خطبة الجمعة : غياب التنوع البيئي أو الاجتماعي يستحيل معه التكيف مع المتغيرات


د. الحسـن اشباني
صليت الجمعة الماضية في أحد مساجد أكادير، وكنت أتوقع أن تكون الخطبة مناسبة لمعالجة هموم الناس أو التحديات التي تواجههم، لكني فوجئت بخطبة عن فريضة رمضان، رغم أنه لا يزال بيننا وبينه شهران. شعرت حينها بالعقم الفكري والتكرار الذي يُفرغ المنابر من دورها كمساحة لمعالجة قضايا المجتمع. لحظتها، استحضرت ما تعلمته في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، وفي جامعة رين الأولى، والمدرسة الوطنية العليا للعلوم الزراعية في فرنسا، وما نقلته لاحقًا لطلابي حول التنوع البيولوجي وأهميته (اتمنى ان لا ادخل ضمن “..ومن لغى فلا جمعة له”).
بدأت أفكر: كيف يمكن للكائنات الحية الدقيقة، مثل الحشرات وديدان الأرض والفطريات والبكتيريا، أن تكون أكثر وعياً بأدوارها في النظام البيئي مقارنة بعقول بشرية تعجز عن استيعاب الواقع المتغير؟ في غياب هذه الكائنات، تتراجع خصوبة التربة، يتعطل تلقيح النباتات، وتتلوث المياه والهواء، وتصبح الأمراض أشد فتكاً. ومع انهيار التنوع البيولوجي، ينكمش إنتاج الغذاء، وتزداد معاناة البشر سوءاً.
عندها أدركت أن التنوع في الطبيعة ليس مجرد ترف، بل هو ضرورة لاستمرار الحياة، وأن رفاهية الإنسان مرهونة بتناغمه مع هذا التنوع. بهذا الإلهام، بدأت في كتابة هذا المقال، مستخلصاً العبرة من الطبيعة ومن واقعنا الاجتماعي الذي يحتاج إلى إعادة التفكير في قضاياه الملحة.
1- التنوع في الطبيعة مقابل المجتمع: أوجه التشابه والعبرة المستخلصة
في الطبيعة والمجتمع، يعد التنوع عنصرًا أساسيًا لضمان الاستمرارية والمرونة أمام الأزمات. كما أن غياب التنوع يخلق هشاشة وضعفًا يجعل الأنظمة، سواء كانت بيئية أو اجتماعية، غير قادرة على التكيف مع المتغيرات. وينتج عنه ضعف القدرة على التكيف و التدهور التدريجي والهشاشة أمام الصدمات. والتاريخ حبلى بامثلة نورد بعضها لتتضح الصورة بعد بسط تلكم التبعات الاربع :

1. ضعف القدرة على التكيف
- في الطبيعة:
غابات الأمازون، بتنوعها البيولوجي، قادرة على الصمود أمام الحرائق والآفات، لكن الزراعة الأحادية، مثل غابات الصنوبر الصناعية، تصبح ضعيفة أمام أي مرض أو آفة قد تدمرها بالكامل. - في المجتمع:
الأنظمة التي تعتمد على خطاب موحد، كالدول الديكتاتورية، تفتقر إلى التنوع الفكري، مما يجعلها عاجزة عن إيجاد حلول بديلة عند الأزمات. مثال ذلك انهيار الأنظمة الشمولية بعد الثورات الشعبية، حيث لم تكن تمتلك مرونة للتعامل مع التغيرات. وفي سوريا، مثال حي نعيشه حاليا.
2. التدهور التدريجي
- في الطبيعة:
انقراض الحشرات الملقحة، مثل النحل، يؤدي إلى انخفاض إنتاج المحاصيل، مما يُضعف الأمن الغذائي تدريجيًا ويجعل الحياة أكثر صعوبة. - في المجتمع:
قمع الإبداع ومنع التنوع الفكري يؤدي إلى التراجع. مثال ذلك المجتمعات التي تمنع تعليم النساء أو الأقليات، حيث تفقد موارد بشرية قيّمة وتُضعف التنمية.
3. الهشاشة أمام الصدمات
- في الطبيعة:
زراعة محصول واحد مثل القمح في منطقة معينة يجعل النظام البيئي عرضة للانهيار عند إصابة المحصول مثلا بمرض او جهد مائي او حراري. - في المجتمع:
فرض خطاب اقتصادي أو سياسي واحد، كما في الأنظمة الشيوعية، جعلها تنهار أمام الأزمات الاقتصادية الكبرى، حيث لم تكن لديها سياسات بديلة للتكيف.

أمثلة تاريخية توضح أهمية التنوع
1. العصر الذهبي الإسلامي
في العهد العباسي، أدى التنوع الفكري والديني إلى ازدهار العلوم والفلسفة. ساهمت حوارات العلماء المسلمين وغير المسلمين في إنتاج اختراعات وابتكارات خلّدها التاريخ. لكن عندما تم فرض آرائهم السياسية والفكرية لاحقًا، بدأ التراجع الحضاري.
2. ألمانيا النازية
في عهد هتلر، فرضت الحكومة خطابًا موحدًا وأقصت جميع الأصوات المعارضة. أدى ذلك إلى كوارث داخلية وخارجية، أبرزها انهيار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث غابت البدائل الفكرية التي قد تنقذ البلاد.
ونفس الشيء ينطبق على الانظمة العربية التي سقطت بسبب الحزب الوحيد مثل العراق و ليبيا و سوريا..
2- فرض توحيد الخطاب الديني: دروس من التاريخ
تُعدّ ممارسة توحيد خطبة الجمعة ظاهرة متبعة في عدد من الدول الإسلامية، حيث تقوم السلطات الدينية أو الحكومية بتحديد موضوع الخطبة ومحتواها لتُلقى في جميع المساجد. تهدف هذه الخطوة إلى توجيه الرسائل الدينية بما يتماشى مع السياسات العامة ومواجهة التحديات المجتمعية. من بين هذه الدول:
- مصر: أعلنت وزارة الأوقاف المصرية عن توحيد خطبة الجمعة في جميع المساجد، بهدف مواجهة الفكر المتطرف ونشر القيم الإسلامية السمحة، و بشكل رسمي منذ عام 2014.
- الأردن: تُشرف وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية على توحيد خطبة الجمعة بهدف تعزيز الخطاب المعتدل ولضمان تناول الموضوعات التي تهم المجتمع وتعزز الوحدة الوطنية. وتبنّت هذه السياسة في عام 2015 بهدف تعزيز الخطاب المعتدل.
- المغرب: أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عن مشروع لتوحيد خطبة الجمعة، مما أثار جدلاً حول تأثيره على حرية الخطباء وتنوع المواضيع المطروحة. وقد أعلنت عنه بشكل تدريجي بدءًا من 2016، والان يطبق تقريبا في كل المملكة.
- موريتانيا: قررت الحكومة الموريتانية توحيد خطبة الجمعة في جميع المساجد. ونفذته لأول مرة في عام 2018، حيث ركزت على قضايا اجتماعية كبرى مثل محاربة الرق.
- الإمارات العربية المتحدة: تقوم الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بتوحيد خطبة الجمعة على مستوى الدولة، وبدأت الهيئة بتوحيد ها منذ فترة طويلة، وتم تطويرها بشكل موسع مع إضافة اللغات المتعددة ابتداءً من عام 2017، لتخاطب المواطنين والمقيمين من مختلف الجاليات.
في العالم العربي الإسلامي، حيث يتم تطبيق نظام الخطبة الموحدة، أثار هذا القرار جدلاً واسعاً بين النشطاء والعلماء والجماهير. اعتبر ناشطون أن توحيد خطبة الجمعة بمثابة وسيلة جديدة لـ”تكميم الأفواه”، مما أثار استياءً واسعًا في بعض الأوساط. وذهب البعض إلى الاستهزاء بالقرار، قائلين إنه لم يعد هناك داعٍ للذهاب إلى المسجد، إذ يمكن قراءة الخطبة على موقع الوزارة.
وفي مصر كما في المغرب، على سبيل المثال، نشرت مواقع التواصل الاجتماعي عدداً من الرسوم الكاريكاتورية الساخرة، التي حظيت بتداول كبير على منصات مثل تويتر، معبرة عن استياء واسع من هذا الإجراء. من جهة أخرى، استنكر عدد من العلماء قرار توحيد الخطبة، مؤكدين أن الإلزامية لا ينبغي أن تُفرض على العلماء، بل يجب أن تتيح لهم حرية اختيار مواضيع تخدم احتياجات الناس وتراعي خصوصيات كل منطقة.
وفي واقعة لافتة بمسجد السيدة زينب في القاهرة بمصر، رفض عدد من المصلين أداء صلاة الجمعة وغادروا المسجد بعد علمهم بأن وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، سيؤدي خطبة الجمعة ملتزماً بالنص المكتوب الذي عممته الوزارة مسبقاً.
هذا الجدل يعكس انقساماً واضحاً حول تأثير هذا القرار على دور المساجد كمنابر للحوار المجتمعي ومناقشة قضايا الناس، في وقت يرى فيه المنتقدون أن هذا الإجراء يفرغ الخطبة من محتواها الحقيقي ويجعلها أداة دعائية تخدم توجهات سياسية معينة.
فماذا يحمل الزام العلماء بتلاوة خطب موحدة في المجتمعات الإسلامية من مخاطر على المدى القريب والبعيد؟. يحمل عواقب كثيرة نوعية معبرة وخاصة على المدى المتوسط والبعيد، نوجدها مقتضبة في التالي:
- فقدان المصداقية: عندما يدرك الناس أن العلماء ينقلون تعليمات السلطة دون اجتهاد مستقل، يفقد الخطاب الديني تأثيره الحقيقي، ما يؤدي إلى عزوف الجماهير عن المنابر، وربما يكبر وعيها وتقاطع المساجد.
- إضعاف التنوع الفقهي والفكري: الإسلام دين يحتفي بالتعددية الفقهية، وتوحيد الخطاب يُقلص الاجتهاد الشرعي ويمنع العلماء من مناقشة القضايا الاجتماعية والاقتصادية المستجدة.
- تشويه صورة الدين: استخدام الدين كأداة سياسية يضر بمصداقيته، خاصة بين الشباب، مما يؤدي إلى نفور البعض من التعاليم الدينية.
- تغييب القضايا الحقيقية: توحيد الخطاب يجعل الخطب بعيدة عن الواقع، فلا تتناول مشاكل الناس اليومية، مثل البطالة والعدالة الاجتماعية، مما يُفقد الدين دوره كعامل إصلاحي.
- تنمية المقاومة الخفية: قد يلجأ الناس إلى بدائل غير رسمية أو متطرفة تعكس رفضهم للخطاب الموحد المفروض.
وفيما يلي نسرد للاستئناس أمثلة تاريخية لتوحيد الخطاب وتأثيره :

1. قضية خلق القرآن : في العصر العباسي، حاول الخليفة المأمون فرض عقيدة المعتزلة بأن القرآن مخلوق، مما أدى إلى فتنة كبيرة بين العلماء، صمد مثلا الإمام أحمد بن حنبل ضد هذه المحاولات، رغم سجنه وتعذيبه، مما حافظ على استقلالية العلماء ودورهم في الدفاع عن العقيدة.
2. صراع الحسين بن علي : رفض الحسين بن علي شرعية حكم يزيد بن معاوية، الذي حاول استخدام الدين لتبرير سياساته. ادى ذلك الى قتل الحسين في كربلاء، وأصبحت مواقفه رمزًا لاستقلال الدين عن الظلم السياسي.
3. العلماء في العصر العباسي المتأخر : في فترات ضعف الدولة العباسية، استُخدم الفقهاء لتبرير سياسات الحكام، مثل فرض الضرائب الإضافية. وقام الإمام النووي برفض هذه الفتاوى، مما أدى إلى عزله، لكنه بقي رمزًا للعلم المستقل.
خلاصة :
التنوع، سواء في الطبيعة أو المجتمع، هو أساس القوة والمرونة. في الإسلام، الاجتهاد والتعددية عنصران ضروريان لتجديد الدين ومواكبة التحديات الاجتماعية. حينما يصبح العلماء مجرد منفذين لتعليمات السلطة، يفقد الخطاب الديني دوره الحقيقي، مما يؤدي إلى فجوة خطيرة بين الناس والدين.
فالمجتمعات القادرة على احتضان التنوع الفكري والثقافي تكون أكثر قوة واستدامة أمام الأزمات، بينما تؤدي محاولات فرض خطاب موحد إلى الضعف والانهيار التدريجي.
د. الحسن اشباني مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي المغرب و صحفي مهني علمي
مقالات ذات الصلة :