مفارقات شباب الأمس واليوم هل هي أزمة مجتمع أم أزمة قيم


مما لاشك فيه أن الشباب هو القوة الدافعة لحركية المجتمع وتطوره، والمحرك الرئيسي لمسيرة حياة الأمة، وكما قيل إن الشباب هم وقود الثورات، نظرا لما له من قدرات ومميزات لإمكانية التغيير والسير ببلاده إلى الأمام. ولقد كان الشباب دائما في قلب التحولات الاجتماعية، باعتباره فاعلا ومتفاعلا مع هذه التحولات. وتعتبر مرحلة الشباب من أهم المراحل العمرية في حياة الفرد، نظرا لكونها المرحلة التي تساهم في شخصيته المستقبلية وتجعله قادرا على إثبات نفسه في ميادين الحياة في المستقبل. إلا أن هذه المرحلة العمرية قد تواجه العديد من المشاكل التي قد تؤثر في مستقبل الشباب وحياتهم على المدى البعيد، فإما أن تحملهم إلى بر الأمان، أو تجعلهم يعيشون في بؤس وحرمان ومصير مجهول. إذن كيف كانت حياة شباب الأمس القريب ؟ وماهي المفارقات الغريبة بينها وبين شباب اليوم ؟ وماهي أسبابها ؟ وبالتالي ماهي نتائجها؟
كان الشباب الامس يحيى حياة بسيطة متطلباتها قليلة، وكانت الأسرة هي الخلية الاجتماعية والمؤسسة الأولى التي يتربى فيها الشباب أحسن تربية رغم جهل معظم الآباء بمبادئ القراءة والكتابة لكن..
إذا ما نظرنا إلى شباب الأمس، نجد أنه رغم الظروف الاجتماعية الصعبة، ورغم الأمية والجهل اللذان كانا متفشيين في معظم الأسر، كان الشباب أكثر عفوية وصدقا مع النفس ومع الآخرين، وبالتالي أكثر أملا وتفاؤلا وحنوا وإنسانية، وكان أوسع أفقا، وأكثر رحابة. كان الشباب يحيى حياة بسيطة متطلباتها قليلة، وكانت الأسرة هي الخلية الاجتماعية والمؤسسة الأولى التي يتربى فيها الشباب أحسن تربية رغم جهل معظم الآباء بمبادئ القراءة والكتابة، لكن كانت المبادئ الإنسانية سائدة، وكانت التربية موكولة لكل أفراد العائلة بما فيها الأب والأم والاخت والاخ والجد والجدة وحتى الأقارب والجيران، وبمعنى آخر الكبير يربي الصغير، والصغير يحترم الكبير ويقدره، وكانت العائلة الممتدة هي السائدة، وتضم بالإضافة إلى الأب والأم كلا من الجد والجدة وحتى العم والعمة ….تعيش في بيت واحد ومتواضع، الأطفال يراجعون دروسهم المدرسية، والأب يجلس على جنبه يرتاح من تعب العمل، وأم متفرغة لواجباتها المنزلية.
“..وكان يحرص (اي الاستاذ) على ايصال المعلومات بشتى الوسائل، رغم الطرائق التقليدية في التدريس، والتي رغم ما قيل عنها ورغم تجاوزها حاليا في التعليم، فقد أعطت أكلها، فاستطاع أن يربي شبابا مقتدرا، يكتب بخط واضح وجميل، أفضل بكثير من طلاب الجامعات في الوقت الحاضر.”
يجتمعون على مائدة واحدة لتناول وجبات الأكل، يسهرون على حكايات الأم أو الجدة، مما يقوي لديهم التلاحم والمحبة، ويتعلمون القيم والأخلاق الحميدة، يشاركون أهلهم في الأعمال المنزلية، وحتى في الحقول والمزارع بالنسبة لأطفال البوادي. الأطفال يلعبون لعبة واحدة بشكل جماعي، ينامون مع الجيران، ويشاركون معهم الأكل، بينهم المودة والاحترام المتبادل. وكانت المدرسة العمومية هي المؤسسة الوحيدة المكلفة بالتربية وتعليم النشء، بعدما يكون الطفل قد مر من الكتاتيب القرآنية، وحفظ فيها بعض السور القرآنية، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة. وكانت للمدرسة قيمتها ومكانتها، وهي بمثابة مكان مقدس، كما كانت للأستاذ هيبته وقيمته باعتباره مالك المعرفة. تعرفه من أناقته، وهندامه، واحترامه لنفسه ولمهنته. وقد قيل فيه : ( قم للمعلم وفه التبجيلا ..كاد المعلم أن يكون رسولا) وهذا خير دليل على المكانة التي كان يحظى بها في المجتمع، وفعلا يستحق التبجيل لأنه كان يربي الأجيال أحسن تربية، وكان يحرص على ايصال المعلومات بشتى الوسائل، رغم الطرائق التقليدية في التدريس، والتي رغم ما قيل عنها ورغم تجاوزها حاليا في التعليم، فقد أعطت أكلها، فاستطاع أن يربي شبابا مقتدرا، يكتب بخط واضح وجميل، أفضل بكثير من طلاب الجامعات في الوقت الحاضر.


صحيح كان الفقر أكبر والجهل أعمق، لكن مع ذلك، كانت الأخلاق أقل سوءا مما هو عليه شباب اليوم، وكان السلوك أرقى بكثير مما هو عليه شباب اليوم، توفقوا في دراستهم، ووصلوا إلى الجامعات، فكان الشباب الجامعي يقام له ويقعد، تبنوا أفكارا تقدمية، وناضلوا من أجل تغيير الواقع، ومحاربة الفساد، وقد تمكنوا من تأطير أنفسهم بأنفسهم وتنظيمهم في منظمتهم الطلابية العتيدة ( الاتحاد الوطني لطلبة المغرب)، ووقفوا في وجه المستعمر، وانخرطوا في الأحزاب والنقابات والجمعيات. ومنهم من تبوأ مناصب عليا في البلاد، وأغلبهم تمكنوا من تدبير الشأن العام في البلاد. إن القيم لدى شباب الأمس كان يغلب عليها الطابع السياسي أكثر، وربما هذا ما جعل الدولة تتنبه إلى هذه المسألة، فتضع عراقيل أمام أبناء الطبقة الشعبية لكي لاتصل إلى الجامعات، بل لقد أفرغت الجامعات من مضمونها، ولم تعد للطالب تلك المكانة التي كان يتمتع بها، بل أفرغت التعليم بصفة عامة من محتواه، بسبب كثرة الإصلاحات التعليمية المتتالية والفاشلة (باعتراف الجهات المسؤولة نفسها )، مما انعكس سلبا على شباب اليوم، والذي برزت فيه قيم أخرى وخاصة الاقتصادية على القيم السياسية. وهنا برزت الفروقات في سلوك وانتماءات شباب اليوم عند مقارنتها مع شباب الأمس.




اليوم تعقدت الأمور أكثر أمام الشباب، ولم يتذوقوا طعم البساطة والتسامح والعلاقات الطبيعية بين أبناء الجيل الواحد كما كانت من قبل. فامتزجت عقليتهم بالآلة والتطور العلمي الذي وصلهم وهم في حال لا يحسدون عليه من الناحية النفسية والاجتماعية. فشباب اليوم فقد مجموعة من القيم الأخلاقية منذ صغره، حيث لم يعد للعائلة الممتدة أثر، ولم يعد الصغير يحترم الكبير، وحتى الأسر تخلت عن دورها في التربية، فلم تعد تربي أبناءها بالشكل المطلوب، وحتى العائلة النواة قد تفككت، إما لكون ألأم قد خرجت للعمل ولم يعد لها وقت لتربية أبنائها، وكذلك الأب، وعندما يعودان إلى البيت، ترى كل واحد منهما منزو في ركن من البيت ومنعزل عن الآخر، ومتصل بشخص آخر خارج البيت لا يعرفه، فأصبحت قافلة البيت تسير لوحدها، ولم يعد هناك شيء اسمه الأسرة، بل مجرد بيت خال من المشاعر، و “غوغل” متخم بالمشاعر والحب، وأصبح بمثابة الأب الروحي للأسر.
بعد أن حطموها وقللوا من مصداقيتها (اي المدرسة العمومية)، وخلقوا اصطدامات بين الأساتذة و الآباء، واستهدفوا أطرها التربوية والإدارية، مما نتج عنه انتشار ثقافة الغش، وضعف المستوى التعليمي للشباب، وانحطاط القيم والأخلاق، وفقدان الثقة في المدرسة العمومية، وتنامي ظاهرة الهدر المدرسي، والعنف المدرسي. وهذا ما يؤكد على غياب سياسة تعليمية واضحة الأسس والأهداف، بل تبقى الإصلاحات التعليمية مجرد إصلاحات ورقية كانت بمثابة أحلام، وأصبحت مجرد أوهام ليس إلا، وهذا باعتراف الجهات المسؤولة.
فالأب الذي كانت تجتمع حوله العائلة تبدل دوره، والأم التي كانت تلمم البيت بحنانها ورحمتها تحولت وصارت مشغولة بالعالم الافتراضي، وتراقب كل العالم في مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها لا تدري ما يجري في بيتها. زمان أصبحنا نستجدي فيه الحنان من الغريب بعدما بخل عنا القريب، ولم يعد الأبناء يعيشون تلك العلاقة الحميمية في حضن أمهاتهم، مما أثر سلبا على سلوكهم وتربيتهم، سواء في البيت على اعتبار أن الأسرة هي الخلية الأولى التي يتربى فيها الطفل، و المؤسسة الأولى والأساسية المسؤولة عن إعداد الطفل و تهيئه للحياة الاجتماعية، ليكون عنصرا فعالا وصالحا في المجتمع. لكن في غياب التماسك بين أعضاء العائلة وعدم الاهتمام بالطفل وإشباع حاجاته، وتربيته تربية جيدة، وتركه هائما في عالم التواصل الاجتماعي قد يعيق من قدراته التأملية والإبداعية، وتساهم في اضطراب نظامه اليومي، وعدم التزامه بأوقات النوم والطعام، مما ينمي لديه مبدأ الاستهتار بالوقت، وإصابته بمجموعة من الأمراض الصحية والنفسية، مما ينعكس سلبا حتى على التحصيل الدراسي.
وهنا سأفتح قوسا للحديث عن المفارقة الغريبة في التعليم، فبعدما كانت المدرسة العمومية هي الوحيدة المكلفة بالتربية والتعليم، فقد فشلت في القيام بدورها التربوي والتعليمي، لأن جيوب المقاومة والممانعة للإصلاح من جهة، والمسؤولون من جهة ثانية، يريدون أن تبقى دار لقمان على حالها، فتم إفراغ التعليم العمومي من محتواه، حتى لا يستفيد منه أبناء الطبقة الشعبية الذين بدأوا يزاحمونهم، فالتجأوا إلى خوصصة التعليم لكي يتعلم أبناؤهم في مؤسسات خاصة ومميزة، ويتركون ابناء الشعب في المدرسة العمومية، بعد أن حطموها وقللوا من مصداقيتها، وخلقوا اصطدامات بين الأساتذة و الآباء، واستهدفوا أطرها التربوية والإدارية، مما نتج عنه انتشار ثقافة الغش، وضعف المستوى التعليمي للشباب، وانحطاط القيم والأخلاق، وفقدان الثقة في المدرسة العمومية، وتنامي ظاهرة الهدر المدرسي، والعنف المدرسي. وهذا ما يؤكد على غياب سياسة تعليمية واضحة الأسس والأهداف، بل تبقى الإصلاحات التعليمية مجرد إصلاحات ورقية كانت بمثابة أحلام، وأصبحت مجرد أوهام ليس إلا، وهذا باعتراف الجهات المسؤولة .
والنتيجة هو أفواج من الشباب العاطل، شباب أهملته أسرته منذ ولادته، ولم تحسن تربيته وتعليمه (ولا أعمم طبعا). ليجد نفسه في مدرسة عمومية لا تتوفر فيها أبسط الشروط الضرورية، ولا الجودة التي طالما تشدق بها المسؤولون ووهمونا بتحقيقها. فبقي الشباب حائرا وتائها يلتقفه الشارع في الأخير، فتراه يداول ساعات يومه وسط دوامة فراغ، يلبس سروالا ممزقا ومهترئ وفوق رأسه قبعة الهدهد أو ما يسموه ( التشويكة). اهتماماته لا تتعدى جسده، ورغبات جسده، لا حياء، ولا كرامة، يمتهن التسول، في الوقت الذي كان شباب الأمس يستحيي مد يده للتسول. صار شباب اليوم يمد يده طلبا للمال، يزاحم المعوزين والمعوقين، بل أكثر من هذا هناك من شباب اليوم من يخلد للراحة وتناول المخدرات، وينتظر عودة أمه أو أخته من العمل، لتناوله دريهمات يشتري بها السجائر أو المخدرات، دون أن يكلف نفسه عناء معرفة نوع العمل الذي تقوم به أخته أو أمه، ليتفرغ إلى التحرش بالفتيات، بسرواله الممزق باسم الموضة .
فأين هي همة الشباب وكرامته، وأين هي القيم والأخلاق التي يجب أن يتربى عليها الشباب والذي هو أمل المستقبل؟. إن واقع الحال يدل على أن شبابنا يعيش أزمة حقيقية على مستوى القيم، قد تكون مقدمة لا قدر الله لانهيار كلي لمنظومة القيم والأخلاق لدى هذه الفئة الهامة من المجتمع. مما قد يكون له انعكاسات سلبية على استقرار وتماسك المجتمع. وهذا ما أصبحنا نلاحظه من عنف، سواء في الحي أو في الشارع، وحتى في المدرسة، بالإضافة إلى الانهيار الخلقي، وغياب تام لقيم الحياء والحشمة، وحالات السرقة بالقوة، والاغتصاب، وما يسمى بظاهرة ” التشرميل “. فلم يعد الأمان لا في البيت ولا في الشارع، ولا حتى في المدرسة نفسها. فإلى متى ستستمر هذه الحالة التي يرفضها الجميع وفي نفس الوقت يتعايش معها رغما عنه وفي صمت؟. وقد صدق من قال : ” كيف كنا وها نحن صرنا وإلى أين نسير “
ذ. محمد ابركي، مدير سابق لموسسة تعليمية عمومية
مقالات الكاتب :
https://dr-achbani.com/عيد-الأضحى-من-البعد-الديني-إلى-الإكراه/