المنبر الحر

رمضان بين العبادة والاستهلاك: حين يضيع جوهر الروح في زحام المظاهر

د. الحسـن اشباني

في رمضان، نملأ المساجد، ونغدق الأموال على العمرة والولائم الفاخرة، بينما يتضور أطفال المسلمين جوعًا في بلادٍ مزقتها الحروب والفقر. ننفق بسخاء على زخرفة موائدنا، ونبخل على الأرامل والأيتام. نحرص على أداء صلاة التهجد في الحرم والمساجد عبر العالم، ولا نهتم بأنين الجياع في مخيمات النزوح. في غزة، ابادة لشعب باكمله، قصفت البيوت على رؤوس ساكنيها، يبحث الأطفال عن لقمة في ركام منازلهم، وتُطفأ الأنوار في بيوتٍ كانت عامرة بالحياة. في سوريا من قبل (فلحفظها الله من عبث الماكرين) واليمن والصومال وبورما وو..، يجفّف الجوع والألم وجوهًا لم تعرف إلا القهر. هل هذا ما يريده الله منا؟!

إن الغفلة ليست دائمًا في الانحراف، بل قد تأتي متوشحةً بلباس العبادة، تصرفنا عن جوهر الدين إلى مظاهره.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي” (رواه البخاري ومسلم). لكن، هل يكفي هذا الحديث ليحمل ملايين المسلمين من أرجاء المعمورة إلى مكة، حتى تغدو المدينة المقدسة في رمضان وكأنها كُشِف عنها النقاب لأول مرة؟

مشهد الحرم المكي مهيب، يملأ القلب بهجة حين يغصُّ بالمعتمرين والمصلين، ولكن هل هذا ما يريده الله منا في هذا الشهر العظيم؟ هل أراد لنا أن نرفع أسعار الفنادق إلى عشرات الآلاف، وأن ندفع الألوف لحجز موطئ قدم في الصفوف الأولى، بينما يسكن الفقراء العراء ولا يجدون كسرة خبز؟

إن الغفلة ليست دائمًا في الانحراف، بل قد تأتي متوشحةً بلباس العبادة، تصرفنا عن جوهر الدين إلى مظاهره. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: “أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا”، وأشار بالسبابة والوسطى وفرّق بينهما قليلًا (رواه البخاري)؟ فهل صحبة النبي في العمرة أولى عندنا من صحبته في الجنة؟

عبادات ظاهرية وقلوب خاوية

نصلي التراويح، ونبكي في الدعاء، لكننا نظلم، ونرتشي، ونغش، ونكذب، ونحتكر، ونأكل أموال الضعفاء بلا رحمة. ندعي الورع في رمضان، ونستعد للفساد بمجرد خروجه. نؤدي العبادات شكليًا، بينما تغيب مكارم الأخلاق من معاملاتنا. كم من مسؤول يُظهر التقوى أمام الناس، لكنه يظلم العباد؟ كم من تاجر يُغلق محله وقت الصلاة، لكنه يغشّ في الميزان؟ وكم من قاضٍ يصوم ويقرأ القرآن، لكنه يبيع الأحكام لمن يدفع أكثر؟!

انتشار الظلم وغياب العدالة

العدالة أصبحت حلمًا بعيد المنال، والسجون تعج بالمظلومين، بينما المجرمون يتمتعون بنفوذهم. كم من شاب بريء زُجَّ به في السجن ظلمًا، وكم من فاسد طليق لأنه يملك المال والسلطة! إذا غابت العدالة عن أمة، فماذا يبقى منها غير الفوضى والانهيار؟

لقد أصبح الظلم مألوفًا في مجتمعاتنا، حتى صار القوي يزداد قوة والضعيف يُسحق دون أن يجد من ينصفه. يُحرم الفقراء من أبسط حقوقهم، بينما يعيش الأغنياء في بذخ لا حدود له. تُعطل القوانين من أجل المحسوبية، ويصبح الحق لمن يملك الواسطة لا لمن يستحقه.

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ” (رواه أحمد)؟ فأي دين هذا الذي يبيح لنا العبادة مع قلوب قاسية وأخلاق فاسدة؟!

الرشوة والفساد: وباء يأكل الأمة

أصبحت الرشوة وسيلة لإنجاز أبسط الأمور، من استخراج الأوراق الرسمية إلى الحصول على وظيفة. يُفرض على المواطن دفع المال مقابل حقه الطبيعي، وإن لم يدفع، تُعطل معاملته إلى أجل غير مسمى. الفساد لم يعد مجرد سلوك شاذ، بل أصبح ثقافة يُبررها البعض تحت مسميات مختلفة.

التعليم الهابط والصحة المتهالكة: أي مستقبل ننتظر؟

بنى المساجد الفخمة، لكن المدارس متهالكة، والمستشفيات بلا معدات، والأطباء يهاجرون بحثًا عن كرامتهم، والتعليم صار تجارة، يرتقي في مسارها من يدفع أكثر. كيف نتحدث عن نهضة إسلامية، بينما شبابنا يتخرجون من المدارس دون أن يتقنوا حتى قراءة وكتابة النهضة؟! كيف نطالب العالم باحترامنا، ونحن أنفسنا نهمل تعليم أبنائنا ونعاملهم وكأنهم عبء على الأمة بتهميش المؤسسات العمومية؟!

أما البحث العلمي، فقد صار ديكورًا أكاديميًا يُنجَزُ للترقية الوظيفية لا لخدمة الأمة. مراكز البحوث خاوية إلا من الأوراق التي لا تُقرأ، والمخابر بلا تجهيزات، والعقول تهرب إلى الخارج، حيث يجد العلماء التقدير الذي حُرموا منه في أوطانهم. جامعاتنا تخرّج الآلاف سنويًا، لكن أين الابتكار؟ أين الإنجازات؟ أين براءات الاختراع التي تخدم مجتمعاتنا؟ نستهلك ما يطوره غيرنا، ونكتفي بالاحتفاء بإنجازات الماضي، بينما مستقبلنا يُباع في مزادات الإهمال والتخلف.

أما الصحة، فقد أصبحت سلعة، والمستشفيات الخاصة مشاريع استثمارية تبتلع جيوب الفقراء، بينما تتهاوى المستشفيات الحكومية تحت وطأة الإهمال ونقص المعدات. الأغنياء يجنون الأرباح من معاناة المرضى، بينما الفقير يواجه الموت في طوابير الانتظار، أو على أبواب المشافي التي لا تستقبله إلا إن دفع أكثر مما يملك. هل هذا هو العدل الذي أمرنا الله به؟ أين نحن من قوله تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ” (المائدة: 2)؟!

رمضان بين الروحانية والاستهلاك

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ” (رواه الطبراني). لكننا نأكل حتى التخمة، بينما الفقراء يئنّون تحت وطأة الجوع والمرض. نرى غير المسلمين يصومون تضامنًا معنا، ثم يتبرعون بما وفروه للفقراء، بينما نحول نحن رمضان إلى موسم استهلاك وترف!

كم من أرملة لا تجد ما تطعم به أبناءها، وكم من شيخ عجوز ينام على الطوى، بينما تُلقى الأطباق العامرة في الحاويات لأننا لا نريد أن نأكل طعام اليوم السابق؟!

وهل العبادات الظاهرية هي كل شيء؟ هل يريد الله منا أن نصلي عشرين ركعة في التراويح ثم نغتاب فلانًا ونستهزئ بآخر، ونتكبر على الضعفاء، ونحتقر الفقراء، ونتجاوز على حقوق الآخرين؟! كيف نرجو رحمة الله ونحن نظلم من حولنا، ونبخس الناس أشياءهم، ونؤذيهم بألسنتنا وأفعالنا؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ” (رواه أحمد)؟ فأي دين هذا الذي يبيح لنا العبادة مع قلوب قاسية وأخلاق فاسدة؟!

لقد أصبحنا أمة تهتم بالصورة وتغفل الجوهر، حتى بات الشيطان يرقص فرحًا بتديننا الشكلي. قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)﴾ (الكهف: 103-104).

رمضان ليس موسمًا للبذخ والتفاخر، بل هو مدرسة للرحمة والعطاء. فهل نستيقظ من غفلتنا؟

رحمة الله أوسع من كل ذنوبنا

ومع كل هذا، فإن باب الرحمة لا يزال مفتوحًا، وفضل الله واسع لا يُغلق في وجه التائبين. قد نكون أخطأنا، وظلمنا، وغفلنا عن جوهر الدين، لكن الله ينادينا في كل لحظة: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا” (الزمر: 53). ليست العبرة بعدد العثرات، بل بصدق التوبة والعودة إلى الطريق المستقيم. فمن طرق باب الله بقلب منكسر، فتح له أبواب العفو، ومن سعى إلى الإصلاح، وجد رحمة الله أوسع من ذنوبه وأخطائه.

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا. اللهم أصلح قلوبنا، وزكِّ نفوسنا، وردَّنا إليك ردًّا جميلًا، واهدِنا صراطك المستقيم، ووفقنا لعملٍ يرضيك، خالصًا لوجهك الكريم. اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين، وانصر الحق وأهله، وأهلك الظلم والفساد وأعوانه، وأعِزَّ الإسلام والمسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي

مقالات الكاتب ذات الصلة :

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Radio
WP Radio
OFFLINE LIVE