القائد الملهم وإشكالية الزعامة في نهضة الأمم
قام بتنزيل المحاضرة (موازين مع وضاح خنفر | الموسم الثاني | الحلقة 7) وصياغتها بلغة عربية فصيحة مع تعديل طفيف في العنوان الدكتور الحسن اشباني، مدير الموقع

من أبرز التحولات التي تصيب القادة بعد صعودهم إلى السلطة، حالة من النرجسية المفرطة، تنبع من شعور متنامٍ بالاستحقاق: “أنا من قاد الأمة إلى النصر، إذاً يجب أن يسمع لي الجميع، ويُطاع أمري دون مساءلة”. هذه النرجسية تتضخم، وتتحول من ثقة بالنفس إلى مرض يعزل القائد عن محيطه.
مقدمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حديثنا اليوم يدور حول قضية غاية في الأهمية، ألا وهي: القائد ودور القيادة في نهضة الأمم. لقد ترسّخت في وعينا الجمعي فكرة أن الشعوب بحاجة دائمة إلى “قائد مُلهم” و”زعيم مُخلّص”، يحمل لواء النهوض، ويقود الأمة نحو التقدم، والازدهار، واستعادة أمجاد الماضي.
لكن الحقيقة أن هذه الفكرة – وإن بدت إيجابية في ظاهرها – قد تتحول في كثير من الأحيان إلى دعوة إلى الكسل والاتكالية، حيث تُعلّق آمال الشعوب على شخص واحد، فتغيب عنها روح المبادرة والعمل الجماعي. ومن هنا، سنناقش اليوم إشكالية “القائد المُنقذ” أو “القائد المُخلّص”، من خلال قصة واقعية وتجربة شخصية.

قصة موغابي: من التحرير إلى الأزمة
في إحدى رحلاتي المهنية حين كنت أعمل صحفياً في إفريقيا، زرت زيمبابوي، والتقيت بالرئيس الراحل روبرت موغابي. كان يُنظر إلى هذا الرجل، في وجدان شعبه وذاكرته الجمعية، باعتباره بطلاً قومياً، ومحرراً قاد حركة النضال ضد الاستعمار البريطاني، ونجح في تحويل “روديسيا الجنوبية” إلى جمهورية زيمبابوي سنة 1980.
حين التقيته في عام 2000، كانت زيارتي تلك لتغطية ما عُرف حينها بـ”أحداث المزارع”، ضمن تحقيق صحفي أجرته قناة الجزيرة. وقد وجدت نفسي آنذاك متعاطفًا مع قضيته، لما رأيته فيه من صدق في العداء للاستعمار والهيمنة الإمبريالية. كان موغابي يدعو بوضوح إلى تحرير الأرض من هيمنة المزارعين البيض الذين ظلوا يسيطرون على الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية حتى بعد الاستقلال.


عند نيل البلاد لاستقلالها سنة 1980، تم الاتفاق على إبقاء الوضع القائم بشأن ملكية الأراضي، مع وعود بالتفاوض لاحقًا. وفعلاً، بدأ موغابي مفاوضات طويلة لانتزاع ملكية الأرض لصالح السكان الأصليين، وخلال العقد الأول من حكمه، أولى اهتمامًا بالغًا بالتعليم والاقتصاد. وازدهرت زيمبابوي، وظهرت طبقة متعلمة، وحققت البلاد تقدماً ملموسًا.
غير أن مشكلة ملكية الأرض بقيت قائمة، حيث ظل نحو 4500 مزارع أبيض يملكون أكثر من نصف الأراضي الزراعية. ومع تعثر التفاوض، بدأت تظهر مؤشرات التوتر والاضطراب السياسي، وتحول المشهد تدريجياً إلى حالة من القلق وعدم الاستقرار.
وفي عام 2000، اتخذ موغابي قرارًا مصيريًا تمثل في الاستيلاء القسري على المزارع البيضاء، ما أدى إلى اندلاع أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة. تم على اثرها طرد المزارعين البيض من أراضيهم، بل وأحرقت بيوتهم أحيانًا، وقُتل عدد منهم في ظروف غامضة. وتم تسليم المزارع إلى فلاحين أفارقة بلا خبرة سابقة.

زار فريقنا بعض تلك المزارع، ولاحظنا أن من استلموها كانوا في حالة من الضياع والتخبط، لا يعلمون كيف يديرونها. فقد كانت المزارع الحديثة تلك موجهة للتصدير، خصوصاً زراعة التبغ، وكانت تدار بشبكات متكاملة لها خبرة عالمية في التوزيع والتجارة. وحين غابت الخبرة، انهار الإنتاج، وتعطلت قنوات التصدير.
بدأت البلاد تدخل في حالة من الركود، تبعها كساد اقتصادي عميق، حتى بلغ التضخم في عام 2008 مستويات كارثية، وصلت إلى 80 مليار بالمائة شهرياً، وهي من أعلى معدلات التضخم في التاريخ. وطُبعت أوراق نقدية وصلت إلى 100 تريليون دولار زيمبابوي، لم تكن تكفي لشراء رغيف خبز.

في النهاية، انهارت العملة الوطنية تمامًا، واضطرت البلاد إلى التعامل بعملات أجنبية مثل الراند الجنوب إفريقي والدولار الأمريكي. وفقدت الدولة سيادتها النقدية، وغرقت في أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة.
من الزعامة إلى الاستبداد: تحولات النفس القيادية
أمام اشتداد المعارضة، ومع تصاعد التململ الشعبي، دخل موغابي مرحلة جديدة من الحكم، مرحلة يختلط فيها الإحساس بالاستحقاق مع نزعة القمع والبطش. ففي كثير من الأحيان، يتوهم القائد – بعد أن يحرر بلده ويقود شعبه – أنه صاحب فضل لا يُنكر، فيتحول من رمز للحرية إلى حاكم يستكثر على الناس مجرد الاعتراض.


شعر موغابي، كما شعر غيره من الزعماء، أن الشعب لم يعد يستحق هذه “القيادة الرشيدة”، وبدأت دوائر العنف السياسي تتسع، وظهرت ملامح التشظي والتمزق داخل البلاد. ظلت هذه الحالة تتفاقم حتى عام 2017، حيث أُزيح موغابي عن السلطة بانقلاب عسكري، وتوفي لاحقًا في سنغافورة بعد سنوات قليلة من عزله.
قصة موغابي، في جوهرها، ليست استثناءً في سجل التاريخ السياسي. إنها مثال حي على إشكالية القائد المُخلّص، الذي ما إن يتحول من محرّر إلى حاكم مطلق، حتى تبدأ في نفسه تحولات عميقة، نفسية وسلوكية، تجعل من مشروعه التحرري مشروعًا مهزوزًا، ومن سمعته البطولية ذكرى موضع جدل.
النرجسية والعزلة: حين يتحول القائد إلى مركز الوجود
من أبرز التحولات التي تصيب القادة بعد صعودهم إلى السلطة، حالة من النرجسية المفرطة، تنبع من شعور متنامٍ بالاستحقاق: “أنا من قاد الأمة إلى النصر، إذاً يجب أن يسمع لي الجميع، ويُطاع أمري دون مساءلة”. هذه النرجسية تتضخم، وتتحول من ثقة بالنفس إلى مرض يعزل القائد عن محيطه.
في هذه المرحلة، لا يعود الصوت الناقد مسموعًا، بل يُقصى ويُتهم بسوء النية. ويُفتح المجال لمن يُحسنون المديح، ويُجيدون التزلف، ويختفي صوت النصح الصادق. تتسع الهوة بين القائد وشعبه، ويحيط به سدٌ من المنتفعين، يمنع وصول الحقيقة إليه.

وهكذا يدخل القائد في دائرة العزلة. يشعر بالوحدة، حتى وإن كان محاطًا بالمصفقين. فالمخلصون يبتعدون لأنهم لا يجدون مكانًا لهم في حضرة التمجيد الكاذب، والنصيحة أصبحت تُعدُّ تهديدًا. والعزلة تُفضي إلى أوهام القوة، ثم إلى قرارات مفصولة عن الواقع.
وهنا تبدأ مرحلة الانفصال عن المجتمع، وعن الواقع. يتخيل القائد أنه قادر على فعل أي شيء، لكنه في الحقيقة عاجز، محاط بأوهام وأضغاث قرارات. وكلما طالت العزلة، تفاقمت الانعكاسات النفسية، وقد تنقلب النرجسية إلى نوع من جنون العظمة، أو الإحساس برسالة فوق بشرية.
غواية الغيب: حين يُفتَتَن القائد بالمجهول
في خضم هذا الانفصال عن الواقع، وفي غياب اليقين، تبرز لدى القائد المعزول رغبة عميقة في استعادة السيطرة، ليس عبر الوقائع أو البيانات أو النصح العقلاني، بل عبر الغيب. فحين تتعطل أدوات التحليل السياسي، وتتآكل الثقة بالمحيط، يجد بعض القادة ضالتهم في الرؤى، والمنامات، والحدس الغامض، بل وقد يصل الأمر إلى استشارة العرافين والمنجمين.
لم يعد هذا ضربًا من الخيال، بل هو مسار تكرر كثيرًا في التاريخ. إذ يلجأ القائد، في لحظة الحيرة والاضطراب، إلى أي منفذ يمنحه طمأنينة داخلية أو يمدّه بيقين مفقود. والسياسة – بما تحمله من مناطق رمادية ووقائع متغيرة – تشجّع هذا الميل إلى الغيب، لأن اليقين فيها قليل، والاحتمالات كثيرة.
وقد لا يكتفي بعض الزعماء بسماع الرؤى، بل يبدأون في اتخاذ قرارات مصيرية بناءً عليها. وربما يصبح الحلم دليلًا سياسيًا، أو يصبح المنجم مستشارًا استراتيجيًا. وهنا تتبدّى خطورة الأمر: أن تُدار شؤون دولة، ومصائر شعوب، بناء على إشارات رمزية، وتأويلات غيبية، لا تخضع للمنطق أو العلم أو الحكمة.
إن غواية الغيب ليست مجرد لحظة ضعف، بل قد تتحول إلى نهج دائم. فتترسخ في ذهن القائد فكرة أنه مختار من العناية الإلهية، وأنه ظلّ الله في الأرض، وأن كل من يخالفه، إنما يعصي الإرادة الإلهية. وهنا تنتقل القيادة من المجال السياسي إلى حقل التقديس، ومن النقد إلى التكفير، ومن الحوار إلى الطاعة العمياء.

وقد عرف التاريخ نماذج كثيرة لهذا الانزلاق. يكفي أن نتأمل قصة راسبوتين (غريغوري يافيموفيتش راسبوتين (بالروسية Григо́рий Ефи́мович Распу́тин)( 22 يناير 1869-16 ديسمبر 1916) في روسيا القيصرية، أو اعتماد نابليون على المنجمين في حملته على روسيا، أو حتى بعض رؤساء العصر الحديث الذين جعلوا قراراتهم رهن توقعات فلكية أو رؤى دينية شخصية. إن هذه الحالات تُثبت أن غواية الغيب ليست قاصرة على عصور التخلف، بل هي فتنة دائمة حين يغيب المنطق، ويغيب الحوار، ويغيب التوازن.
إن القائد العظيم ليس من ينجز وحده، بل من يصنع فريقًا، ويبني مؤسسات، ويُدرّب من يخلفه. لأن المشروع الحقيقي لا ينبغي أن يموت بموت صاحبه، بل يجب أن يتحوّل إلى بنية حيّة، تنمو وتتطور وتُسهم في بناء الأمة.… كتب مانديلا اسمه في سجل الخالدين، ليس فقط كمحرر، بل كقائد حكيم، أدرك أن المجد لا يُصنع بالبقاء، بل بحُسن الرحيل.
مشروع بلا مؤسسة: المأساة حين ترتبط الدولة بشخص واحد
من أخطر ما يمكن أن تواجهه أي أمة، هو أن تختزل مشروعها الحضاري في شخص واحد، ولو كان هذا الشخص نزيهًا ومُلهمًا. فحين تغيب المؤسسة، وتغيب الرؤية الجماعية، ويتحول القائد إلى مركز الكون، يصبح مصير الدولة معلقًا بعافيته، أو مزاجه، أو بقائه في السلطة.
لقد عرف التاريخ نماذج لزعماء عظام رفعوا أوطانهم إلى القمة، لكنهم لم يُعِدّوا خلفاء، ولم يؤسسوا بنى دائمة. وما إن غابوا، حتى بدأ الانهيار. فالدولة، حين تُبنى حول الزعيم فقط، تكون شديدة الهشاشة. تنهار بمجرد غيابه، لأن كل الخيوط كانت بيده، وكل القرارات كانت تُصاغ من فمه.

نجد هذا النمط في تجربة الإسكندر المقدوني، الذي شيّد واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ، لكنها ما لبثت أن انهارت فور موته، لأنه لم يُنشئ نظامًا مؤسسيًا، بل كانت سلطته شخصية وكارزمية. وكذا الأمر في الدولة العثمانية بعد سليمان القانوني (السلطان العثماني العاشر سليمان القانوني ولد 1495 وتوفي 1566)، حين خَلَفَه ابن ضعيف لم يكن مؤهلًا لحمل الراية.
إن القائد العظيم ليس من ينجز وحده، بل من يصنع فريقًا، ويبني مؤسسات، ويُدرّب من يخلفه. لأن المشروع الحقيقي لا ينبغي أن يموت بموت صاحبه، بل يجب أن يتحوّل إلى بنية حيّة، تنمو وتتطور وتُسهم في بناء الأمة.
مانديلا وموغابي: متى يجب أن ينسحب القائد؟

قد يتشابه الزعماء في بداياتهم، لكن النهاية تظل مرتبطة بالوعي، والبصيرة، والقدرة على الانسحاب في الوقت المناسب. المثال الأوضح على ذلك هو نيلسون مانديلا، الذي قاد جنوب إفريقيا نحو التحرر من نظام الفصل العنصري، وكان أول رئيس أسود للبلاد. لكنه، على خلاف كثير من القادة، رفض أن يُعاد انتخابه لولاية ثانية، رغم شعبيته الجارفة. اختار أن يغادر، وهو في ذروة الاحترام، تاركًا مكانه لمن بعده. بهذا القرار، كتب مانديلا اسمه في سجل الخالدين، ليس فقط كمحرر، بل كقائد حكيم، أدرك أن المجد لا يُصنع بالبقاء، بل بحُسن الرحيل.
لو أن مانديلا أطال البقاء، ربما كان سيتحول مع الزمن إلى صورة شبيهة بموغابي، الذي بدأ محررًا، وانتهى معزولًا، مثقلًا بالأخطاء. الفارق بينهما أن الأول أدرك حدود الزعامة، فانسحب بكرامة، والثاني توهّم أنه الوطن، فكانت النتيجة أن الوطن عانى في حضرته، ثم في غيابه.
وهكذا، فإن القيادة ليست فقط كيف تبدأ، بل كيف تنتهي. أن يعرف القائد متى يغادر، وأن يترك خلفه مؤسسات، لا فراغًا، ورجال دولة، لا جوقة من المصفقين.
خاتمة: القائد الجسر لا السد
إذا كانت الشعوب بحاجة إلى قادة، فإنها بحاجة أكثر إلى مؤسسات. فالقائد الناجح ليس من يسدُّ آفاق الأمة، ويحتكر مصيرها، بل من يكون جسرًا تعبر عليه الأمة إلى مستقبلها. إن القائد الملهم هو من يستنهض في الناس قواهم، لا من يُغنيهم عن السعي والعمل. هو من يوقظ الطاقات الكامنة، لا من يجعل من نفسه بديلًا عن الأمة.
ومن أعظم الأخطاء الفكرية التي وقعت فيها أمتنا، هو انتظار “المنقذ المعجزة”، الذي سيأتي فيحول الأرض عدلًا بعدما مُلئت جورًا. هذا الانتظار لا يُنتج نهضة، بل يُكرّس الخمول. فالتاريخ لا يصنعه الأشخاص وحدهم، بل يصنعه السياق، وتصنعه السنن، وتصنعه الإرادة الجماعية.
الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المؤيد بالوحي، ظل يردد: “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي”. لم يرد أن يُقدّس، ولم يسمح أن يُرفع فوق طبيعته البشرية، لأن عظمة النموذج تكمن في كونه بشرًا، يُقتدى به، ويُسار على خطاه. فلو قيل إنه فوق البشر، لما أمكننا أن نتأسى به، ولا أن نحتذي خطاه.
إن أزمة القيادة في عالمنا العربي والإسلامي لا تكمن فقط في نقص الكفاءة، بل في غياب ثقافة تداول السلطة، وفهم علم نفس القيادة، والتعامل مع الزعيم كفرد لا كرمز مطلق. حين نُحيط القائد بجوقة المصفقين، ونمنع النُصح، ونُقدّس الفرد، فإننا لا نخدمه، بل نُسهم في سقوطه.
ولهذا، فإن ضبط مدة الحكم، كما فعل الأمريكيون حين حددوا الرئاسة بثماني سنوات، ليس مجرد إجراء سياسي، بل نتيجة لبحوث في علم النفس السياسي، حول حدود طاقة الإنسان على تحمّل السلطة. فالسلطة، حين تطول، تُفتت النفس، وتُفسد التوازن، وتفتح أبواب الغرور والنرجسية.
ومن هنا، يكون القائد الراشد هو من يُدرك أن إنجازه الحقيقي لا يُقاس بطول المدة، بل بعمق الأثر، وأن الفكرة الجميلة لا يجب أن تموت بموت صاحبها، بل تتحول إلى مشروع، ومؤسسة، وأمة تنهض.
وهكذا، لا تكون القيادة نهايتها التمجيد، بل تكون ذروتها حين يُغادر صاحبها، وقد أسّس ما يبقى، وربّى من يحمل المشعل من بعده.
شكراً جزيلاً لكم.
وضاح خنفر




