المنبر الحر

مع الاستاذ وضاح خنفر: الحرب على غزة أحدثت ثورة في الوعي الجمعي للأمة -الجزء الثاني-

د. الحسن اشباني

فيما يلي الجزء الثاني من نص الحوار الذي قمت بتسجيله وتحريره كتابة انطلاقا من صوت وصورة، مع الحرص على تمثيل كل الأفكار المثيرة التي تمت مناقشتها في هذا النقاش الشيق. وللتذكير، الحوار من بودكاست الشرق الذي اجراه الصحفي والباحث عبد الرحمن ناصر، مع الأستاذ وضّاح خنفر تحت عنوان ” الحرب على غزة أحدثت ثورة في الوعي الجمعي للأمة”. ولفهم الجزء الثاتي منه لابد من قراءة الجز الاول الذي نشرناه الاسبوع الماضي في موقعنا. قراءة ممتعة.

نص الحوار -الجزء الثاني-

علينا أن لا نفكر في أنفسنا كدول فردية، يستفيد منا الخصوم في أرضنا وعبر تحالفاتهم الجزئية و الموضعية، وندخل على الدوام في حالة من الضعف والهوان. ينبغي لنا أن نعمل كمنظومة متكاملة، بمركز ثقل

الرسالة الأولى الى الانظمة العربية و شعوبها

ذ. وضاح : أود أن أوجه رسالة أولى للنخب السياسية، وأعني بذلك الحكام والقائمين على الأمر. إذا كنا نفكر في المستقبل وفي التحول الجيوسياسي الاستراتيجي، يجب أن ندرك أننا مركز جيوسياسي استراتيجي، وعلينا أن لا نفكر في أنفسنا كدول فردية، يستفيد منا الخصوم في أرضنا وعبر تحالفاتهم الجزئية و الموضعية، وندخل على الدوام في حالة من الضعف والهوان. ينبغي لنا أن نعمل كمنظومة متكاملة، بمركز ثقل. مثلما اكتشفت أوروبا الكبرى في لحظة ما، أنه لا يمكن لدولة منفردة أن تقف أمام الولايات المتحدة كقوة موازية، ولكن إذا توحدت جميعها كمجموعة واحدة، أصبح بإمكانها ذلك. واجتمع كل الخصوم والاعداء، ( الصراعات الدموية بينهم في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية)، واستطاعوا رغم كل هذا التمزق والتراث الدموي أن يعملوا مركز ا جيوسياسيا استراتيجيا اقتصاديا اسمه الاتحاد الأوروبي بعملة واحدة اليورو ويعملوا حالة من التنسيق صحيح ليست كاملة، صحيح فيها ثغرات لكن على الأقل حفظت للأوروبيين مكانتهم الجيوسياسية في مقابل الولايات المتحدة الأمريكية. نحتاج إلى أن نتحد كدول عربية، ونعمل معًا حتى ولو على حساب بعض سيادتنا، لنسير على خطى أوروبا، على الأقل في مجال التكامل الاقتصادي، والتعليم، وغيرها. يجب أن نبني كتلة قوية، تحمي الضعيف وتعزز الموقف العربي في الساحة العالمية. هذه الخطوة ستجعلنا قادرين على الجلوس على طاولة العالم والمشاركة بفعالية في صياغة المستقبل العالمي، مما يعزز مكانتنا ويحقق مصالح شعوبنا ودولنا على الساحة الدولية.

الرسالة الثانية الى الانظمة العربية و شعوبها

ذ. وضاح : من المؤسف أن نقول أن التفكير الاستراتيجي عند النخب السياسية أقل بكثير مما يأمله الإنسان العادي. لماذا؟ لأنه عبر السنوات مئة سنة يعني أصبح في عندنا نزوع نحو إمكانية البقاء اليوم وغدا، الحفاظ على اللحظة والحفاظ على المستقبل القريب. الحفاظ على المنظومة الحاكمة أكثر من الحفاظ على الوطن، الحفاظ على الوطن الصغير أو الدولة الوطنية القومية (هي ليست قومية حقيقة) مقابل الحفاظ على الأمة. فهذه المعاني كلها صارت للأسف الشديد جزء من طريقتنا في التفكير، و لا اعتقد غدا سوف يقعدوا زعماء العرب ويقولوا هيا للعمل، أنا انكلم مع الجيل القادم الذي سيحكم وهذا جيل الآن موجود بيننا، وفي النهاية وفقا لحركة التاريخ، هذا الجيل الذي سيصل إلى سدة السياسة ينبغي أن يصل وبذهنه نظرية جديدة في الفعل السياسي، لأنه إذا وصل من أجل أن يتعلم من السابقين سنعيد نفس المأساة، فلذلك نؤكد على مسألة الوعي السياسي الحالي عند النخب السياسية سواء الحاكمة أو النخب السياسية الشعبية. و لتعرف ان هناك طرق أخرى نصبح فيها قادرين على التفاعل مع العالم بكرامة وبلغة مصالح حقيقية ومنتمية إلى تراثنا وحضارتنا التي هي فكرة الاتحاد، و ليس طبعا على أساس المنهج القومي السابق، لأنني حقيقة لست مع الأيديولوجيا بكلها وبالذات الأيديولوجية القومية وكل الأيديولوجيات، ولكننا نبنيها على المصالح، نبنيها على التكامل الاقتصادي ثم بعد ذلك تتدحرج نحو تكاملات أخرى. وهذا هو منطق العصر ومنطق الحياة، وهكذا نستطيع أن نتعايش مع القادم، وإلا سنتجزّأ وربما أكثر مما نحن فيه الآن. الذي نحن فيه. نخبنا السياسية الشعبية أيضا ينبغي أن نكون عندها هذا التصور، لأن خوفي أن كثير من الشباب الذين تربوا الأن في أوساط أحزاب وحركات وتيارات مسيسة ليس عندهم أيضا تصور عن المستقبل، الذي نحفظ فيه مكانتنا في العالم مع روسيا ومع أمريكا ومع الصين؟ لان الان كلنا نفكر في إطار دولنا التي نحن فيها، كيف نصلحها، و هذا لن يجدي نفعا، دون منظومة تكاملية في الإقليم كله أو في العالم العربي كله. وستبقى ضعيفا في كل المستويات (الاقتصادي السياسيا والاستراتيجي) وملتصقا بالمنظومات العالمية لدرجة التبعية، ملحقا بها لا فاعلا فيها.

أمة بلا ايديولوجيات مقيدة للحرية و للتقدم

أتعامل مع الهوية بروح مفتوحة تستقبل كل المكونات المختلفة بلا تمييز. لا تكمن مشكلتي في الانتماء القومي بل في الإصرار على تصنيف الناس وفقًا لأصولهم العرقية.

س: طيب سأرجع خطوة الى الوراء، حضرتك تتكلم عن اطار مجمع ،لكن بعيدا عن الأيديولوجيات، يكون قائما على المصالح، لماذا بعيدا عن الأيديولوجيات؟ لان في النهاية نحن أمة عربية واحدة أو مسلمين في نفس المنطقة، فلماذا يكون البناء على المصالح وليس على الأيديولوجيا؟

أنا لست مع الأيديولوجيا، لأنها تُكبِّل النظر، وتكسر الإمكانات المتعلقة بالاجتهاد وهي في الحقيقة سجن للمفكر. أنا مع المنظومة الحضارية التي تحمل قيمنا، فالعروبة كما ذكرت مهمة جدا بالنسبة لنا والإسلام أصلا عقيدتنا ووجداننا.

ذ. وضاح : هذه ليست أيديولوجية، بالمناسبة. وما ذكرته صحيح؛ نحن أمة عربية واحدة، نتألف من عرب وأمازيغ وكُرد وعرقيات أخرى في أفريقيا. أنا لست قوميًا، ولست أيديولوجيًا بالمفهوم القومي، بمعنى الانتماء العرقي، بل بمعنى أولئك الذين يتكلمون اللغة العربية ويجمع بينهم هذا التراث الذي بناه الإسلام. هذا بالعكس من أهم مقومات ما يمكن أن نفعله في المستقبل. ليس لدي مشكلة في ذلك. مشكلتي في الأدلجة، عندما تأتي وتقول “أنا قومي عربي” على سبيل المثال، مما ينفي في بعض الأحيان عن غير المنتمين أصلا يعني عرقا إلى العرب، وهذا يخلق لنا إشكالات غير مجدية، لأنه يمكنك أن تبني نموذجًا ناجحًا وتحقق ما تريد دون أن تسمي ذلك قومية بالمفهوم العرقي. لأننا لسنا ولا ينبغي ان نكون قوميين بهذا المفهوم، هذا تراث دخيل علينا جاءنا من أوروبا ولم يكن تراثًا إسلاميًا ولم ينبت من أرضنا نحن معشر العرب. على العكس، نحن أمة مفتوحة على المستقبل، وانفتاحنا يقتضي منا أن ننفتح على كل المكونات الموجودة معنا، وبالتالي لا نريد أن ندخل في تصنيفات مدمرة (العربي، الكردي، الأمازيغي، الخ). أنا لست مع الأيديولوجيا، لأنها تُكبِّل النظر، وتكسر الإمكانات المتعلقة بالاجتهاد وهي في الحقيقة سجن للمفكر. أنا مع المنظومة الحضارية التي تحمل قيمنا، فالعروبة كما ذكرت مهمة جدا بالنسبة لنا والإسلام أصلا عقيدتنا ووجداننا. فكل الذين حاولوا إعادتنا إلى تاريخ ما قبل الإسلام فشلوا (الحضارة الفرعونية، الحضارة الأشورية الكلدانية، الحضارة البابلية الفينيقية). هذه الحضارات انقرضت، وبقت الحضارة الإسلامية حية لأنها ما زالت تولد قيمًا ومفاهيمًا ومعاني، وما زال الناس يؤمنون بمصادرها الكبرى. هذه نقطة مختلفة تماماً.

مفهوم الأمة يمثل مفهومًا مركزيًا أساسيًا للوحدة بين العرب بكل تلويناتهم

س: هذا الحديث يوجهنا في النهاية نحو مفهوم الأمة. فهل يمكن لطوفان الأقصى وما نجم عنه من حرب على غزة أن يوحد الأمة، وجدانيًا، اقصد المسلمين وليس فقط العرب، اليس الواقع يبدو أكبر قليلا من أمنياتنا بالنسبة للأمة. في هذا السياق، يتساءل الكثيرون عن مفهوم الأمة، وكيف يمكن أن تتحرك ؟

ذ. وضاح : في رأيي الشخصي، مفهوم الأمة يمثل مفهومًا مركزيًا أساسيًا. وقد أثبتت السيرة النبوية هذا الفهم بوضوح، حيث استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم مصطلحات جديدة للأمة ورسخ منهجيته السياسية على الأرض. كانت الفترة المكية مرحلة التحضير والإعداد العميق. وعند وصوله إلى المدينة المنورة، بدأت مرحلة جديدة من تنفيذ المشروع على الأرض. ومن أوائل الأمور التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم هي تشكيل ما سماه بـ “أمة” من دون الناس، كما جاء في وثيقة المدينة. وهذه القبائل بالمناسبة مسلمة وغير مسلمة منتمية إلى حلف المدينة أو وثيقة المدينة التي تنظم العلاقة ما بين المسلمين وغير المسلمين بما في ذلك اليهود أي القاطنين في هذا الحيز الجغرافي المسمى بتسمية جديدة، هي المدينة المنورة التي كانت من قبل تحمل (وبالمناسبة هذه مسألة مهمة أيضا) اسم يثرب. لماذا ؟ لأن يثرب محملة بتاريخ وذكريات من الحروب والصراع الهائل ما بين التكتلات الموجودة فيها الأوس والخزرج الخ، اخرها حرب بُعَاث التي بين الأوس والخزرج التي دامت خمس سنوات التي قتل فيها كم هائل من قادة المدينة يعني يثرب. التسمية الجديدة للمدينة المنورة كانت جزءًا من استراتيجيتة صلى الله عليه وسلم لتجنب الذاكرة المؤلمة لتاريخ يثرب، الذي شهد صراعات كثيرة وحروبًا مدمرة. وباختياره لتسمية جديدة، حاول النبي صلى الله عليه وسلم فتح صفحة جديدة بقواعد جديدة. ثم، عبر تسمية الناس في المدينة بـ “أمة” ((بدل الأوسي والخزرجي و القرضي الخ.)، حدد المكان بمسمى جديد، وعرٌَف العلائق ما بين الناس، ووحَّد الجميع في الاتجاه نحو المشروع الخارجي الذي كان يتمثل في فتح مكة، حيث سيكون فتحها نقطة تحول رئيسية في تاريخ المسلمين. فبعد فتح مكة، تغيرت نظرة العرب إلى المسلمين، فلم يعدوا قوة متمردة خارجة عن السيطرة، بل أصبحوا في مركز روحي متميز، وهو مكة، المركز الذي تنتمي إليه الجزيرة العربية. ثم بدأ المشروع الجديد بغزوة بدر، حيث أعد النبي صلى الله عليه وسلم العدة لها بعد استفزازه لقريش بإرسال سرية قيادتها حمزة بن عبد المطلب لاعتراض قوافلها التجارية، وهي أصل قوتها. وفي هذه الغزوة، انتصر المسلمون، الفئة الأكثر تنظيماً، على قريش الضعيفة وغير المتماسكة.

الوعي الأول للأمة كان يتجلى في “حركة الناس” والوعي الثاني في “حركة الأفكار”،

س: هنا التأسيس كان تأسيس أمة بما فيها القبائل الغير مسلمة أيضا؟.

ذ. وضاح : بالطبع، القبائل في المدينة المنورة تضمَّت أفرادًا من أسلموا ومن لم يسلموا، ومنهم من أسلم باللسان فقط دون التزام. فوثيقة المدينة وُضِعَت بحضور الجميع، فالمصطلح “الأمة” يُعتَبَر مصطلحًا چينيٌّا في الوعي الإسلامي، سياسيًا، وهو بقي كذلك على مدى القرون الثلاثة عشر الماضية. وهكذا، عبر المسلمون عن وعيهم بأنهم جزء من أمة متحدة عبر العصور، حيث كان تجسيد الأمة يتجلى في الخليفة، والخلافة كانت المركز، ويجب التنويه أن الخليفة لم يسيطر على كل الأراضي المسلمة، بل كانت هناك دول عديدة تابعة لسلطة مركزية. قد يقول البعض، ما الفائدة التي جنيناها من هذا؟.

دائمًا ما أستشهد بمثال ابن بطوطة وغيره من الرحالة. عندما بدأ ابن بطوطة رحلته المذهلة التي وثّقها في كتابه الشهير “رحلة ابن بطوطة،  تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار“، كان العالم الإسلامي في حالة من الانقسام عظيمة، حيث كان هناك العديد من الإمارات والسلاطين دون وحدة بينها.

غادر طنجة وتجوَّل حتى وصل إلى جزر المالديف ومن ثم إلى الهند والصين. خلال سفره في أرجاء العالم الإسلامي مع تنوُّع الإمارات المختلفة، لم يكن يحمل أي جواز سفر، وكان يُنظَر إليه كابن للأمة. كان له الحق في التجوال والتنقل بحرية، سافر إلى الهند وأرسله حاكم الهند سفيرًا له إلى الصين، وفي المالديف عمل هناك قاضيًا، وهكذا، يظهر أن فضاء الأمة كان أكبر من الدولة. الواحد منا اذا لم يعجبه مكانا يلجأ الى مكان آخر في فضاء الامة الواسع. إذا الوعي الأول للأمة كان يتجلى في “حركة الناس”.

تصور أن مذهب الحنفي هو الغالب في تركيا وصاحبه هو أبو حنيفة النعمان الذي هو فارسي، بمفهومنا اليوم وفي ظل القوميات الحديثة (ممكن الأتراك يتبعوا فارسيا) هذا غير مقبول

الوعي الثاني في “حركة الأفكار”، لم يكن أحد يسأل الإمام البخاري (أ أنت أوزبكي) أو الإمام أبو حنيفة (فارسي؟) أو صلاح الدين (كردي) أو ابن تيمية عن أصولهم العرقية، حتى يحدد موقفه في الاستماع اليه ويقبل أولا بجوابه ايا كان؟ كانت الأمة تجمع فرص البشر لتلقي العلم والوعي من خزان ضخم من الأفكار والرؤى، بغض النظر عن منشأها. ورغم أن الأفكار تتجاوز الحدود، إلا أننا أحيانًا نقع في التنميط والتصنيف. فقد خسرنا الأمة بفقداننا لهذه المعارف الكبرى. تصور أن مذهب الحنفي هو الغالب في تركيا وصاحبه هو أبو حنيفة النعمان الذي هو فارسي، بمفهومنا اليوم وفي ظل القوميات الحديثة (ممكن الأتراك يتبعوا فارسيا) هذا غير مقبول، والامثلة كثيرة. وهذا يتعارض مع التراث العريق للأمة في وعيها المشترك. إن الابتعاد عن الخزان الهائل للإبداعات المتاحة لدينا كأمة يعد خطأ فادحًا.

تدخل المنشط : أنا أتذكر ابن خلدون أتي من تونس ووصل إلى مصر، حيث أصبح وزير ا فيها ثم كتب المقدمة ثم ذهب إلى الشام…

بالطبع، لم يخطر ببالي أن أحدًا يسأله عن جنسيته المصرية عن عدمها، لأنه ببساطة مسلم، ابن الأمة، بغض النظر عن الإمارات المختلفة. يتمتع بالحقوق الشرعية والقانونية للعيش والتنقل في أي مكان يختاره ويتعامل معه بالمساواة مع الآخرين.

يتبع في الجزء الثالث-

المقال ذات صلة بالموضوع :

https://dr-achbani.com/وضاح-خنفر-الحرب-على-غزة-أحدثت-ثورة-في-ا/

——————————————————————————-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Radio
WP Radio
OFFLINE LIVE