حوار رائع مع د.محمد المختار الشنقيطي حول التوفيق سياسيا بين المبادئ والمصالح في اطار الساحة الرمادية


د. الحسن اشباني
اعجبني كثيرا الحوار الجميل الذي اجراه الاعلامي محمد ناصر مع الدكتور محمد المختار الشنقيتي و أستاذ الشؤون الدولية بجامعة قطر وأستاذ الأخلاق السياسية حول التوفيق بين المبادئ والمصالح وفق مايسمى العمل في الساحة الرمادية. لذلك قمت تعميما للفائدة بتنزيله كتابة من قناة الاعلامي محمد ناصر (https://www.youtube.com/watch?v=CR4hNl5AZR0):
يدور الحوار حول العلاقة بين السياسة والأخلاق، حيث يوضح الضيف أن السياسة تتحرك ضمن “مساحة رمادية” بين المبادئ والمصالح، مما يجعل من الصعب الالتزام بمطلق المثالية. يستشهد بالسيرة النبوية كمثال على التعامل السياسي البراغماتي لتحقيق المصالح، مثل الاستعانة بغير المسلمين في مواقف معينة. يناقش الضيف أيضًا فكرة التحالفات السياسية، مؤكدًا أن بعض المصالح تبرر التعاون مع أطراف مختلفة، كما فعلت الثورة الجزائرية مع الاتحاد السوفيتي. ينتقد التطبيع مع إسرائيل، معتبرًا أنه يشبه تحالفات ملوك الطوائف في الأندلس. يقارن بين إيران وإسرائيل، مؤكدًا أن إيران عدو مؤقت وجار دائم، بينما إسرائيل عدو دائم وجار مؤقت. يوضح أن العداوات بين أبناء الأمة يمكن أن تتغير، كما حدث تاريخيًا بين دول متناحرة ثم تصالحت. ويختتم الحوار بالتأكيد على ضرورة الفصل بين الخلافات الدينية والصراعات السياسية، مع التركيز على أن الظلم هو الذي يحول الخلاف إلى صراع. قراءة ممتعة

فلا توجد في السياسة منطقة ناصعة البياض، ولا أخرى حالكة السواد، بل هي مزيج بينهما، حيث يسعى السياسي إلى التوفيق بين المبادئ والمصالح. د. محمد المختار الشنقيتي
الاعلامي محمد ناصر : دعني أبدأ من المقال الذي كتبته والذي قرأته. عندما طلب منكم بعض الطلاب تدريسهم الأخلاق السياسية، كان أول سؤال يطرحونه: ما هي المساحة الرمادية؟
عندما يتحدث البعض عن المصلحة في السياسة وفقه الممكن، يتساءل آخرون: أين هي أخلاق السياسة؟ وهل هناك فرق بين الأخلاق السياسية والمصالح السياسية؟ بل هل في السياسة أخلاق أصلًا؟ هذا سؤال صعب، ونحن نصارع معه منذ سنين مع طلابنا، فهو إشكال جوهري.
هل السياسة لها علاقة بالأخلاق؟ أو بالأحرى، هل ينبغي أن تكون هناك سياسة أخلاقية؟ من الناحية العملية، نعم، السياسة مثل أي سلوك بشري تخضع لمعايير أخلاقية، شأنها شأن الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية، إذ لا يوجد شيء خارج نطاق الأخلاق. لكن الأخلاق السياسية لها خصوصية نابعة من طبيعة العمل السياسي نفسه. فالعمل السياسي، كما أشرت في مقالي، يتحرك في نطاق مساحة رمادية، ولا يمكن التعامل معه بمنطق الأبيض والأسود؛ فلا توجد في السياسة منطقة ناصعة البياض، ولا أخرى حالكة السواد، بل هي مزيج بينهما، حيث يسعى السياسي إلى التوفيق بين المبادئ والمصالح.
من ينظر إلى السياسة نظريًا، سواء في الجامعات أو من خلال الكتابات النقدية، لا يشعر بضيق المساحة الرمادية، لأنه يتعامل مع المبادئ المجردة. أما الممارس السياسي، فهو لا يخوض في عالم مجرد، بل يحاول التوفيق بين مبادئ متزاحمة ومصالح متناقضة، ضمن حدود الزمان والمكان والإمكان. وهذا هو الفارق بين المنظّر السياسي والممارس السياسي.
بالعودة إلى المقال، أعجبني جدًا استشهادك بالسيرة النبوية وتحالفات النبي ﷺ. لقد ذكرت أنه سنّ سنة سياسية هادية في هذا المجال. هل يمكنك أن توضح بعض النماذج من السيرة النبوية التي تدعم هذا الطرح؟
نعم، في السيرة النبوية أمثلة عديدة على بناء مساحات مشتركة مع المخالفين لتحقيق مصالح سياسية، سواء بالتحالف مع قبائل أو الاستعانة بأفراد أو حتى بالتعامل مع دول. من أبرز هذه الأمثلة، قصة الهجرة النبوية، حيث كان دليل النبي ﷺ في رحلته الخطرة إلى المدينة رجلًا غير مسلم، وهو عبد الله بن أريقط، الذي كان مشركًا على دين قومه، ومع ذلك أمّنه النبي ﷺ وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه على حياتهما، وسلموه راحلتيهما، ووعدوه بأن يأتي إليهما بعد ثلاثة أيام. هذا الرجل لم يغره وعد قريش بمائة ناقة لمن يدلهم على النبي ﷺ، بل بقي أمينًا على العهد، رغم أنه لم يكن مسلمًا. وهذا يدل على أن القيم مثل الوفاء بالعهد ليست حكرًا على المسلمين، بل هي قيم إنسانية مشتركة.
وقد استعان النبي ﷺ بأشخاص آخرين كذلك، مثل جبير بن مطعم الذي أجاره في مكة، وصفوان بن أمية الذي استعار منه السلاح لغزوة حنين، والشاعر معبد الخزاعي، وعمه أبو طالب الذي دافع عنه رغم أنه لم يكن مسلمًا. كما لجأ المسلمون إلى دولة الحبشة، التي كانت دولة مسيحية، عندما اشتد عليهم الاضطهاد في مكة. كل هذه الأمثلة تؤكد أن السياسة في الإسلام تتعامل مع واقع متعدد الأبعاد، وتسعى لتحقيق الأهداف عبر مساحات رمادية، بما يخدم المصلحة العامة.
لكن البعض قد يقول إن النبي ﷺ لم يتحالف إلا مع أناس لم يكونوا فاسدين، بل كانوا يحفظون العهود. فما رأيك؟
في الواقع، بعض هؤلاء لم يكونوا صالحين بالمطلق، وبعضهم كان مشركًا، وربما كان لبعضهم سلوكيات غير أخلاقية في سياقات أخرى، لكن الأهم أنهم التزموا مع النبي ﷺ في العلاقة التي جمعتهم به. المبدأ هنا أن الإنسان ليس مسؤولًا عن كل أفعال الطرف الآخر، بل هو مسؤول فقط عن طبيعة العلاقة المشتركة بينهما. فإذا كانت هناك قضية عادلة، فلا مانع من الاستعانة بطرف معين لتحقيقها، دون تحمل تبعات أفعاله الأخرى.
إذن، هل يمكن لدولة ما أن تتحالف مع دولة أخرى رغم خلافاتهما في قضايا أخرى؟
نعم، المبدأ هو أن العلاقات السياسية يجب أن تبنى وفقًا لمصالح مشتركة في قضايا محددة، دون تبني كل سياسات الطرف الآخر. على سبيل المثال، خلال الثورة الجزائرية، تلقت الدعم من الاتحاد السوفيتي، رغم أن السوفييت كانوا يضطهدون المسلمين في آسيا الوسطى والبلقان. لكن هذا لم يكن من مسؤولية الثوار الجزائريين، الذين كان هدفهم تحرير بلادهم من الاستعمار الفرنسي.
هذا يقودنا إلى موضوع المرونة السياسية. هل هناك أمثلة أخرى من التاريخ الحديث تعكس هذا المبدأ؟
بالتأكيد، من الأمثلة الشهيرة في الحرب العالمية الثانية، تعاون شارل ديغول مع بريطانيا لتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، رغم العداء التاريخي بين البلدين. وعندما طلبت بريطانيا موافقته على ضرب الأسطول الفرنسي في الجزائر، وافق، لأنه كان يخضع لحكومة فيشي التابعة للألمان، وبالتالي كان يمثل تهديدًا. مثال آخر هو قرار البريطانيين بعدم التدخل لإنقاذ أحد أساطيلهم التجارية عندما علموا أن الألمان سيهاجمونه، حتى لا يكتشف الألمان أنهم اخترقوا شيفرة “أنيغما”. لقد ضحوا بتكتيك قصير المدى للحفاظ على سر استراتيجي كان مفتاحًا لنصرهم لاحقًا في معركة نورماندي.
التطبيع اليوم يشبه تمامًا ما جرى في الأندلس، حين تحالف أمير غرناطة مع الصليبيين الإسبان ضد قرطبة وإشبيلية. إنه سقوط مدوٍّ أن يصطف المرء مع عدوٍ لا يستهدف خصمه فحسب، بل يهدد الأمة بأكملها. إسرائيل تتبع النهج ذاته، فهي تمضي في تفكيك الأمة جزءًا بعد جزء، حتى تجهز عليها بالكامل
عندما تدرّس هذا الموضوع لطلابك، كيف يكون رد فعلهم؟
الطلاب، مثلنا جميعًا، يجدون صعوبة في التعامل مع هذه المساحات الرمادية في البداية. وغالبًا ما ينقسم الفصل إلى رأيين عند طرح قضايا كهذه، حيث يعتقد البعض أن السياسة يجب أن تكون مثالية بالكامل، بينما يرى آخرون أنها تتطلب براغماتية ومرونة. ومع مرور الوقت، يبدأ الطلاب في إدراك تعقيد المشهد السياسي، ويفهمون أن النجاح السياسي يتطلب تحقيق التوازن بين المبادئ والمصالح.
ما رأيناه للأسف من تاريخ ملوك الطوائف في الأندلس يشبه التاريخ الحزين لبعض الدول العربية اليوم. هل تعتقد أن ذلك ناتج عن المصلحة الأنانية؟
نعم، هو نوع من المصلحة الذاتية الأنانية وليست المصلحة الذاتية المتنورة، وهذا موضوع يستحق التأمل. من حق الدول أن تحقق مصالحها، بل إن هذا هو دور السياسي، أن يسعى لتحقيق مصلحة شعبه ودولته. لكن حتى مصلحة الدولة الذاتية لا ينبغي أن تكون على حساب العائلة البشرية الأكبر وأبناء الأمة ومسؤولياتها التي تتجاوز حدود الدولة.
بالحديث عن المصالح والمساحات الرمادية، هل يمكن اعتبار الاصطفاف مع إسرائيل أو التطبيع ضمن هذه المساحة؟
التطبيع يشبه تمامًا ما حدث في الأندلس، حينما تحالف أمير غرناطة مع الصليبيين الإسبان ضد قرطبة وإشبيلية. إنها كارثة أن يتحالف المرء مع عدو للجميع، ليس فقط لخصمه المباشر، بل للأمة بأكملها. إسرائيل تمارس هذا الأسلوب نفسه، فهي تسعى للقضاء على الأمة بالتقسيط.
إذن، هل ترى أن أي تحالف أو تطبيع مع إسرائيل يعد خطأً استراتيجيًا وأخلاقيًا؟
بالتأكيد، إنه خطأ أخلاقي واستراتيجي. من يتعامل مع إسرائيل يتعامل مع عدو وجودي للأمة بأسرها. إسرائيل ليست مجرد دولة صغيرة، بل هي رأس الحربة في حرب الحضارة الغربية على العالم الإسلامي. تأثيرها ليس محصورًا في فلسطين، بل يمتد إلى كل أرجاء العالم العربي، حيث تتدخل ضد الشعوب، وتعرقل أي إنجاز تكنولوجي أو عسكري أو نهضوي.
لكن البعض قد يختلف معك، ويرى أن إيران أخطر من إسرائيل. كيف ترد على هذه المقارنة؟
رأيي أن إيران جار دائم وعدو مؤقت لجزء من الأمة، بينما إسرائيل جار مؤقت وعدو دائم لكل الأمة. إيران دولة إسلامية، حتى لو كانت هناك خلافات معها، فهي جزء من أهل القبلة، وجغرافيًا تقع في قلب العالم الإسلامي. بينما إسرائيل كيان استيطاني غربي مؤقت، مثل المستوطنين الفرنسيين في الجزائر.
هل تعني أن العداوة مع إيران يمكن أن تكون مؤقتة؟
نعم، فإيران عدو لبعض الدول، لكنها ليست في حالة حرب مع الأمة بأكملها، كما أنها لا تمتلك القدرة على التدخل العميق في كل الدول العربية كما تفعل إسرائيل. سوريا قد تتصالح مع إيران في المستقبل، كما تصالحت ألمانيا وفرنسا بعد الحروب بينهما. بينما إسرائيل ليست دولة طبيعية في المنطقة، بل كيان استعماري لا يمكن أن يكون جزءًا من النسيج الإقليمي.
لكن إذا نظرنا للتاريخ، نجد أن دولًا كانت في حالة عداء ثم تحالفت. هل يمكن أن يحدث هذا مع إيران؟
بالطبع، التاريخ مليء بمثل هذه التحولات. انظر إلى أوروبا، الألمان والفرنسيون خاضوا حروبًا دموية، لكنهم اليوم متحدون كأنهم دولة واحدة. نحن لسنا استثناءً من هذه القاعدة، فعداوات الجيران لا تدوم إلى الأبد، لكن الوضع مع إسرائيل مختلف، لأنها ليست جارًا طبيعيًا، بل كيان استعماري زرع في قلب الأمة.
البعض قد يختلف معك. إذا كنا نتحدث عن الخطر، فهناك من يرى أن التحالف مع إسرائيل يشكل خطرًا، لكن هناك أيضًا من يعتبر أن إيران أخطر من إسرائيل. هل ترى أن فكرة المقارنة بينهما قد تضلل الناس عن فهم المساحات الرمادية؟ اذن، ترى أن المصالحة مع إيران ممكنة، لكن مع إسرائيل مستحيلة؟
رأيي الشخصي، وقد كتبته من قبل، هو أن إيران جار دائم وعدو مؤقت لجزء من الأمة، بينما إسرائيل جار مؤقت وعدو لكل الأمة. وهذا هو الفرق الأساسي بينهما.
دكتور، لنوضح هذه النقطة أكثر للمشاهدين.
إيران جار دائم، لا أحد يتصور أن إيران ستختفي من خريطة العالم غدًا، هذا مستحيل. هذا البلد دخل الإسلام منذ القرن الأول الهجري، ولا يزال جزءًا من الأمة الإسلامية، رغم الاختلافات في العقائد أو الطقوس أو الذاكرة التاريخية أو السياسة. لكن في النهاية، هم جزء من أهل الإسلام وأهل القبلة. جغرافيًا، إيران تقع في قلب العالم الإسلامي، بين شرقه الآسيوي وغربه الأفريقي، غرب البحر الأحمر. بينما إسرائيل هي جار مؤقت. الجميع يأمل ويؤمن أن إسرائيل كيان غربي مؤقت، كما كان الحال مع المستوطنين الفرنسيين في الجزائر أو فيتنام أو كوريا أو مدغشقر. لذا، الفرق الأول هو أن إيران جار دائم، بينما إسرائيل جار مؤقت.
لكل فرد، ولكل شعب، ولكل دولة سياقها الخاص. فمن الطبيعي ألا ينظر السوري، الذي قتل أهله على يد إيران، إليها بالطريقة نفسها التي ينظر بها الفلسطيني، الذي يراها أكبر داعم له بالمال والسلاح والخبرة
وماذا عن العداوة؟
إيران عدو لجزء من الأمة، وليست عدوًا لكل الأمة. نعم، ارتكبت إيران جرائم فظيعة، خاصة في سوريا، وهذا ليس تقليلًا من شأن تلك الجرائم. أنا أدرك ذلك تمامًا، وأشعر بالألم، فأنا نصف سوري، وشهدت هذه الفظائع عن قرب. لكن إيران ليست في حالة حرب مع كل العالم الإسلامي، ولا تملك القدرة على ذلك، كما أنها لا تستطيع التدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الدول كما تفعل إسرائيل، التي تمتلك نفوذًا واسعًا عبر حلفائها الغربيين. إيران إذن عدو لجزء من الأمة، لكنها جار دائم، في حين أن إسرائيل عدو لكل الأمة، وهي جار مؤقت.
لكن هناك من يعتقد أن هذه مجرد وجهة نظر؟
بالطبع، هذه رؤيتي، وهي ليست ملزمة لأحد. السياسة تتعلق بالسياق، وكما يقول المفكر السياسي الأمريكي جوزيف ناي، أهم عنصر في السياسة هو “الذكاء السياقي” (contextual intelligence). كل إنسان، كل شعب، وكل دولة لها سياقها الخاص. لا أتوقع من السوري الذي قتل أهله على يد إيران أن ينظر إليها كما ينظر إليها الفلسطيني، الذي يعتبرها الداعم الأكبر له بالمال والسلاح والخبرة.
إذن، هناك ثلاث نقاط رئيسية في هذه المقارنة؟
نعم، أولًا، إيران جار دائم، وإسرائيل جار مؤقت. ثانيًا، إيران عدو مؤقت لجزء من الأمة، بينما إسرائيل عدو دائم لكل الأمة. ثالثًا، العداوة مع إيران مؤقتة، حتى وإن كانت مدمرة. يمكن أن تتغير الظروف، وقد تشهد سوريا يومًا ما مصالحة مع إيران، كما تصالحت فرنسا وألمانيا بعد أن قتلوا الملايين من بعضهم البعض خلال الحرب العالمية الثانية. اليوم، هم كأنهم أبناء دولة واحدة.
هذا يعني أنك ترى أن العداوة بين أبناء الأمة الواحدة ليست أبدية؟
بالضبط، لا توجد عداوات دائمة بين أبناء الأمة الواحدة، مهما كانت الخلافات المذهبية أو الطائفية أو السياسية. من يحولون هذه العداوات إلى صراعات أزلية يرتكبون خطأً استراتيجيًا. الإيرانيون لم يكونوا شيعة منذ البداية، بل كانوا سنة لأكثر من تسعة قرون من تاريخ الإسلام، والتحول إلى التشيع بدأ مع الدولة الصفوية في القرن الثالث عشر الميلادي. كما أن كثيرًا من الدول العربية شهدت فترات حكم شيعية، مثل الدولة الحمدانية والمرداسية والعقيلية في بلاد الشام، والفاطميين في مصر، ومع ذلك، لم تكن هذه العداوات دائمة. يثبت التاريخ أن الأمور تتغير. كما تحول الفرس إلى التشيع، كذلك هناك من تحولوا إلى التسنن، كما حدث في الشام ومصر بعد الحكم الفاطمي. علينا أن نأخذ هذه التحولات بعين الاعتبار، لأن المستقبل لا يُبنى على العداء الدائم، بل على إدراك المصالح المشتركة والتغيرات التاريخية.
لكن دكتور، دعنا نتحدث عن هذا الموضوع… حتى إيران التي ظلت سنية تسعة قرون، ثم تحولت إلى التشيع، ألا ترى أن محاولة إيجاد مساحة مشتركة مع شخص أو كيان أو نظام يهاجم ثوابتك أمر صعب؟
لا، ليست صعبة. إذا كان المقصود هو الخلاف النظري، فهناك خلافات خارج دائرة الإسلام أكبر بكثير. يعني، إذا كنت أنا المصري في القاهرة، أستطيع أن أتعايش بشكل ممتاز مع جاري القبطي، رغم اختلافنا في أصول العقيدة، في التوحيد، وفي النبوة. إذن، من باب أولى، يمكنني أن أتعايش مع الشيعي، رغم اختلافنا حول عدالة الصحابة أو بعض القضايا التاريخية أو حتى بعض تفاصيل العقائد، التي لا تصل إلى درجة الخلاف في التوحيد أو القضايا الأساسية الأخرى.
إذن أنت ترى أن الناس تخلط بين الخلاف الديني والصراع الديني؟
نعم، الخلاف الديني موجود بين السنة والشيعة، وسيبقى، كما هو موجود بين المسلمين والمسيحيين، وسيبقى كذلك. لكن الخلاف الديني ليس بالضرورة أن يتحول إلى صراع ديني. الصراع لا ينشأ إلا عندما يُضاف إليه الظلم السياسي الذي يحول الخلاف إلى صراع. فمثلاً، يمكنني أن أتعايش مع جاري اليهودي، أو المسيحي، أو الشيعي، أو غيرهم، ما لم يظلمني أو أظلمه. قضايا الخلاف في العقيدة موجودة، لكنها تبقى في إطار الجدران الفقهية والنقاش العلمي، ولا مشكلة فيها. لكن حينما يبدأ الظلم السياسي، نبدأ بنبش هذه الخلافات، وتحويلها إلى سلاح وذخيرة للاقتتال فيما بيننا. لذا، ينبغي أن نميز بين الخلاف والصراع.
إذن برأيك، الخلافات ستظل موجودة لكنها ليست بالضرورة أن تتحول إلى صراع دائم؟
نعم، الخلافات بين السنة والشيعة كانت موجودة منذ قرون طويلة، وستظل موجودة، لكن ليس بالضرورة أن تتحول إلى صراع دائم. وأنا لا أقف موقفًا محايدًا بين ظالم ومظلوم. إيران، مثلاً، هي الظالمة في سوريا، وهي التي ارتكبت المجازر، وجلبت ميليشيات من كل أرجاء العالم، وذبحت وشردت الملايين. لذلك، لا يمكنني أبداً أن أساوي بين ظالم ومظلوم. لكن، في الوقت ذاته، علينا أن ننظر إلى الأمد البعيد، وندرك أن الحالة التي نعيشها اليوم ليست حالة أبدية، لا من الناحية السياسية ولا من الناحية الثقافية أو المذهبية.
هل ترى أن هذا الأمر ينطبق على الصراعات بين الكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية في أوروبا؟ فقد شهد التاريخ الأوروبي صراعات طويلة بين المذاهب المسيحية، تحولت فيها الخلافات العقائدية إلى صراعات مميتة.
نعم، هذا صحيح تمامًا، وللأسف، لم نستفد كثيرًا من هذا الصراع. الكاثوليك والبروتستانت تقاتلوا 137 عامًا، كانت هناك حرب المئة عام، وحرب الثلاثين عامًا، وحرب السبع سنوات. لم يحدث في تاريخ العلاقة بين السنة والشيعة أن تقاتلوا لمئة عام أو حتى لثلاثين عامًا بشكل مستمر.
لكن هل ترى أنهم وصلوا في النهاية إلى نقطة تفاهم؟
بالطبع، في نهاية المطاف، رجعوا إلى عقولهم، وقالوا: نحن ننتمي إلى ديانة واحدة وحضارة واحدة، مهما اختلفنا في التفاصيل العقائدية والشعائر. نحن جميعًا مسيحيون، وجميعنا أبناء أوروبا، وجميعنا ورثة التراث الروماني واليوناني، لذلك يجب أن نركز على ما يجمعنا بدلًا من التركيز على ما يفرقنا.
وهل يمكن تطبيق هذا على واقعنا؟
نعم، أنا مؤمن أن ما يجمع اليوم بين العرب، والفرس، والترك، والكرد، والأفارقة، والملاويين، وغيرهم من شعوب العالم الإسلامي، أكثر بكثير مما يجمع بين الشعوب الأوروبية. في الاتحاد الأوروبي، هناك 24 لغة رسمية، ومع ذلك لم يجعلوا من اختلاف اللغة عائقًا أمام الوحدة.
حين سُئل هنري كيسنجر عام 1986 عن الاستراتيجية الأمريكية تجاه الحرب العراقية-الإيرانية، أجاب بوضوح: “‘هدفنا أن يخرج الطرفان خاسرين“
إذن أنت ترى أن اختلاف اللغة والمذهب ليس مشكلة حقيقية؟
أبدًا، البروتستانتية وحدها فيها عشرات الطوائف المختلفة، ومع ذلك استطاعوا التعايش. بينما نحن ما يجمعنا أكثر مما يجمعهم، دينياً وثقافياً.
لكن الغرب استطاع أن يتجاوز هذه الخلافات، بينما نحن لا نزال نبالغ فيها؟
ا هذا هو جوهر المشكلة. الغرب، رغم المسافات الجغرافية الكبيرة، يعتبر نفسه كيانًا واحدًا، بينما نحن نُضخّم الخلافات القومية والطائفية واللغوية.
من برأيك المسؤول عن تكريس هذه الفجوات؟ هل هي الشعوب أم الأنظمة؟
الحقيقة أن المشكلة مزدوجة. هناك نخب سياسية، داخلية وخارجية، تغذي هذا النوع من الصراعات. الصراع السني-الشيعي، على سبيل المثال، اشتعل مع الثورة الإيرانية والحرب العراقية-الإيرانية. هناك مصلحة دولية في تأجيج هذا الصراع، والأمريكيون والإسرائيليون عملوا على تغذيته، ليس حبًا بالسنة، ولا حبًا بالشيعة، وإنما لتدميرهما معًا.
هل لديك أدلة على أن هذه سياسة ممنهجة؟
نعم، عندما سُئل هنري كيسنجر عام 1986 عن الاستراتيجية الأمريكية تجاه الحرب العراقية-الإيرانية، قال بوضوح: “استراتيجيتنا هي خسارة الطرفين”.
وماذا يعني ذلك؟
يعني أنهم يتعمدون إطالة أمد الصراعات لاستنزاف الجميع. أحيانًا يدعمون السنة ضد الشيعة، كما فعلوا في الحرب العراقية-الإيرانية، وأحيانًا يدعمون الشيعة ضد السنة، كما فعلوا بعد غزو العراق. والمغفّلون في منطقتنا يظنون أنهم يكسبون، بينما هم في الحقيقة مجرد أدوات في مخطط مدروس.
هل لديك أمثلة أخرى على ذلك؟
بالطبع، انظر إلى حسن نصر الله، تم التسهيل له ليذبح السوريين كيفما شاء، لكن حينما دعم غزة بوضوح في “طوفان الأقصى”، تم تصفيته.
هل تقصد أن اغتياله كان بسبب موقفه من غزة؟
طبعًا، هذا ليس سرًا، الإسرائيليون قتلوه بسبب دعمه لغزة، لأنه أصرّ على دعم المقاومة الفلسطينية، وقدم تضحيات كبيرة.
وهل ترى أن هذا السيناريو تكرر في حالات أخرى؟
نعم، انظر إلى صدام حسين. عندما كان يحارب إيران، كانت خزائن الغرب والدول العربية مفتوحة له بالمال والسلاح، لكنه كان مجرد أداة مؤقتة لكسر شوكة الثورة الإيرانية. وبعد أن انتهت وظيفته، تم شنقه.
إذن برأيك، هل نحن نعيش في صراع دائم؟
لا، الصراعات ليست أبدية، ولا توجد حرب تستمر للأبد بين أبناء الأمة الواحدة. ما نحتاجه هو التفكير العقلاني وعدم الاستسلام للحظة الصراع الحالية، فهي ليست قدرًا محتومًا.
في إيران، حقيقة الأمر أنها لا تدعم القضية الفلسطينية إيمانًا محضًا. ولذلك أنصح إخواننا في حماس وأقول لهم وجهًا لوجه، اليوم الذي تمتلك فيه إيران سلاحًا نوويًا، لن تعود بحاجة إلى طوق النيران المحيط بإسرائيل، لأنها حصنت نفسها. لذلك، ابحثوا لكم عن حليف آخر وداعم آخر. إذن عندما تنتهي حاجتها الاستراتيجية لحماس، لن تدعمها، لأنها لا تدعم حماس لأسباب مبدئية وأيديولوجية كما تفعل مع حزب الله، وإنما تدعمها لغايات استراتيجية.
ومع ذلك، أنت تشكر إيران على دعمها لحماس؟
طبعًا، لأنه في السياسة النية ليست مهمة. ولو دعمت الصين القضية الفلسطينية، سأشكرها أيضًا، حتى وإن كانت تضطهد المسلمين.
لكنها تضطهد المسلمين!
نعم، أتعاطف معهم، لكنني أقصد أنني لا أملك شيئًا لتغيير سياسة الصين تجاه مسلميها. رفع الاضطهاد عن المسلمين في الصين هو واجب متعين على مسلمي الصين أنفسهم، وعلى المسلمين المجاورين للصين. هناك خمس دول مسلمة لها حدود معها، وهو واجب متعين عليهم، وليس على الفلسطيني الذي هو مشغول بأرضه.
نعم، لديه ما يشغله.
أقصد أن من لديه واجب متعين عليه أن يركز عليه. لا أقصد أنا كشخص، فأنا وأنت ككتّاب مسؤوليتنا أن نتكلم عن كل قضايا الأمة، لكن من هو محشور في ثغر معين، وفي جبهة معينة، واجبه المتعين يقتضي أن يهتم بهذه الجبهة ويسكت عن غيرها. لا يمكن أن يأخذ السلاح من جهة، ثم يذهب إلى الأمم المتحدة ليشتمها لأنها تضطهد المسلمين في آسيا الوسطى. هذا ليس منطقيًا.
أليست هذه براغماتية؟
نعم، لكنها براغماتية ومبدئية في نفس الوقت. والسياسة الناجحة، يا أستاذ محمد، لا بد أن تكون مبدئية وبراغماتية معًا.
كيف يجتمعان؟
هذه هي المساحة الرمادية في السياسة، حيث نحاول الجمع بين المبادئ والمصالح في مساحة واحدة، ولن تستطيع فعل ذلك إلا بتقديم بعض المبادئ على بعض، وتقديم بعض المصالح على غيرها.
مثل ماذا؟
مثلًا، لو كنت جزائريًا، وتيتو يمنحني السلاح، لكنني أعرف في الوقت نفسه أنه يضطهد المسلمين في البوسنة، لأن البوسنة كانت جزءًا من يوغوسلافيا. هل الحكمة السياسية أن أشكره أم لا؟ نعم، الحكمة السياسية تقتضي أن أشكره.
هل من الحكمة السياسية أن تخرج في الإعلام وتعلن موقفًا معينًا قد يُقيّد حرية المسلمين في البوسنة؟
لا، لأن مثل هذا التصريح لن يخدم المسلمين في البوسنة، بل قد يضر بقضيتهم. هنا تبرز معادلة المبدئية مقابل البراغماتية. نعم، أنا مع المسلمين في قلبي، وأشعر بألمهم ومعاناتهم، لكن عندما أكون في ساحة القتال، كمناضل جزائري يقاتل الفرنسيين، فإن المصلحة تقتضي أن أشكر من يمدني بالسلاح حتى لو كان تيتو، رغم أنه ليس داعمًا للقضايا الإسلامية عمومًا. لا يعني ذلك تبريره فيما يفعله ضد المسلمين، ولكن الاعتراف بما يقدمه من دعم في معركة محددة.
إذن، أنت ترى أن هناك فصلاً بين الملفات؟
بالضبط. التعامل مع الأمور بشكل نسبي هو ما يساعدنا على اتخاذ القرارات الصحيحة. يمكن للمرء أن يعارض نظامًا ما، لكنه لا يمنع نفسه من الإشادة بموقف إيجابي يتخذه ذلك النظام. على سبيل المثال، قد يعارض أحدهم النظام المصري، ولكن في الوقت ذاته، يمكنه أن يشيد به إذا رفض التهجير في غزة. هذا لا يعد تبريرًا لسلوك النظام في قضايا أخرى، مثل القمع السياسي أو الاعتقالات.
لكن البعض قد يرى في ذلك تناقضًا!
المشكلة تكمن في التعميم، والحل يكمن في التفصيل. لكل مقام مقال، والمواقف تحتاج إلى تحليل دقيق. إذا قال لي أحدهم: “أنت تمدح إيران”، فسأسأله: “أمدحهم على ماذا؟ على دعمهم لغزة أم على جرائمهم في سوريا؟” نعم، أشيد بدعمهم لغزة، لكني في الوقت ذاته أدين ما يفعلونه في سوريا.
هل وصل موقفك هذا للإيرانيين؟
بالتأكيد. في كل عام تقريبًا، تصلني دعوات من إيران، ولكني أرفضها دائمًا. لم أقبل أي دعوة لزيارة إيران أو الظهور في وسائل إعلامها، لأنهم متورطون في قتل المسلمين في سوريا. أخبرتهم بصراحة أنني أقدر دعمهم للفلسطينيين، لكن طالما أنهم مستمرون في ارتكاب المجازر، فلا يمكنني التعامل معهم.
وماذا عن دول أخرى مثل الصين؟
الأمر نفسه ينطبق على أي دولة. إذا ارتكبت الصين جرائم مماثلة، فلن أزورها ولن أتعامل معها. الموقف المبدئي لا يعني رفض كل شيء أو قبوله بالمطلق، بل يتطلب تمييزًا دقيقًا بين المواقف.
إذن، ترى أنه يمكن للمرء أن يشكر دولة في جانب معين، دون أن يبرر لها أفعالها الأخرى؟
بالتأكيد. إذا كان من حق السوري أن يشكر الولايات المتحدة عندما دعمت الثورة السورية بالسلاح، فمن حق الفلسطيني أن يشكر إيران لدعمها غزة. ولكن، لا ينبغي للفلسطيني أن يبرر لإيران ما تفعله في سوريا، ولا يجب للسوري أن يبرر للأمريكيين ظلمهم للفلسطينيين. هذا هو جوهر السياسة الحكيمة.
ما هي الأسس الثلاثة التي تعتمد عليها في رؤيتك هذه؟
أولًا، الحاسة الاستراتيجية، أي أن يضع الإنسان جهده في موضعه الصحيح. ثانيًا، الذكاء السياقي، أي فهم السياق الإقليمي والدولي. ثالثًا، التركيز على الواجب المتعيّن، أي أن يؤدي كل فرد دوره دون أن يساعد الظالم على ظلمه.
هل ترى أن هناك أخطاء استراتيجية في توقيت بعض الأحداث؟
نعم. على سبيل المثال، أرى أن عملية “طوفان الأقصى” لم تأتِ في اللحظة الاستراتيجية المناسبة. لو وقعت عام 2013 مع زخم الثورات العربية، لكان الوضع مختلفًا، حيث كانت هناك بيئة إقليمية أكثر دعمًا. لكن مع ذلك، لا ألوم من اتخذوا القرار، فهم يمتلكون معطيات قد لا تكون متاحة لي.
في الختام، كيف يمكن للمناضلين والسياسيين أن يطبقوا هذه المبادئ؟
هذه المبادئ الثلاثة بسيطة في ظاهرها، لكنها تحتاج إلى تدريب عملي. لا يكفي أن يقرأها الإنسان، بل يجب أن يمارسها حتى يتمكن من تطبيقها بفعالية. كما هو الحال مع التمارين الرياضية، قد يعرف الشخص التمرين نظريًا، لكنه يفشل في أدائه ما لم يتمرن عليه مرارًا.
دكتور محمد، استمتعت بهذا الحوار الفكري العميق، وأعتقد أن الجمهور استفاد منه كثيرًا، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع بعض النقاط.
وأنا كذلك، أشكركم على هذا الحوار الهادف، وأتمنى أن يكون مفيدًا لمناضلي الحرية في العالم العربي. بارك الله فيكم.
انزله من قناة الاعلامي محمد ناصر كتابة وصححه د. الحسن اشباني، مدير البحث سابقا بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب و صحفي مهني علمي
مقالات ذات الصلة :
الصحفي يونس مسكين يكتب : موازين غزة