الوقاية الذكية من الشمس: نحو كريمات واقية أكثر استدامة

د. الحسـن اشباني
في كل صيف، ومع أولى موجات الحر، يزداد الحديث عن كريمات الوقاية من الشمس، وتتزاحم الإعلانات التي تعدنا ببشرة محمية ومشرقة وخالية من التجاعيد. لكن ما لاحظته ــ كإنسان قبل أن أكون باحثًا ــ أن كثيرًا من الناس يتعاملون مع هذا الملف بخفة غير مبررة، وكأنّ هذه الكريمات مجرد زينة موسمية تُستعمل على الشاطئ، ثم تُنسى بمجرد أن تغيب الشمس عن السماء. ما يُؤسفني أكثر هو انتشار كريمات واقية رخيصة الثمن، تُباع في المحلات والأسواق دون رقابة تُذكر، ويستعملها العامة من دون دراية بمكوناتها أو طريقة استعمالها أو حتى إن كانت تحمي فعلًا من الأشعة فوق البنفسجية أم أنها مجرد واجهة تسويقية. وهذا ليس مجرد تفصيل بسيط، بل قد يكون، من حيث لا نعلم، أحد أسباب تفشي بعض أنواع السرطانات الجلدية في مجتمعاتنا، خاصة حينما نُدمن التعرض لأشعة الشمس طيلة العام، لا في الصيف فقط، دون حماية جدّية.
إن المقال الذي بين أيديكم ليس دعوة للتخويف، ولا دعاية لمنتج تجميلي، بل هو محاولة صادقة لإثارة الانتباه إلى قضية صحية وإنسانية وبيئية، تُهمّنا جميعًا. حاولتُ فيه أن أجمع بين ما يقوله العلم، وما أراه بعيني في الشارع، في الأسواق، وعلى وجوه الناس. لأن حماية الجلد ليست رفاهية، ولا حكرًا على النخب، بل مسؤولية يومية، تبدأ بالوعي، وتكتمل بالاختيار السليم.
الملخص بالعربية
تُعد الكريمات الواقية من الشمس من أهم أدوات الوقاية الجلدية المستخدمة على نطاق واسع، خاصة في ظل تزايد نسب الإصابة بسرطانات الجلد والشيخوخة المبكرة الناتجة عن الأشعة فوق البنفسجية. يستعرض هذا المقال بشكل شامل آليات عمل هذه الكريمات، أنواع الفلاتر المستخدمة فيها، ومدى فعاليتها المثبتة طبيًّا، إلى جانب الإشكالات المرتبطة ببعض مكوناتها الكيميائية من حيث التأثيرات الصحية المحتملة والمخاطر البيئية، لا سيما على الشعاب المرجانية والكائنات البحرية. كما يتناول التنظيمات الدولية والتوصيات الحديثة المتعلقة بتركيبة هذه المنتجات واستخدامها، ويستعرض الابتكارات الجديدة مثل الفلاتر الطبيعية، والوقاية الضوئية عن طريق الفم، والنسيج المقاوم للأشعة. ويخلص المقال إلى ضرورة التوفيق بين الحماية الفردية للجلد والوعي البيئي، داعيًا إلى مقاربات بحثية متعددة التخصصات تعزز الاستدامة والصحة العامة في آن واحد.
Résumé en français
Les écrans solaires représentent aujourd’hui l’un des piliers majeurs de la photoprotection cutanée, en particulier face à l’augmentation des cancers de la peau et du vieillissement prématuré induits par les rayons UV. Cet article propose une analyse complète des mécanismes d’action des crèmes solaires, des types de filtres UV utilisés, et de leur efficacité démontrée cliniquement. Il aborde également les controverses liées à certaines substances chimiques soupçonnées d’effets endocriniens ou de toxicité environnementale, notamment sur les récifs coralliens. Le texte explore les cadres réglementaires internationaux, les labels émergents, ainsi que les innovations en matière de formulation écologique, de textiles anti-UV et de compléments alimentaires protecteurs. L’étude appelle à une approche intégrée et interdisciplinaire, conciliant protection individuelle et responsabilité environnementale.
Abstract in English
Sunscreens are now considered a cornerstone of cutaneous photoprotection, especially given the rising incidence of skin cancers and premature aging caused by ultraviolet radiation. This article provides a comprehensive overview of the mechanisms by which sunscreens work, the types of UV filters used, and their clinically proven efficacy. It also examines health concerns regarding certain chemical ingredients, including potential endocrine disruption and marine toxicity, particularly on coral reefs. The review addresses international regulations, emerging eco-labels, and innovations such as biodegradable formulations, UV-protective textiles, and oral photoprotection supplements. Ultimately, the article advocates for a multidisciplinary research approach that balances individual skin protection with environmental responsibility and sustainable health practices.
1. المقدمة
في العقود الأخيرة، ازدادت وتيرة استخدام الكريمات الواقية من الشمس بشكل ملحوظ، خاصةً خلال فترات الصيف وفي المناطق الساحلية. فقد باتت هذه المستحضرات جزءًا لا يتجزأ من روتين العناية بالبشرة لدى فئات واسعة من الناس، بفضل ما توفره من حماية فعالة ضد الأشعة فوق البنفسجية التي تُعد من أخطر مسببات شيخوخة الجلد المبكرة، والحروق الشمسية، بل وحتى بعض أنواع السرطان الجلدي. ورغم الفوائد الظاهرة لهذه المستحضرات في الحماية من أضرار الشمس، فقد بدأت الأبحاث العلمية في السنوات الأخيرة تكشف عن جانب آخر من الصورة، يتمثل في الآثار الجانبية المحتملة على صحة الإنسان، فضلًا عن الانعاكاسات البيئية الخطيرة لبعض المكونات الكيميائية المستخدمة في تركيبتها، لا سيما على النظم البيئية البحرية كالشعاب المرجانية والكائنات الدقيقة.
ومن هذا المنطلق، يسعى هذا المقال إلى تقديم رؤية شاملة ومبنية على أحدث المعطيات العلمية حول الكريمات الواقية من الشمس، من خلال استعراض أنواعها وآلية عملها، وتحليل مكوناتها، وتقييم فوائدها الصحية، مقابل ما قد تسببه من أضرار على الصعيدين الفردي والبيئي. كما سنستعرض التوجهات الحديثة في تطوير بدائل آمنة وفعالة، في إطار البحث عن توازن بين الوقاية الجلدية والاستدامة البيئية.
2. آليات الحماية من أشعة الشمس
تُعد أشعة الشمس فوق البنفسجية من أهم العوامل البيئية التي تؤثر على الجلد، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسية: الأشعة UV-A التي تخترق الجلد بعمق وتساهم في ظهور التجاعيد وعلامات الشيخوخة المبكرة، والأشعة UV-B التي تؤثر في الطبقات السطحية للجلد وتتسبب في الحروق الشمسية، ما الأشعة UV-C، فهي الأعلى طاقة والأكثر خطورة، وتُمتص بالكامل تقريبًا بواسطة طبقة الأوزون، ولا تصل إلى سطح الأرض في الظروف العادية، باستثناء تسرب ضئيل جدًا في أوقات محددة أو عند ضعف الأوزون، دون أن يكون له تأثير بيولوجي يُذكر على الإنسان.¹ ولهذا فإن الحماية الفعالة من أشعة الشمس تركز أساسًا على الأشعتين UV-A وUV-B.
الهامش (حاشية رقم 1):
تُستخدم الأشعة UV-C في المجالات الطبية والمخبرية للتعقيم بسبب قدرتها العالية على تدمير الخلايا والفيروسات. وقد أثبتت التجارب المخبرية أن التعرض المباشر لها، ولو لفترات قصيرة، يؤدي إلى تلف سريع في الحمض النووي DNA، لذلك تُستخدم ضمن بروتوكولات صارمة في المختبرات والبيئات المعقمة.
من أجل مواجهة هذه الأشعة الضارة، تم ابتكار ما يُعرف بالكريمات الواقية من الشمس، التي تعتمد على آليات مختلفة في الحماية. وتُقاس فعالية هذه الكريمات بما يسمى “عامل الحماية الشمسية” أو SPF (Sun Protection Factor)، وهو مؤشر يُظهر المدة التي يمكن أن يبقى فيها الجلد محميًا من الحروق الناتجة عن أشعة UV-B مقارنة بالمدة التي قد يحترق فيها دون استعمال واقٍ. فعلى سبيل المثال، إذا كان الشخص يحترق بعد 10 دقائق من التعرض لأشعة الشمس دون حماية، فإن كريمًا بمعامل2SPF 30 يُتيح نظريًا البقاء في الشمس لمدة 300 دقيقة قبل حدوث الحرق. لكن هذا المقياس يبقى نسبيًا، إذ يعتمد على عوامل كثيرة ككمية الكريم المُستعملة، وانتظام إعادة تطبيقه، ومقاومته للماء والعرق، فضلًا عن أن هذا المؤشر لا يُعبّر بالضرورة عن الحماية من الأشعة UV-A التي لا تقل خطورة عن غيرها.
الهامش (حاشية رقم 2):
يشير معامل الحماية من الشمس (SPF) إلى قدرة المنتج على الحماية من الأشعة فوق البنفسجية UV-B فقط، وهو يُحتسب كنسبة بين زمن الحماية بزيت أو كريم واقٍ والزمن الذي تُصاب فيه البشرة بالحرق دون حماية. مثلًا، SPF 30 يسمح نظريًّا بامتصاص نحو 96.7% من أشعة UV-B، في حين أن SPF 50 يحجب حوالي 98%. لكن هذه الأرقام تتطلب تطبيق الكريم بكمية كافية (2 ملغ/سم²)، وهي كمية غالبًا ما لا يتم احترامها في الواقع، مما يقلل من الحماية الفعلية.
أما من حيث تركيبة هذه الكريمات، فإنها تعتمد على نوعين رئيسيين من الفلاتر: الفلاتر الفيزيائية، وتُعرف أيضًا بالمعادن الواقية، مثل أكسيد الزنك (Zinc Oxide) وثاني أكسيد التيتانيوم (Titanium Dioxide)، وهي تعمل عن طريق تشكيل طبقة على سطح الجلد تعكس وتبعثر الأشعة فوق البنفسجية قبل أن تخترق البشرة، وتُعد هذه الفلاتر أكثر أمانًا من الناحية الصحية، إلا أن بعضها يُستخدم في شكل جسيمات نانوية ما يزال الجدل قائمًا حول تأثيرها. والنوع الثاني هو الفلاتر الكيميائية، مثل الأفوبينزون (Avobenzone)، الأوكسيبنزون (Oxybenzone)، الأوكتوكريلين (Octocrylene)، والهوموسالات (Homosalate)، وتعمل هذه المركّبات عن طريق امتصاص الأشعة وتحويلها إلى حرارة غير ضارة تُطرح خارج الجلد، غير أن بعض الدراسات أشارت إلى أن هذه المركبات قد تُمتص جزئيًا إلى داخل الجسم، مما يثير تساؤلات حول سلامتها على المدى الطويل، خاصة إذا استُخدمت بكميات كبيرة أو على بشرة الأطفال.
تتفاوت تركيبة الكريمات الواقية باختلاف الأسواق والضوابط الصحية في كل بلد، غير أن معظم المنتجات اليوم تجمع بين النوعين، بهدف تغطية طيف أوسع من الأشعة، وتحقيق توازن بين الحماية والراحة في الاستخدام. ومع تزايد الطلب على هذه المنتجات، بدأ الاهتمام يتجه أيضًا نحو تطوير فلاتر جديدة أقل ضررًا وأكثر توافقًا مع متطلبات السلامة البيئية، كما سنُبيّنه في الأقسام التالية.
3. التركيبة الكيميائية للكريمات الواقية من الشمس
تُعد الكريمات الواقية من الشمس مستحضرات معقدة التركيب، إذ لا تقتصر مكوناتها على الفلاتر التي توفر الحماية من الأشعة فوق البنفسجية، بل تشمل أيضًا مجموعة من المواد الإضافية التي تضمن ثبات المنتج وفعاليته وسهولة استعماله. وتبدأ هذه التركيبة عادةً بمزيج من الماء والزيوت لتكوين ما يُعرف بـ “المستحلب (Emulsion)3“، وهو الشكل الذي يسمح بدمج المكونات الزيتية والمائية في تركيبة واحدة متجانسة وسهلة التطبيق على الجلد. وتُستخدم في هذه العملية مواد مستحلبة تُعرف بـ “العوامل الخافقة” تساعد على استقرار الخليط وتمنع انفصاله بمرور الوقت.
الهامش (حاشية رقم 3):
المستحلب (Emulsion) هو نظام مكون من طورين غير قابلين للامتزاج (غالبًا ماء وزيت)، تُدمَج فيهما المادتان باستخدام مواد مستحلبة (Emulsifying agents) تُساعد على تحقيق تجانس واستقرار في القوام. ويُستخدم هذا النظام على نطاق واسع في مستحضرات التجميل والمستحضرات الصيدلانية، بهدف تسهيل الامتصاص وتحسين الملمس والثبات. تُستخدم فيه عوامل خافقة أو مستحلبة مثل Cetearyl Alcohol أو Lecithin للحفاظ على التجانس.
إلى جانب ذلك، تحتوي الكريمات على مواد حافظة تمنع نمو البكتيريا والفطريات داخل العبوة، خصوصًا بسبب وجود الماء، كما تُضاف إليها مواد مضادة للأكسدة لتثبيت الفيتامينات والمركبات الحساسة، ومواد معطّرة أو ملطفة للجلد لتحسين التجربة الحسية للمستخدم.بعض التركيبات تُعزَّز أيضًا بعوامل ترطيب مثل الغليسيرين (Glycerin) أو الألوة فيرا (Aloe vera)، أو بفيتامينات مثل فيتامين E (Vitamin E) وفيتامين C (Vitamin C) لمزيد من الفوائد التجميلية.
أما بالنسبة للفلاتر الواقية نفسها، فإن نوعها وتركيزها يخضعان لضوابط صحية صارمة تختلف من بلد إلى آخر. ففي الاتحاد الأوروبي، تُشرف الهيئات التنظيمية مثل اللجنة العلمية لسلامة المستهلك (Scientific Committee on Consumer Safety – SCCS) على تحديد قائمة الفلاتر المعتمدة والحدود القصوى لتركيزها. وفي الولايات المتحدة، تُشرف إدارة الغذاء والدواء (Food and Drug Administration – FDA) على هذه المنتجات، مع وجود اختلافات ملحوظة مقارنة بالقوانين الأوروبية، إذ يُسمح في أوروبا بعدد أكبر من الفلاتر مقارنة بأمريكا. وفي اليابان وكوريا الجنوبية التي تعتبر رائدة في الابتكار في هذا المجال، حيث يُولَى اهتمام بالغ لصفاء البشرة ومظهرها الطبيعي، لا يُكتفى بأن تكون الكريمات الواقية فعالة ضد الأشعة فوق البنفسجية، بل يُشترط أن تُراعي أيضًا الجانب الجمالي والتجميلي، باستعمال تركيبات مزدوجة الفعالية4.
الهامش (حاشية رقم 4):
يُقصد بها تركيبات هجينة تجمع بين الحماية الفعالة من الأشعة فوق البنفسجية والوظائف التجميلية للبشرة، مثل توحيد اللون، التغطية الخفيفة، اللمسة غير الدهنية، والترطيب، مما يجعلها أشبه ببكريمات BB (Blemish Balm أو Beauty Balm – كريم بلسم للعيوب أو للجمال) وCC (Color Correcting – كريم تصحيح اللون)، أو مستحضرات تجميل واقية تُناسب الاستخدام اليومي ضمن روتين العناية بالبشرة، وهو ما يُلاقي إقبالًا واسعًا في الثقافتين اليابانية والكورية.
من القضايا التي أثارت جدلًا علميًا واسعًا في السنوات الأخيرة، مسألة استخدام “الجسيمات النانوية” في بعض الفلاتر المعدنية مثل ثاني أكسيد التيتانيوم وأكسيد الزنك. إذ تُطحن هذه المعادن إلى جسيمات دقيقة بحجم النانو لتقليل ظهورها الأبيض على الجلد وتحسين ملمس الكريم، غير أن حجمها الصغير أثار مخاوف بشأن احتمال اختراقها حاجز الجلد ودخولها إلى الدورة الدموية، وهو ما دفع بعض الباحثين والمؤسسات الصحية إلى المطالبة بإجراء دراسات أكثر عمقًا حول مدى سلامة هذه المواد. وفي المقابل، تُشير أغلب الدراسات الحديثة إلى أن هذه الجسيمات النانوية، وإن وُجدت، فإنها تميل إلى البقاء على سطح الجلد ولا تخترقه في الظروف العادية، خاصة إذا لم يكن الجلد مجروحًا أو ملتهبًا. ومع ذلك، يظل الحذر مطلوبًا، وتخضع هذه المكونات في العديد من الدول لوسم خاص على العبوة، يُلزم المصنعين بالإشارة إلى استخدامهم لجسيمات نانوية ضمن التركيبة.
إن هذه التعقيدات في التركيب والتنظيم تُظهر أن الكريمات الواقية ليست مجرد منتجات بسيطة، بل هي ناتج توازن دقيق بين الفعالية، السلامة، وقابلية الاستخدام، في سياق يتداخل فيه العلم بالتشريع، والتجميل بالصحة، وهو ما يفتح المجال لتساؤلات أعمق حول تأثير هذه المكونات على الإنسان والبيئة، وهي نقطة سنُفصلها لاحقًا.
4. الفوائد الصحية والفعالية المثبتة للكريمات الواقية من الشمس
لا جدال في أن الكريمات الواقية من الشمس قد أصبحت، بفضل التقدم العلمي والدراسات السريرية المتراكمة، من الوسائل المعترف بها طبيًّا في الوقاية من أمراض جلدية خطيرة، وعلى رأسها سرطان الجلد بأنواعه المختلفة. ويُعدّ سرطان الخلايا القاعدية (Basal Cell Carcinoma) وسرطان الخلايا الحرشفية (Squamous Cell Carcinoma)5 من أكثر أنواع سرطانات الجلد شيوعًا، وهما مرتبطان أساسًا بالتعرض المتكرر للأشعة فوق البنفسجية، خصوصًا UV-B. كما يُصنّف الميلانوما، وهو نوع أقل شيوعًا لكنه أشدّ فتكًا، ضمن السرطانات المرتبطة مباشرة بالتعرض المكثف والمفاجئ للشمس، كما يحصل مثلًا في عطلات الصيف أو جلسات التشمس الطويلة على الشواطئ. وقد أكّدت دراسات وبائية كبرى أن استخدام واقيات الشمس بشكل منتظم يُقلل من احتمالات الإصابة بهذه الأنواع بنسبة معتبرة، خاصة لدى الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة أو أولئك الذين يعيشون في مناطق مشمسة على مدار العام.
الهامش (حاشية رقم 5):
تُعد سرطانات الخلايا القاعدية والحرشفية من السرطانات الجلدية غير الميلانومية (Non-melanoma Skin Cancers)، وتنشأ عادةً نتيجة التعرض المزمن للأشعة فوق البنفسجية، خاصة UV-B. يظهر سرطان الخلايا القاعدية غالبًا في شكل آفات لامعة أو عقيدات على الوجه أو الرقبة، في حين يظهر سرطان الخلايا الحرشفية كبقع متقشرة أو قرح لا تلتئم. ورغم أن هذه الأنواع نادرًا ما تنتشر إلى الأعضاء الداخلية، فإن إهمالها قد يؤدي إلى تشوهات موضعية ومضاعفات خطيرة.
إلى جانب الحماية من السرطان، تلعب الكريمات الواقية دورًا محوريًّا في الوقاية من علامات الشيخوخة المبكرة للجلد، وهي ظاهرة يُطلق عليها “الشيخوخة الضوئية”. إذ إن الأشعة فوق البنفسجية، وخصوصًا UV-A، تسرّع من تكسّر ألياف الكولاجين في الجلد وتُضعف بنيته الداخلية، مما يؤدي إلى ظهور التجاعيد والبقع الداكنة وفقدان مرونة البشرة. ولهذا السبب، ينصح أطباء الجلد باستخدام الواقيات الشمسية ليس فقط في أيام الصيف أو عند الذهاب إلى البحر، بل بشكل يومي، حتى في الأيام الغائمة أو داخل السيارة، لأن جزءًا كبيرًا من الأشعة يخترق النوافذ والسحب.
وتتجلى أهمية الكريمات الواقية من الشمس كذلك في بعض الحالات الجلدية الخاصة، مثل الأشخاص الذين يعانون من “التحسس الضوئي” أو ما يُعرف علميًّا بـ “الجلد الحساس للضوء”، وهو اضطراب يمكن أن يتفاقم عند التعرض للشمس حتى في فترات قصيرة. كما يُوصى بها بشدة لدى مرضى الذئبة الحمراء (lupus) والوردية (rosacée)، وهي أمراض مزمنة تزداد أعراضها سوءًا بفعل أشعة الشمس. في مثل هذه الحالات، يُنصح باستخدام كريمات بتركيزات عالية من SPF، مع قدرة تغطية قوية للأشعة UV-A وUV-B معًا، مما يساعد في تقليل نوبات الالتهاب وحماية الجلد من التلف المستمر.
ومما يُعزّز مصداقية هذه المنتجات أن فعاليتها ليست فقط نظرية أو مخبرية، بل تم إثباتها في تجارب سريرية على المدى الطويل، مما يجعلها من أهم أدوات الوقاية الأولية التي ينصح بها أطباء الجلد في جميع أنحاء العالم، خصوصًا في ظل تزايد معدلات الإصابة بالأمراض الجلدية نتيجة تغيرات المناخ وتراجع سلوكيات الحماية الذاتية.
5. الآثار الجانبية والمخاطر الصحية المحتملة
رغم الفوائد المؤكدة للكريمات الواقية من الشمس في الوقاية من الأمراض الجلدية، إلا أن الجدل العلمي حول سلامة بعض مكوناتها على المدى الطويل لا يزال قائمًا، خاصة مع تطور تقنيات التحليل وظهور بيانات جديدة في السنوات الأخيرة. ومن أبرز النقاط المثارة في هذا السياق، مسألة تأثير بعض المركّبات الكيميائية على الجهاز الهرموني لدى الإنسان، حيث تشير دراسات متعددة إلى أن بعض الفلاتر الكيميائية مثل الأوكسيبنزون (Oxybenzone) والأوكتينوكسات (Octinoxate) قد تُصنف ضمن ما يُعرف بـ “المُعطّلات الصمّاء” أو “المُشوِّشات الهرمونية”6، أي تلك المواد التي قد تتداخل مع توازن الهرمونات الطبيعية في الجسم، مما يثير مخاوف تتعلق بالخصوبة والنمو، خصوصًا لدى الأطفال والنساء الحوامل. ورغم أن هذه النتائج لا تزال محل نقاش بين الهيئات التنظيمية، فإن بعض الدول بادرت إلى تقييد استخدام هذه المركبات، إما بتخفيض تركيزها المسموح أو بمنعها كليًّا من بعض المنتجات.
الهامش (حاشية رقم 6):
المُعطّلات الصمّاء (Endocrine Disruptors) هي مواد كيميائية يمكن أن تتداخل مع عمل الجهاز الهرموني في الجسم، إما عن طريق تقليد بعض الهرمونات الطبيعية، أو تعطيل مساراتها، أو تغيير إنتاجها أو استجابتها. وقد ترتبط هذه المواد باضطرابات في النمو، والخصوبة، والتمثيل الغذائي، بل وأحيانًا بأمراض سرطانية. وتُعتبر بعض فلاتر الأشعة فوق البنفسجية مثل الأوكسيبنزون والأوكتينوكسات من المركّبات التي أُثيرت حولها الشكوك في هذا السياق، خاصة عند استخدامها المتكرر وبتركيزات مرتفعة.
بالإضافة إلى ذلك، تُسجل حالات من ردود الفعل التحسسية أو التحسس الضوئي لدى بعض الأشخاص، نتيجة تفاعل الجلد مع مكونات معينة في الواقيات الشمسية عند تعرضه لأشعة الشمس. وتظهر هذه الحالات غالبًا على شكل حكة، احمرار، أو طفح جلدي، وهي وإن كانت غير شائعة بشكل كبير، فإنها تستوجب الانتباه عند اختيار المنتج المناسب، خاصة لأولئك الذين لديهم بشرة حساسة أو تاريخ مرضي مع التحسسات الجلدية. لذلك يُنصح دائمًا بإجراء اختبار موضعي صغير قبل الاستعمال الكامل لأي منتج جديد.
وقد أظهرت بعض الدراسات الحديثة، بما فيها تقارير صادرة عن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، أن بعض الفلاتر الكيميائية يمكن أن تُمتص عبر الجلد وتظهر آثارها في عينات الدم بعد فترة قصيرة من الاستعمال، وهو ما أثار قلقًا بشأن السلامة التراكمية لهذه المواد. فمثلًا، وُجد أن مكونات مثل الأفوبينزون (Avobenzone) والأوكسيبنزون (Oxybenzone) يمكن رصدها في الدم والبول بعد استخدام متكرر، وقد يستغرق الجسم وقتًا طويلًا للتخلص منها. لكن تجدر الإشارة إلى أن وجود هذه المركبات في الدم لا يعني بالضرورة أنها تسبب ضررًا مباشرًا، إذ يعتمد ذلك على الجرعة، مدة التعرض، وطريقة تفاعل الجسم معها، وهي أمور لا تزال قيد الدراسة والتحقيق. وقد دعت جهات مثل مجموعة العمل البيئي (Environmental Working Group – EWG)7 إلى توخي الحذر، وتفضيل استخدام الواقيات التي تحتوي على فلاتر معدنية، خصوصًا للأطفال والحوامل.
الهامش (حاشية رقم 7):
مجموعة العمل البيئي (Environmental Working Group – EWG) هي منظمة غير ربحية أمريكية تُعنى بصحة الإنسان والبيئة، وتقوم بتقييم سلامة المنتجات الكيميائية والتجميلية بناءً على الأدلة العلمية المتاحة. تصدر سنويًا دليلًا للواقيات الشمسية، تُقيّم فيه المنتجات حسب مكوناتها ومدى أمانها، خاصة بالنسبة للفئات الحساسة كالرضّع والحوامل.
في المجمل، لا يمكن تجاهل هذه التساؤلات الصحية، حتى وإن كانت آثارها لا تزال غير محسومة تمامًا، إذ إن مبدأ الوقاية خير من العلاج يظل ساريًا في مثل هذه الحالات. وهذا ما دفع بالكثير من المختبرات وشركات التجميل إلى مراجعة تركيباتها، وتطوير منتجات أقل إثارة للجدل وأكثر توافقًا مع تطلعات المستهلكين8 الذين باتوا أكثر وعيًا بمكونات ما يضعونه على بشرتهم.
الهامش (حاشية رقم 8):
خلافًا لما كان سائدًا قبل سنوات، لم يعد المستهلك المعاصر يقبل باستخدام أي منتج دون قراءة قائمة المكونات (INCI)، بل صار يبحث عن التركيبات الخالية من المواد المثيرة للحساسية، والبارابين، والعطور الصناعية، ويفضّل المنتجات التي تحمل وسومًا مثل “خالية من المواد الضارة” أو “آمنة للشعاب المرجانية”. وقد ساعدت تطبيقات الهواتف الذكية مثل Yuka وThink Dirty وINCI Beauty على تسهيل تحليل مكونات مستحضرات التجميل وفضح المنتجات التي تحتوي على مركبات مثيرة للقلق. هذا التحوّل في سلوك المستهلكين دفع بشركات التجميل والمختبرات إلى اعتماد مزيد من الشفافية والتواصل العلمي المبسّط، فلم يعد كافيًا تقديم منتج فعّال، بل أصبح من الضروري شرح لماذا يحتوي على هذه المكونات بالذات، وما مدى مأمونيتها، وذلك لكسب “ثقة الوعي” قبل ثقة الإعلانات.
6. التنظيمات الرسمية والتوصيات المعتمدة
نظرًا للاستخدام الواسع النطاق للكريمات الواقية من الشمس، وما تحتويه من مركّبات كيميائية يمكن أن تؤثر في صحة الإنسان والبيئة، فقد باتت الجهات التنظيمية الصحية حول العالم تُولي اهتمامًا متزايدًا بمراقبة هذه المنتجات من حيث المكونات المسموح بها، ومستويات الأمان، وطرق التوسيم. ففي الاتحاد الأوروبي، تُعد القوانين من بين الأشد صرامة، إذ تُشرف اللجنة العلمية لسلامة المستهلك SCCS على تقييم سلامة الفلاتر الواقية من الأشعة فوق البنفسجية، وتضع حدودًا صارمة لتركيزاتها القصوى، كما تفرض على الشركات الإفصاح الدقيق عن كل مكونات التركيبة، لا سيما إذا كانت تتضمن جسيمات نانوية أو مركّبات مثيرة للجدل.
في الولايات المتحدة، تتولى إدارة الغذاء والدواء FDA تنظيم سوق واقيات الشمس، وتصنّف هذه المنتجات ضمن “العقاقير التي تُباع دون وصفة طبية” OTC drugs، مما يعني خضوعها لاختبارات خاصة تتعلق بالفعالية والسلامة. وقد أثارت تقارير FDA في السنوات الأخيرة جدلًا واسعًا بعد تأكيدها أن بعض المكونات الشائعة تُمتص فعليًّا إلى مجرى الدم، ما دفعها إلى مراجعة المعايير القديمة وتحديثها بشكل تدريجي، مع دعوات لمزيد من الشفافية في المعلومات الموجهة للمستهلك.
أما في فرنسا وبعض الدول الأوروبية، فإن الوكالة الوطنية لسلامة الأدوية ANSM تُراقب أيضًا هذه المنتجات من زاوية مطابقة المعايير الصحية ومراعاة السلامة العامة، وخاصة عندما تُسوَّق للأطفال أو الأشخاص ذوي البشرة الحساسة. وتحرص هذه الجهات على التوفيق بين سهولة التوزيع التجاري من جهة، والامتثال الصارم للمعايير من جهة أخرى.
في ظل هذا الإطار الرقابي، بدأت بعض الشركات تعتمد في تسويق منتجاتها على ملصقات مثل “Reef Safe” أو “آمن على الشعاب المرجانية”، وهو شعار يُفترض أن يدل على أن المنتج لا يحتوي على مكونات تضر بالحياة البحرية، مثل الأوكسيبنزون والأوكتينوكسات. إلا أن هذا الوسم يظل في الغالب غير خاضع لتعريف قانوني موحد، ما يجعل بعض المراقبين يعتبرونه وسيلة تسويقية أكثر منه ضمانًا علميًّا حقيقيًّا. فبعض المنتجات التي تحمل هذا الوسم قد لا تحتوي على المواد المحظورة الأشهر (أي المركّبات الكيميائية التي حُظرت أو قُيّدت عالميًا أو محليًا بسبب ضررها البيئي المثبت، خصوصًا على الشعاب المرجانية والكائنات البحرية الدقيقة.)، لكنها قد تضم مركّبات أخرى ذات تأثير بيئي لم تُدرس بعد بشكل كاف.
استجابة لهذه المخاوف، ظهرت في السنوات الأخيرة مبادرات لتطوير تركيبات صديقة للبيئة، تجمع بين الحماية الفعالة وسلامة المكونات. وتقوم بعض المختبرات بالاعتماد على فلاتر معدنية غير نانوية9، أو على مركّبات نباتية ذات خصائص واقية من الشمس، كما تُستبدل المواد الحافظة والعطور الصناعية ببدائل طبيعية أو أقل ضررًا. ويُشجع التوجه العالمي الحالي على الابتكار في هذا المجال من خلال ما يُعرف بـ “الكيمياء الخضراء”، التي تهدف إلى خلق منتجات فعالة وآمنة للإنسان والبيئة على حد سواء.
الهامش (حاشية رقم 9):
الفلاتر المعدنية غير النانوية هي مركّبات مثل أكسيد الزنك (Zinc Oxide) وثاني أكسيد التيتانيوم (Titanium Dioxide) تُستخدم بأحجام جسيمات أكبر من 100 نانومتر، مما يمنعها من اختراق الجلد. تبقى هذه الجزيئات على سطح البشرة وتوفّر حماية فيزيائية مباشرة من الأشعة فوق البنفسجية، وتُعتبر أكثر أمانًا من الناحية الصحية مقارنة بالفلاتر النانوية التي تُثير بعض الجدل حول سلامتها عند الاستخدام طويل الأمد.
وهكذا، تُظهر هذه التنظيمات والتوصيات أن مستقبل الكريمات الواقية لن يُقاس فقط بمدى فعاليتها في صد الأشعة، بل أيضًا بمدى التزامها بأخلاقيات الاستدامة، وشفافية التكوين، وثقة المستهلك، وهي أبعاد متداخلة لا يمكن إغفالها في عصر تزداد فيه المطالب بتوازن حقيقي بين الصحة الفردية وحماية النظام البيئي.
7. البدائل والابتكارات في مجال الوقاية الشمسية
مع تصاعد المخاوف الصحية والبيئية المرتبطة ببعض مكونات الكريمات الواقية التقليدية، ومع ازدياد وعي المستهلكين، اتجهت جهود البحث والابتكار نحو تطوير بدائل أكثر أمانًا واستدامة. ومن أولى هذه المبادرات ظهور ما يُعرف بـ الكريمات الواقية القابلة للتحلل البيولوجي، وهي تركيبات مصممة خصيصًا بحيث لا تخلّف وراءها أي أثر ضار عند نزول المستخدمين إلى البحر أو المسطحات المائية. وتعتمد هذه الكريمات عادة على فلاتر معدنية غير نانوية، مع الاستغناء عن العطور والمواد الحافظة المثيرة للجدل، كما تُصنع باستخدام مواد خام من مصادر نباتية أو طبيعية قابلة للتحلل بشكل أسرع، مما يحدّ من تراكمها في البيئة.
إلى جانب الحلول الموضعية، ظهرت تقنيات تعتمد على الوقاية الفيزيائية مثل الملابس المقاومة للأشعة فوق البنفسجية10، والتي تُخاط بأقمشة معالجة خصيصًا لتوفير حماية من UV تفوق ما توفره بعض الكريمات، خاصة في حال تم ارتداؤها بشكل صحيح يغطي الأجزاء الأكثر عرضة للخطر. وتُستخدم هذه الملابس على نطاق واسع في البلدان المشمسة أو بين الفئات الأكثر عرضة للأمراض الجلدية، كما أصبحت شائعة في ملابس الأطفال، والعاملين في الهواء الطلق، والمصطافين.
الهامش (حاشية رقم 10):
تُصنع الملابس المقاومة للأشعة فوق البنفسجية من أقمشة عالية الكثافة أو معالَجة بمواد خاصة تعزز قدرتها على حجب الأشعة فوق البنفسجية. ومن الأمثلة الشائعة على هذه الملابس:
- القمصان والأفرولات ذات الوسم UPF 50+ (حيث UPF تعني Ultraviolet Protection Factor)،
- القبعات الواسعة الحواف المصنوعة من أقمشة واقية،
- الملابس الرياضية والسباحية المخصصة للأطفال أو للأنشطة الخارجية (مثل ملابس السباحة ذات الأكمام الطويلة “rash guards”)،
- وبعض العلامات التجارية الرائدة مثل: Coolibar، UV Skinz، Columbia Omni-Shade، Uniqlo AIRism UV Cut. تُستخدم هذه الملابس على نطاق واسع في الدول ذات الإشعاع الشمسي العالي، وتُوصى بها بشكل خاص للأشخاص ذوي البشرة الحساسة أو التاريخ العائلي مع سرطانات الجلد.
ومن الابتكارات المثيرة أيضًا اعتماد بعض المختبرات على ما يُعرف بـ الوقاية الضوئية عن طريق الفم، وهي مكملات غذائية تحتوي على مواد مضادة للأكسدة تساعد على تقوية دفاعات الجلد من الداخل. من أبرز هذه المركّبات نذكر البيتا كاروتين، الذي يتواجد طبيعيًّا في الجزر وبعض الخضروات، وكذلك مستخلص نبات الـ Polypodium leucotomos، وهو نوع من السرخس الاستوائي أظهر فعالية في تقليل تأثير الأشعة فوق البنفسجية على الجلد من خلال تعزيز المناعة الخلوية ومقاومة الأكسدة. ومع أن هذه المكملات لا تُغني عن استعمال الواقيات الموضعية، فإنها تُعد دعمًا مكمّلًا مهمًّا خاصة للأشخاص ذوي البشرة الفاتحة أو المرضى الذين يعانون من تحسس ضوئي مزمن.
وتُواصل المختبرات حول العالم البحث عن فلاتر طبيعية فعالة، مستخلصة من مصادر بحرية أو نباتية، مثل بعض أنواع الطحالب الدقيقة أو المستخلصات النباتية الغنية بمركّبات الفلافونويد، والتي أظهرت قدرة على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية أو تفكيك آثارها الضارة. وقد بدأت هذه الفلاتر تدخل في تركيبات تجريبية للكريمات، وسط آمال كبيرة بأن تفتح الباب أمام منتجات وقائية أكثر توافقًا مع متطلبات الصحة والبيئة في آنٍ واحد.
إن هذه البدائل والابتكارات تُجسّد التوجّه الحديث نحو حماية شاملة متعددة المحاور، لا تكتفي بتأمين الجلد من الأشعة فحسب، بل تراعي الجوانب الصحية والبيئية والأخلاقية أيضًا، وتُمهّد لمرحلة جديدة من الوعي الجماعي حول سلوكيات التعرض للشمس ووسائل الوقاية الذكية.
8. توصيات عملية ورسائل في الصحة العامة
مع تزايد الوعي بأهمية الوقاية من أشعة الشمس، أصبح من الضروري نشر ثقافة الاستخدام الصحيح للكريمات الواقية، لأن فعالية هذه المنتجات لا تعتمد فقط على تركيبها الكيميائي، بل كذلك على طريقة استخدامها وتكرار وضعها ومدى ملاءمتها لنوع البشرة. ولهذا، يُوصي خبراء الجلد بأن يتم اختيار الواقي الشمسي وفقًا لنوع البشرة أو “الفوتوتايب”11 الخاص بكل شخص، أي تصنيف بشرته حسب مدى حساسيتها لأشعة الشمس. فالبشرة الفاتحة جدًا، التي تحترق بسرعة ونادرًا ما تسمر، تتطلب واقيًا بمعامل حماية مرتفع (SPF 50 فأكثر)، بينما قد تكون تراكيز أقل ملائمة للبشرة السمراء التي تتحمل التعرض للشمس لفترات أطول دون أن تُصاب بحروق.
الهامش (حاشية رقم 11):
“الفوتوتايب” (Phototype) هو تصنيف علمي يعتمد على نوع البشرة وقدرتها على التفاعل مع التعرض لأشعة الشمس، ويُستخدم لتحديد مدى الحاجة إلى الحماية الشمسية. ووفقًا لمقياس فيتزباتريك (Fitzpatrick Scale)، تُقسم البشرة إلى 6 أنماط (من الفوتوتايب I إلى VI):
- الفئة I: بشرة شديدة البياض، تحترق دائمًا، ولا تسمر أبدًا.
- الفئة II: بيضاء، تحترق بسهولة، تسمر بدرجة خفيفة.
- الفئة III: بيضاء تميل للقمحية، تحترق أحيانًا، وتكتسب سمرة معتدلة.
- الفئة IV: قمحية أو زيتونية، نادرًا ما تحترق، تسمر بسهولة.
- الفئة V: بنية داكنة، نادرًا ما تحترق، وتكتسب سمرة واضحة.
- الفئة VI: داكنة جدًا أو سوداء، لا تحترق تقريبًا، وتتمتع بأعلى درجة من الحماية الطبيعية.
ومن الأخطاء الشائعة لدى الكثيرين الاعتقاد بأن وضع الكريم الواقي مرة واحدة في الصباح يكفي، في حين تُوصي المؤسسات الصحية بأن يتم إعادة وضع الواقي كل ساعتين على الأقل، خاصة بعد السباحة أو التعرق أو تجفيف الجلد بالمنشفة، حتى وإن كان الكريم يُعلن عن مقاومته للماء. كما يُنصح باستعمال كمية كافية تغطي كامل أجزاء الجسم المكشوفة، إذ تشير الدراسات إلى أن معظم المستخدمين يضعون نصف الكمية اللازمة فقط، مما يُقلل كثيرًا من فعالية الحماية. وغالبًا ما يُوصى باستخدام حوالي ملعقة صغيرة (5 مل) لكل منطقة من الجسم (الوجه، كل ذراع، كل ساق،… إلخ)، مع الانتباه لمناطق غالبًا ما تُنسى، مثل الأذنين، خلف الرقبة، والقدمين. تدخل هذه التوصيات ضمن حملات واسعة تُشرف عليها منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية ومؤسسات وطنية لمكافحة السرطان، التي تُطلق سنويًّا حملات للتوعية بـ “السلوك الشمسي الآمن”، خاصة بين الأطفال والمراهقين، باعتبار أن الحروق الشمسية في سن مبكرة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بسرطان الجلد لاحقًا. وتشمل هذه الحملات التشجيع على ارتداء القبعات والنظارات الشمسية، والاحتماء بالظل في ساعات الذروة، وتقنين فترات التعرض للشمس، وعدم الاعتماد على الكريم الواقي كوسيلة وحيدة للحماية.
وحتى في السياقات غير الساحلية، بات يُنظر إلى الواقيات الشمسية كجزء من روتين الوقاية اليومية، تمامًا مثل غسل الوجه أو ترطيب البشرة، خصوصًا في المدن التي ترتفع فيها معدلات الأشعة فوق البنفسجية أو يُسجّل فيها تلوث ضوئي مرتفع يزيد من حساسية الجلد. ويُوصى بإدراج التوعية حول هذا الموضوع ضمن البرامج المدرسية والمراكز الصحية، لما له من أثر وقائي طويل الأمد على الصحة العامة. وهكذا، يتضح أن الاستخدام الواعي والمستمر للواقي الشمسي ليس مسألة تجميلية أو موسمية فحسب، بل هو سلوك صحي أساسي يجب أن يُدعم بالتثقيف المستمر، والتوجيه العلمي، والمراقبة التنظيمية، لضمان أفضل حماية ممكنة للأفراد والمجتمع.
الخاتمة : لقد أصبح من الجلي أن الكريمات الواقية من الشمس ليست مجرد مستحضرات تجميلية موسمية، بل أدوات وقائية أساسية تلعب دورًا محوريًا في حماية الجلد من أضرار الأشعة فوق البنفسجية، وعلى رأسها الحروق، الشيخوخة المبكرة، وبعض أنواع سرطانات الجلد. كما أظهرت الدراسات السريرية والتوصيات الطبية أن الاستعمال المنتظم والمدروس لهذه المنتجات يُعد من أنجع وسائل الوقاية في سياق تغير المناخ وازدياد فترات التعرض للشمس. ومع ذلك، لا يمكن إغفال الجانب الآخر من الصورة، حيث كشفت الأبحاث المعاصرة عن مجموعة من الإشكالات المرتبطة بتركيبة هذه الكريمات، سواء من حيث تأثير بعض مكوناتها على الصحة الهرمونية للإنسان، أو من حيث انعكاساتها البيئية الخطيرة على النظم البحرية، خصوصًا في الشعاب المرجانية والمياه الساحلية. هذا التعقيد يفرض علينا ضرورة الموازنة بين الحاجة إلى حماية الفرد وبين واجب الحفاظ على البيئة، وهو تحدٍ يتطلب إعادة التفكير في أساليب الإنتاج، والتوزيع، والتشريع، والاستخدام. من هذا المنطلق، يبدو أن مستقبل الوقاية الشمسية لن يُبنى فقط على تحسين فعالية المنتجات، بل على تعزيز البحث العلمي متعدد التخصصات، الذي يجمع بين خبراء الأمراض الجلدية، والكيمياء الخضراء، والسموم البيئية، والبيولوجيا البحرية. كما تبرز أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الصحية، والمشرّعون، والصناعات التجميلية، ومؤسسات المجتمع المدني، في دعم هذا التحول نحو منتجات أكثر أمانًا، ووعيٍ أكبر لدى المستهلكين، وتربية صحية أكثر شمولًا. إن مقاربة هذه القضية بنظرة شمولية، تأخذ بعين الاعتبار صحة الإنسان واستدامة المحيط البيئي، هي السبيل الوحيد نحو وقاية شمسية مسؤولة وفعالة، تضمن سلامة الأفراد وتحترم التوازنات الطبيعية التي لا غنى عنها لحياة صحية على المدى الطويل.
9. المراجع العلمية المعتمدة
- Wang SQ, Lim HW, et al. Sunscreens: a review of health benefits, regulations, and safety assessment. Journal of the American Academy of Dermatology. 2011;64(4):687–702.
➤ مراجعة شاملة لفعالية الكريمات الواقية من الشمس، تركيبتها، وتنظيمها في الولايات المتحدة. - Matta MK, Zusterzeel R, et al. Effect of sunscreen application on plasma concentration of sunscreen active ingredients: A randomized clinical trial. JAMA. 2019;321(21):2082–2091.
➤ دراسة سريرية أثبتت امتصاص بعض المكونات الكيميائية عبر الجلد وظهورها في الدم. - Downs CA, Kramarsky-Winter E, et al. Toxicopathological effects of the sunscreen UV filter, oxybenzone (benzophenone-3), on coral planulae and cultured primary cells. Archives of Environmental Contamination and Toxicology. 2016;70(2):265–288.
➤ دراسة مخبرية حول تأثير الأوكسيبنزون على الكائنات البحرية الدقيقة والشعاب المرجانية. - Schneider SL, Lim HW. Review of sunscreen and the emergence of nonconventional photoprotective measures. Journal of the American Academy of Dermatology. 2019;80(2):507–514.
➤ دراسة حديثة حول الابتكارات في مجال الحماية من الشمس، بما فيها الوقاية الفموية والأقمشة الواقية. - Draelos ZD. Sunscreens: evolving technology and packaging. Dermatologic Clinics. 2006;24(1):101–109.
➤ عرض لتطور تقنيات تصنيع الكريمات الواقية وتوجهات السوق التجميلية. - EWG – Environmental Working Group. EWG’s 2024 Sunscreen Guide.
🔗 https://www.ewg.org/sunscreen/
➤ دليل توعوي يقيّم منتجات الحماية الشمسية من حيث فعاليتها وسلامتها ومكوناتها المثيرة للجدل. - U.S. Food and Drug Administration (FDA). Sunscreen Drug Products for Over-the-Counter Human Use; Final Administrative Order. 2021.
🔗 https://www.fda.gov
➤ تقرير تنظيمي من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية حول مراجعة مكونات واقيات الشمس. - European Commission. Cosmetic Ingredients & UV Filters Database (Cosing).
🔗 https://ec.europa.eu/growth/sectors/cosmetics/cosing_en
➤ قاعدة بيانات المكونات المعتمدة داخل الاتحاد الأوروبي، وتشمل الفلاتر المسموح بها. - Green AC, Williams GM, et al. Reduced melanoma after regular sunscreen use: randomized trial follow-up.Journal of Clinical Oncology. 2011;29(3):257–263.
➤ تجربة سريرية طويلة الأمد تُثبت دور الكريمات الواقية في تقليص احتمال الإصابة بالميلانوما. - Nohynek GJ, Antignac E, et al. Safety assessment of personal care products/cosmetics and their ingredients.Toxicology and Applied Pharmacology. 2010;243(2):239–259.
➤ تحليل شامل للمخاطر المحتملة لمستحضرات التجميل، بما فيها الواقيات الشمسية.
د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي
المقالات ذات الصلة




