المنبر الحر

مع الاستاذ محمـد ابركي : ظاهرة التشرميل بين تسويق الوهم والحقيقة الموعودة

ذ. محمـد ابركي

في البداية لابد من التعريف ببعض التسميات

إن ما يسمى ب ” التشرميل ” ظاهرة اجتماعية غريبة ظهرت في المغرب في السنوات الأخيرة في بعض المدن ثم عمت  جميع المدن المغربية، ووصلت حتى بعض القرى. هذه الظاهرة تذكرنا  بأزمنة ما يسمى ب ” السيبة ” والتي تجسدت في أعمال القرصنة وقطع الطرق والنهب تحت جنح الظلام، ومهاجمة  قبيلة لقبيلة أخرى، نتيجة الحروب  وضعف الدولة وتفشي الفقر والجهل.  كما أن مثل هذه الظواهر ظهرت كذلك في الولايات المتحدة الاميركية مرتبطة بحرب الفيتنام وبالميز العنصري، والمكسيك وكولومبيا، وجنوب افريقيا  والبرازيل بدافع السيطرة على أسواق ترويج المخدرات، وفي ألمانيا بدافع قومي والحنين إلى الماضي المجيد، وفي ايرلندا وإسبانيا لأهداف سياسية.

إذن فماذا نقصد  بالتشرميل؟  ومن هو المشرمل ؟  وماهي الأسباب الحقيقية وراء تفاقم ظاهرة التشرميل؟ وبالتالي كيف يمكن التصدي لها، او على الأقل الحد من خطورتها؟

إن “التشرميل” مصطلح مغربي جديد، وهي كلمة في الدارجة المغربية مشتقة من شرمولة التي تعني  مجموعة من نكهات الطعام التي تضاف إلى أطباق اللحوم والأسماك، لكن المصطلح تغير من ناحية المفهوم، وأصبح بمثابة تعبير عن حالة التذمر والتعاسة والإحباط الذي يعيشه الشباب المغربي، ومحور هذه الظاهرة شباب يقومون بسرقة الاشياء الثمينة مثل الحلي والمجوهرات والهواتف، مستعملين في ذلك السيوف والسكاكين والكلاب المدربة، ثم يعرضون مسروقاتهم، ويتباهون بإشهارها على صفحاتهم في الفايسبوك.                                                     

أما “المشرمل” هو الشخص  الذي يدمن على تناول المخدرات ويقوم بعملياته الإجرامية خاصة السرقة، كما أنه عادة ما يحمل أسلحة بيضاء من سكاكين وسيوف يشهرها في وجه الناس بوقاحة، ويروع الرأي العام، ويستنفر أجهزة الأمن. ومع تفاقم الظاهرة أصبح لزاما على الدولة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني البحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، والإسراع في إيجاد حلول لها، للحد من تداعياتها سواء في الحاضر أو في المستقبل.

إذن فماهي أسباب تفاقم ظاهرة  ” التشرميل ”  وكيف يمكن التصدي لها أو على الاقل التقليل من خطورتها ؟  

“إن التعليم في المغرب بالرغم من الإصلاحات المتتالية والمتكررة، فقد اثبتت فشلها بشهادة الجميع، نظرا لغياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح. ويبقى إصلاح التعليم ببلادنا مجرد حلم يصعب تحقيقه.

أسباب تفاقم ظاهرة  ” التشرميل ”  وكيف يمكن التصدي لها؟

 هناك أسباب كثيرة ومتنوعة لكنني سأركز هنا على عامل أساسي وهام ألا وهو  العامل الاجتماعي وبالخصوص ( الأسرة – المدرسة –والبيئة أو الحي الذي نشأ فيه ” المشرمل”) وهذا لا يعني أنه ليست هناك عوامل أخرى لكنها أقل حدة إذا ما قورنت بالعوامل الاجتماعية. إن تنشئة الأبناء ورعايتهم كانت ولا تزال مطلبا جوهريا ووظيفة أساسية لكل مجتمع، وهذا لا يتم إلا عن طريق التنشئة الاجتماعية، وبما أن الأسرة هي المؤسسة الأولى التي تتولى عملية التربية فإنها المسؤول الأول عن النجاح في تربية أبنائها، وفشلها في التربية وعدم توفيقها قد يؤدي بالأبناء إلى كثير من السلوكات الغير سوية. مع استحضار معطى  أساسي وهو أن ظروف التنشئة الاجتماعية تختلف باختلاف الظروف الاجتماعية لكل أسرة.  فأطفال الأحياء الراقية ليسوا هم أطفال الأحياء الشعبية، أو دور الصفيح، نظرا للصعوبات التي يعانيها الشباب القاطنين في هذه الأخيرة، في غياب أبسط الشروط الضرورية للعيش. اوتوماتيكيا وبدون شك سينتجون لنا أفرادا يعانون من مختلف الاضطرابات النفسية، ويسعون دوما للتعبير عن ذواتهم في الفضاءات العمومية بجميع الطرق التي تتاح لهم، للتعبير عن ذواتهم المقهورة والمظلومة اجتماعيا، مما يهييء أرضية خصبة لترعرع ظاهرة “التشرميل” التي نحن بصدد الحديث عنها. أما عن المدرسة باعتبارها  الأسرة الثانية للتلميذ، وهي المؤسسة الاجتماعية الرسمية التي تقوم بالتربية وتوفير الظروف المناسبة  للنمو جسميا وعقليا واجتماعيا وتوفير تعليم جيد للجميع، فإنها لم تقم بدورها، بل إن التعليم في المغرب بالرغم من الإصلاحات المتتالية والمتكررة، فقد اثبتت فشلها بشهادة الجميع، نظرا لغياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح. ويبقى إصلاح التعليم ببلادنا مجرد حلم يصعب تحقيقه.  وبما أن المنظومة التربوية تعتبر مرتكزا للتغيير المجتمعي وقاطرة باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وبما أنها أخفقت في تحقيق نتائجها، فطبيعي أن نجد معظم أبناء الفئات الهشة ينقطعون عن الدراسة في سن مبكر، وحتى الذين  تمكنوا من تخطي الصعاب والوصول إلى التعليم الثانوي وحتى التعليم الجامعي، لا يحصلون على شغل. ونظرا لضعف الأمكانيات المادية وفقر الأسرة، فإن مآلهم الأخير هو الشارع الذي يلتقفهم. حيث نجد فئة من الشباب تعيش على الهامش وهي مايسمى ب ” الشماكرية ” تقتات من القمامة، وأخرى “مشرملة”  يحمل أفرادها الحقد الاجتماعي، فيصبحوا ناقمين على المجتمع ويلجؤون إلى العنف والسرقة، وتكثر الأمراض الاجتماعية مثل الإدمان على المخدرات والسرقة .. الخ.

   عوامل أخرى ساهمت كذلك بشكل أو بآخر في تقوية ظاهرة “التشرميل” والتي يمكن اعتبارها  مساندا رسميا لتشجيع  ظاهرة “التشرميل” وهي القناة الثانية (دوزيم) والتي ساهمت  بطريقة غير مباشرة أو حتى دون قصد منها، في تحفيز الشباب على القيام بأنشطة إجرامية، وذلك من خلال البرنامج الحقير (أخطر المجرمين)

وهناك فئة أخرى وهم “أطفال الشوارع”، هذه الفئة التي تعتبر من أبشع  الفئات المهمشة، أكثرهم  تعرضوا للحرمان والمخاطر، وأغلبهم مجهولو  الأسر، وهذه نتيجة حتمية لنشر ثقافة مضادة للموروث الثقافي الشعبي، والذي تمكنوا من خلاله طمس الهوية المغربة، وتخريب الأسرة التقليدية، وتشجيع  الزواج خارج العلاقات الشرعية (الأم العازبة) وتجريم “الكورتاج”. مما انتج لنا فئة من أتعس الفئات  المهمشة ، حيث حرموا من الحنان الأسري ومن فرص التعليم، يعيشون في الشارع اضطرارا، يكتسبون رزقهم من الشارع، ويتعرضون لأبشع أنواع الاستغلال الجنسي، وهم أكثر عرضة للانحراف، حيث يتعاطون للمخدرات بشتى أنواعها، ثم إلى السرقة و”التشمكير” وبالتالي “التشرميل”. وما يثير الغرابة هو أن ظاهرة “التشرميل” لم تعد ذكورية فقط، بل هناك بعض الفتيات االلائي فرضت عليهن الظروف التعاطي لهذه الظاهرة ،وأصبحت مجموعة منهن تتباهى بحمل السلاح  الأبيض، وتتعاطى للمخدرات، والسرقة، هؤلاء  “المشرملات” هن فتيات يرتدين ملابس رجالية ويحملن أسلحة بيضاء و ينافسن الذكور في ارتكاب الجرائم. وهكذا تحولت ظاهرة “التشرميل” من ظاهرة بسيطة ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي إلى إشكال مجتمعي حقيقي يؤرق الجميع، بعدما حاول “المشرملون” بناء عالم خاص بهم. فقد خلقوا لأنفسهم موسيقى ولغة تخاطب خاصة  بهم. لغة مشتقة من قاموس خاص بهم، رغبة في إثبات الوجود وإبراز شخصيتهم بالتمرد  على اللغة المتداولة. وموسيقى غالبا ما تستمد من موسيقى “الراي” و”الهيب هوب”. كما يلجأون إلى التزين بالساعات اليدوية، والالبسة الرياضية باهظة الثمن، وإظهار الهواتف الذكية، والدراجات النارية،  وتسريح الشعر بطرق مثيرة ولافتة للانتباه. الغرض من ذلك هو التباهي، والتنفيس اللاشعوري عن الحرمان المادي والمعنوي والقهر المجتمعي الذي يعيشون فيه.                                                                                             

وهناك عوامل أخرى ساهمت كذلك بشكل أو بآخر في تقوية ظاهرة “التشرميل” والتي يمكن اعتبارها  مساندا رسميا لتشجيع  ظاهرة “التشرميل” وهي القناة الثانية (دوزيم) والتي ساهمت  بطريقة غير مباشرة أو حتى دون قصد منها، في تحفيز الشباب على القيام بأنشطة إجرامية، وذلك من خلال البرنامج الحقير (أخطر المجرمين) الذي كان يبث على قناتها، والذي يمكن اعتباره كتحفيز ودروس تطبيقية في الإجرام، وكذا برنامج “مداولة”. حيث أن هاذين البرنامجين يقدمان للمشاهد جرائم وقعت، وكيف تم التعامل معها، وبالتالي تبين الاخطاء التي ارتكبها المجرم من أجل القبض عليه، مما يعلم وينبه الشباب ويحذره من الهفوات والأخطاء التي ارتكبها هذا المجرم بالفعل، حتى لا يقع فيها المجرم بالقوة (اي الشاب المشاهد) لكي يفلت من العقاب، ويستطيع محو آثار الجريمة. إن مثل هذه البرامج عندما تلتقي بثقافة الخمور والأقراص المهلوسة، فهي الطريق  المعبد للإجرام والتشرميل والتشمكير. دون أن ننسى كذلك الألعاب أي ألعاب الفيديو والتي معظمها ينمي غريزة العنف، وقد شهدت مؤخرا إقبالا غريبا. وهذا ما يولد لدى الشباب العنف و العداء والعدوانية. وإذا كان العنف أو الغضب لهما حالة معينة ثم يخمدان، بخلاف العدائية التي تعتبر مرضا، وهي اتجاهات سلبية، تتمثل في الحقد والكراهية والرغبة في الإيذاء، سواء إيذاء الذات مثل مانراه في حالات الإدمان المتعددة، أو إيذاء الآخر، وهذا مانراه في بعض الفئات الهائجة من الشباب “المشرملين”  والتي تعتدي على المارة بالسرقة والسيوف والسكاكين، أو على الممتلكات العامة.

أن المقاربة الأمنية لا تحل المشكل بقدر ما تزيد في الطين بلة، فلقد قامت السلطات الأمنية مشكورة بعدة حملات من أجل إيقاف فئة “المشرملين”  لكن هل تم حل المشكل ؟  أظن أنها لم تعط أية نتيجة، فهي كمن يصب الزيت على النار، والدليل أن تلك الحملات  تؤدي إلى الزج بمجموعة من المشرملين في السجن، ونحن نعرف واقع السجون المغربية -وهذا موضوع آخر– هذه الأخيرة لا تؤهل السجين ، بل تعلمه فن الإجرام.

ذ. محمـد ابركي

وهناك  نظريات كثيرة تفسر ظاهرة العدوان، إلا أنني سأركز هنا على نظرية الإحباط، والتي ترى أن العدوان هو نتيجة الإحباط، فحسب أصحاب هذه النظرية، فإن العدوان هو مجرد حالة من الإحباط تحولت إلى نوبات من الغضب والعنف، والتي تبقى مكتومة على شكل سلوكيات عدوانية. أو بمعنى آخر الإحباط هو نتيجة لإخفاق الفرد في تحقيق أهدافه، وبالتالي فإن الأفراد الذين يلجأون إلى السلوكات العدوانية هم غالبا أشخاص مقهورين اجتماعيا أو مخفقون في حياتهم، عاجزون عن تحقيق أحلامهم  وطموحاتهم، وكما يقول الكاتب مصطفى حجازي : “ إنسان مقهور في عالم مقهور” والغريب في نفسية الإنسان المقهور أنه يعيش بين قهرين : قهر الطبيعة وقهر البشر. فما ذنب هؤلاء الذين حكمت عليهم الظروف، ولم ينصفهم البشر؟. وهذا ما يتطلب من الدولة والحكومة أن تراجع أوراقها من أجل التصدي لهذه الظاهرة التي أصبحت تشكل خطرا على عامة المواطنين، وتتحرك قبل فوات الأوان، وذلك بالبحث عن حلول ناجعة تكون في مصلحة هذه الفئة من المراهقين والشباب، لأن الشباب يعني المستقبل، ومستقبل أي أمة بدون الاهتمام بشبابها منعدم، والشباب هو المجهول الذي يجب معرفته، وكلمة السر لباب المستقبل التي يجب إيجادها. يجب خلق فرص عمل للشباب والاهتمام به وتأطيره من خلال  خلق دور الشباب  ومختلف المراكز التربوية والثقافية في الأحياء الهامشية، وتجهيزها بكل الوسائل اللازمة، وتوفير مؤطرين أكفاء لتأطير الشباب وخلق أنشطة تربوية وثقافية هادفة، عوض توفير بناية  شكلية لا تتوفر على المواصفات اللازمة واستعمالها للدعاية الإعلامية أو الانتخابية  فقط، مما يجعل الشباب ينفرون منها.  كما يجب الضرب بيد من حديد  على تجار المخدرات، وخصوصا الأقراص المهلوسة والتي تغدي وتساهم بشكل فظيع في القضاء على الشباب بصفة عامة، وفئة “المشرملين” بصفة خاصة. لأن الأمة تبدأ بفقدان هويتها عندما ينحرف شبابها عن الأخلاق والسلوكات الأصلية. و تدهور أوضاع الشباب، وانحطاط أخلاقهم لا يدمرهم وحدهم فحسب، بل يتسبب في انحطاط المجتمع بأكمله. كما أن المقاربة الأمنية لا تحل المشكل بقدر ما تزيد في الطين بلة، فلقد قامت السلطات الأمنية مشكورة بعدة حملات من أجل إيقاف فئة “المشرملين”  لكن هل تم حل المشكل ؟  أظن أنها لم تعط أية نتيجة، فهي كمن يصب الزيت على النار، والدليل أن تلك الحملات  تؤدي إلى الزج بمجموعة من المشرملين في السجن، ونحن نعرف واقع السجون المغربية -وهذا موضوع آخر– هذه الأخيرة لا تؤهل السجين ، بل تعلمه فن الإجرام، وتعطيه دبلوم مجرم مختص، هذا بالإضافة إلى اكتظاظ السجون ، وتوفر كل أنواع المخدرات، وانتشار قانون الغاب و و… هذا الوضع  لا يؤهل السجين ليصبح مواطنا صالحا، بقدر ما يؤهله ليزيد في إجرامه، ويصبح تواقا للعودة إلى السجن لأنه يجد فيه راحته. مما يجعله  يزيد في إجرامه أثناء خروجه من السجن، ولا يخاف من أحد ولا من السجن نفسه لأنه اعتاد عليه وتعوده.

وهذه هي الطامة الكبرى التي لم ينتبه إليها المسؤولون، والتي يذهب ضحيتها مجموعة من المواطنين الأبرياء، فالمواطن أصبح مهددا في بيته وفي الشارع، وفي الأماكن العمومية، وحتى داخل مقرات العمل. إن الوضع الذي أصبحنا نعيش فيه غير مريح، ويقض مضاجع المواطنين، نظرا لغياب الأمن –ولا أقصد هنا رجال الأمن ، والذين يقومون بمجهودات جبارة مشكورين- وهم بدورهم يتعرضون لاعتداءات من قبل هذه الفئة، لأن مفهوم السلطة الجديد قد حد من صلاحياتهم. لكنني أتحدث عن القضايا الأمنية والتي تحتاج إلى سياسات عمومية، لأن الأمن صورة عاكسة لراحة المواطنين، وسمعة البلاد من حيث السيادة والاستقلالية، وغياب الأمن يعني سيادة الخوف والريبة والتوجس وعدم الاطمئنان، وهذا ما يحدث اليوم في  مجتمعنا.

  أتمنى أن نجد آذانا صاغية، وأن تتغلب المصلحة العامة عن الخاصة، ويستيقظ المسؤولون من غفلتهم، وأن لا يستهينوا بهذه الظاهرة الخطيرة، ويتصدوا  لها  قبل فوات الاوان.  فهي كقنبلة موقوتة، وانفجارها سيأتي على الأخضر واليابس. حيث أصبحنا نسمع ونشاهد وقائع أليمة يذهب ضحيتها مجموعة من الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة، وإذا استمر الحال على ماهو عليه فسيقع مالاتحمد عقباه .

                                                                                                                                                     

مقالات الكاتب :

https://dr-achbani.com/عيد-الأضحى-من-البعد-الديني-إلى-الإكراه/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Radio
WP Radio
OFFLINE LIVE