حيث قال له ترامب: “لا تقم بضرب إيران، نحن مقبلون على صفقة مباشرة معها”. والثاني كان متعلقًا بتركيا، حيث طلب منه أن يتفاهم معها بخصوص سوريا، لأن التصعيد بينهما لا يخدم أي طرف.

عبد الرحمن ناصر: وهل فعلاً حصل تفاهم؟

وضاح خنفر: يبدو أن ذلك اللقاء بين تركيا وإسرائيل في أذربيجان كان تقنيًا بالأساس. تركيا قالت لإسرائيل: “أنا لا أريدك أن تبني بنى تحتية في سوريا يمكن أن تضر بأمني، خصوصًا مع وجود جماعات مسلّحة وأطراف من كل أنحاء العالم.” كما تعهدت تركيا بأنها لن تسمح بتحول سوريا إلى تهديد أمني ضد إسرائيل. وأضافت: “إذا شعرت أنك تتواصل مع الأحزاب الكردية (مثل حزب العمال الكردستاني وغيره)، فأنا سأعتبر ذلك إعلان حرب وسأرد بالمثل. هذا خط أحمر لا يمكن تجاوزه”.

عبد الرحمن ناصر: هل وصل الطرفان إلى اتفاق؟

وضاح خنفر: ليس بعد. اتفاق أذربيجان لم يكن نهائيًا، لكنه كان خطوة تمهيدية. كل طرف قدّم ما لديه، وتم تحديد الخطوط الحمراء للطرفين. الاتفاق النهائي لم ينجز بعد، لكن من المفترض، إن تم التوصل إليه، أن تبدأ الولايات المتحدة بسحب قواتها تدريجيًا من سوريا، ثم تبدأ عملية رفع العقوبات عن النظام السوري تدريجيًا أيضًا.

عبد الرحمن ناصر: وهل لإسرائيل دور في هذا الترتيب؟

وضاح خنفر: نعم، إسرائيل ستلعب دورًا كبيرًا، لأنها تريد ضمان تنفيذ بعض النقاط التي تخدم مصالحها الاستراتيجية. هل سنصل إلى مواجهة مباشرة؟ ربما، لكن يمكن عبور هذه المرحلة باتفاقات جزئية تُهدئ التصعيد مؤقتًا.

عبد الرحمن ناصر: وماذا عن إيران؟ هل ستظل عنصرًا حاسمًا في الملف السوري؟

وضاح خنفر: إيران دائمًا في الخلفية حين نتحدث عن سوريا. ولكن برأيي، في لحظة ما، سيبقى مشروع تقسيم سوريا الذي تسعى إليه إسرائيل — وهو مشروع مدمّر بالنسبة لتركيا — عائقًا كبيرًا. إذا عقدت إيران صفقة مع ترامب أو غيره، فستكون سوريا جزءًا من هذا الترتيب. وقد تضطر إيران، في حال وُجهت ضربة لمواقعها النووية، إلى تقديم تنازلات.

عبد الرحمن ناصر: أي نوع من التنازلات؟

وضاح خنفر: مثل قبول عمليات تفتيش موسعة، أو تقديم ضمانات لعدم امتلاك السلاح النووي. وقد تضطر إيران أيضًا للتراجع عن دعم حلفائها التقليديين في المنطقة مثل الحوثيين، وحزب الله، وغيرهم.

عبد الرحمن ناصر: هل ترى أن الإيرانيين منفتحون على هذه التحولات؟

وضاح خنفر: نعم، الإيرانيون يبدون مرونة في هذا الشأن. بعض الكتاب الإيرانيين يطرحون أسئلة من نوع: “لماذا لا نكون مثل إندونيسيا أو ماليزيا أو باكستان؟”، فهم دول إسلامية لا تعترف بإسرائيل، لكن لا تتحمل عبء الحرب معها. الإيرانيون، رغم عدائهم لإسرائيل، بدأوا يتساءلون إن كان يستحق الأمر أن تُضحى باقتصادهم من أجل هذه القضية.

عبد الرحمن ناصر: هل يمكن أن يتراجعوا فعلاً عن اعتبار إسرائيل العدو الرئيسي؟

وضاح خنفر: أعتقد أن هذا ممكن، ليس تطبيعًا كاملاً، ولكن تراجعًا عن مركزية العداء. سيقولون: “نحن نسير مع ما يفعله العرب والمسلمون”. فهم أذكياء ويعرفون أن أمامهم أربع سنوات في عهد ترامب، إما أن تحدث حرب وتكون نتائجها مدمرة داخليًا، أو أن يتجاوزوا العاصفة عبر مفاوضات وتنازلات مؤقتة، على أمل استعادة ما فقدوه لاحقًا.

عبد الرحمن ناصر: هل ترى أن إيران قادرة على المناورة؟

وضاح خنفر: قطعًا. إيران دولة ذات حضارة قديمة، ولديها قدرة عالية على المناورة. تسعى الآن إلى المرور من هذه المرحلة ببعض الانحناءات، لتقف مجددًا على قدميها في المستقبل.

عبد الرحمن ناصر: وهل رفع العقوبات عن سوريا مرتبط بهذه التفاهمات؟

وضاح خنفر: العقوبات الأميركية قرار سياسي، نعم. فإذا توصلت تركيا وإسرائيل إلى تفاهم، وبدأ الأميركيون برفع جزئي للعقوبات، فقد تبدأ سوريا بـ”التنفس” تدريجيًا من جديد.

عبد الرحمن ناصر: هل يمكن أن تفكّر أمريكا فعليًا في رفع العقوبات عن سوريا؟ لأن قرار العقوبات في نهاية المطاف هو قرار سياسي.

وضاح خنفر: نعم، هذا وارد. خصوصًا إذا كنا نتحدث عن الملف السوري. أعتقد أن ترامب قد يفكّر في رفع العقوبات تدريجيًا عن النظام السوري أو عن الوضع السوري بشكل عام. لأنه، ما هو العقل الناظم للسياسة الأمريكية في الملف السوري؟ الجواب هو: إسرائيل، في رأيي، بالإضافة إلى تركيا. في هذه اللحظة، هناك ثلاث أولويات في السياسة الأمريكية:
أولًا، إيران، إذ توجد إشكالية حقيقية يجب التعامل معها، سواء بالحرب أو بالتفاوض. ثانيًا، تركيا، وهي دولة مقبولة جدًا، ولسببٍ ما، فإن ترامب يتحدث بشكل إيجابي جدًا عن أردوغان، وهناك علاقات خاصة بين الطرفين. ثالثًا، إسرائيل. هذا هو المثلث الفاعل حاليًا في المنطقة، وطبعًا هناك دول الخليج والسعودية، ولكنني هنا أركز على جوار سوريا.

عبد الرحمن ناصر: وما هي ملامح هذا النظام الإقليمي الذي يمكن أن يتشكل في ظل هذه التغيرات؟

وضاح خنفر: اسمح لي أن أقول أمرًا أراه مهمًا جدًا. نحن نحتاج إلى استئناف دور حضاري في هذه المنطقة. إيران حاضرة من ناحية، لضمان تطبيق ما يتم الاتفاق عليه. هذا ما سيفعله الأوروبيون أيضًا. الأوروبيون حاولوا أن يرفعوا العقوبات بشكل أسرع، لكن عدم رفعها من قبل الأمريكيين أفقدها قيمتها الاستراتيجية. أمريكا هي الفاعل الحقيقي. وبالتالي، أمريكا تريد مقابلًا سياسيًا لرفع العقوبات، وربما تطالب بمراقبة التسييل (رفع العقوبات) لضمان الاستمرار.

البوصلة الشعبية العربية صادقة، والوعي الجمعي حيّ، لكنّه بلا ترجمة استراتيجية.
إن لم نُحوّل هذا الوعي إلى مشروع نهضوي، سنُقصى من مشهد العالم المتحوّل.
أمامنا فرصة تاريخية لم تتح لأجدادنا منذ قرن، وإن لم نعبرها، سنغرق في التمزق والغياب.
وحده الحوار الجاد المبني على المستقبل، هو جسر العبور إلى زمن عربي جديد.

عبد الرحمن ناصر:  يبدو إذًا أن هناك ملامح تشكُّل لنظام دولي، ولكن أيضًا تشكُّل لنظام إقليمي في المنطقة. ما رأيك؟

وضاح خنفر: نعم، تمامًا. لكن لدينا مشكلة: الخلافات تتضخم حينما لا نتحدث عن المشتركات. الخلافات تظهر عندما لا يكون لدينا رؤية مشتركة للمستقبل. حين لا نعرف إلى أين نتجه، تصبح الخلافات الوطنية والمذهبية والقطرية طاغية: أردني وفلسطيني، جزائري ومغربي، سوري وعراقي… وهكذا. لأن الحديث لا يركز على المستقبل المشترك، بل على الاختلافات والفرقة والخنادق بيننا. للأسف، نحن لا نملك الآن رؤية حضارية جامعة. نحن نسير باتجاه “اللامكان”. وأنا أسأل: إلى أين نتجه؟ نحن قبلنا أن نكون كيانات وظيفية، لا نملك مراكز استراتيجية لا إقليميًا ولا دوليًا.

عبد الرحمن ناصر:  إذًا ما المطلوب في رأيك للخروج من هذا الوضع؟

وضاح خنفر: نحتاج إلى تفكير استراتيجي عميق. نحتاج أن تجلس النخب والسياسيون وتناقش رؤية مشتركة للأمن القومي العربي أو الإقليمي. نحتاج إلى بناء مؤسسات تخدم هذه الرؤية، سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي أو الأمني. لكن، حتى الآن، لا أرى أننا نملك هذه القدرة. نحن كشعوب ومثقفين ربما نستطيع أن نثير الجدل حول استئناف حضاري حقيقي، وأن نتحدث عن الأمن القومي بمفهوم استراتيجي. الوعي الاستراتيجي للأسف حبيس بعض مراكز الدراسات، أو الصحفيين، أو السياسيين ذوي الانتماءات الخاصة. لكنه يجب أن يصبح وعيًا عامًا.

عبد الرحمن ناصر:  ولكن دولنا العربية ليست ديمقراطية، كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل غياب الديمقراطية؟

وضاح خنفر: نعم، أنا أعلم ذلك. ولكن حتى في ظل غياب الديمقراطية، يمكنك كحاكم – سواء كنت رئيسًا أو ملكًا أو أميرًا – أن تحكم مجتمعًا أكثر انسجامًا، واقتصادًا أكثر قوة، وعلاقات أفضل مع الجيران، ورؤية استراتيجية أوضح. هذا ليس مستحيلًا. لكن لا يمكن أن نستمر كما نحن: قلة حيلة مقترنة بالجهل والفقر والتفكك، وغياب رؤية مستقبلية.

عبد الرحمن ناصر:  إذًا، هل يمكن للشعوب أن تلعب دورًا رغم هذا الجمود السياسي؟

وضاح خنفر: نعم، بالطبع. الشعوب قادرة. وأنا أؤمن بأن البوصلة الشعبية العربية حقيقية وصادقة. والوعي الجمعي صادق. ولكن لا يتم ترجمته إلى استراتيجيات أو رؤى. نحن بحاجة إلى هذا التحول، وإلا فسنظل على هامش التاريخ. لدينا الآن فرصة تاريخية لم تتح لأجدادنا منذ قرن. إن لم نعبر هذه المرحلة، فسوف نخسرها، وسنستمر في الانهيار والتمزق. ولكن إذا بدأنا حوارًا جادًا مبنيًا على المستقبل، يمكننا أن نعبر.

عبد الرحمن ناصر: كلمة أخيرة، أستاذ وضّاح، كيف تنصح الشباب العربي بالتعامل مع هذا العالم المتحوّل؟

وضاح خنفر: أنصحهم بالوعي، والفهم العميق، والابتعاد عن السطحية. النظام العالمي يتغير، ومن يقرأ هذا التغيير بشكل واعٍ يستطيع أن يشارك في صناعته. علينا أن نُخرِج شبابًا يحمل مشروعًا، لا مجرد ردود أفعال.

عبد الرحمن ناصر: شكرًا جزيلًا لك، أستاذ وضّاح، على هذا الحوار العميق والمفيد. وشكرًا لكم، مستمعينا الكرام، إلى اللقاء في حلقة جديدة من بودكاست الشرق.

https://dr-achbani.com/لأستاذ-وضاح-خنفر-التغيرات-والتحولات-ف

https://dr-achbani.com/مع-الاستاذ-وضاح-خنفر-الحرب-على-غزة-أحدث

https://dr-achbani.com/9048-2

https://dr-achbani.com/الحرب-على-غزة


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Radio
WP Radio
OFFLINE LIVE