الدولة الاجتماعية في المغرب بين رغبة التنزيل وإكراهات الواقع -الجزء الاول-


ذ. محمـد ابركي
من أولى مقومات الدولة الاجتماعية التوفر على نظام ديمقراطي، وتعاقد واقعي مع المجتمع، وكذا نظام اجتماعي يضمن للمواطن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
1- مقدمة

لكي نتحدث عن الدولة الاجتماعية يجب أن تتوفر مجموعة من المقومات : أولها التوفر على نظام ديمقراطي ، وتعاقد واقعي مع المجتمع ، وكذا نظام اجتماعي يضمن للمواطن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. والمؤكد أن الدولة الاجتماعية أصبحت ضرورة حتمية ، فرضتها الأزمات المتتالية التي شهدها العالم ، ابتدأت بموجة الليبرالية الجديدة و التي
انبنت على قرارات متسرعة وخطيرة، بسبب الإملاءات ، التي أدت إلى اجتياح ظاهرة الخوصصة، وأفضت إلى ما يمكن أن نسميه ” مافيا عالمية ” كانت السبب الرئيسي في أزمة 2008، الشيء الذي جعل الجميع يقر بان” النيوليبرالية ” ليست هي الحل، بل هي أم المشاكل . مما يؤكد أن المعيار الذي اعتمده البنك الدولي ، و صندوق النقد الدولي لم يكن صائبا . والمغرب نفسه لم ينج من هذه الموجة ، والتي دفعت به إلى ما سمي بالمغادرة الطوعية ،هذه الأخيرة كانت بمثابة نزيف أدى إلى شلل في مجموعة من القطاعات . ومما زاد الطين بلة هو جائحة ( كوفيد 19 ) والتي أبانت للجميع وبشكل واضح أنه لا يمكن الاعتماد على الخوصصة وتجاوز الدولة . دون أن ننسى كذلك الحرب الأوكرانية وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي ، مما أدى إلى ارتفاع قياسي للأسعار في الاسواق العالمية والمحلية ، وانعكس سلبا على القدرات الشرائية للمواطن في معظم الدول . كما زاد الاحتباس الحراري من انعكاساته المناخية والسلبية على أزمة الماء والقطاع الفلاحي .
كل هذه الأمور جعلت الحاجة ماسة إلى تبني الدولة الاجتماعية.
ومن هنا أتساءل عن مفهوم الدولة الاجتماعية؟ كيف ظهرت ؟ وبالتالي هل يمكن الحديث عن دولة اجتماعية بالمغرب ، أو بمعنى آخر هل يمكن القول أن المغرب في طريقه نحو إرساء الدولة الاجتماعية ؟

2- مفهوم الدولة الاجتماعية
إن الدولة الاجتماعية هي الدولة التي عليها مسؤولية حماية المواطنين والمواطنات من إمكانية الوقوع ضحية اقتصاد السوق الرأسمالي ، وعليها واجب تقديم المساعدات والعون للفئات الضعيفة في المجتمع ، كما أنها تضمن التوزيع العادل للثروات، من خلال الموارد والخدمات ، خصوصا في مجال التقاعد والشيخوخة والتأمين والعجز وغيرها من المخاطر التي تهدد الإنسان . فمفهوم الدولة الاجتماعية يرتبط بمجموعة من المتطلبات والتي بغيابها تصبح الدولة الاجتماعية مجرد شعار ليس إلا. وقد برز مفهوم الدولة الاجتماعية خلال القرن التاسع عشر، في ألمانيا على يد موحد الدولة الألمانية ” بسمارك ” وقد اقتصر في البداية على الحماية الاجتماعية ، ليشمل فيما بعد باقي المجالات الأخرى، والتي تعتبر الركائز الأساسية للدولة الاجتماعية .

المفارقة اللافتة أنه رغم تشخيص اختلالات المسألة الاجتماعية إلا أن الإرادة السياسية لم تكن حاضرة لتفعيل كل ما يتم التنظير له ، ولم تنفع معه التقارير المشخصة لمصادر أزمة المسألة الاجتماعية ، وبقيت حبرا على ورق، إلا أن جائحة ” كوفيد 19 ” كانت بمثابة منبه ، أيقظ العالم من سباته ، وجعل الدول تفكر في الاهتمام بالدولة الاجتماعية.
وما يجب الاشارة إليه ، هو أن الوعي بالاختلالات، وجسامة حجمها لم تكن وليدة اليوم، ولا مردها إلى جائحة ” كوفيد 19 ” أو حرب اوكرانيا فقط ، بل إن ذلك حصل مبكرا، ففي منتصف عقد التسعينات نبه الراحل الملك الحسن الثاني إلى قرب تعرض المغرب لسكتة قلبية مستندا على التقرير الشهير الذي أعده البنك الدولي عام 1995 م، والذي كان سببا في إدخال مجموعة من الإصلاحات الهيكلية على سياسات الدولة ومؤسساتها ، لاسيما في المجال الاجتماعي والحكامة الإدارية ، وتوالت بعد ذلك الأصوات المنادية بالاهتمام بالمسالة الاجتماعية والشروط العامة المرتبطة بها ، إلى أن جاء العهد الجديد على يد الملك محمد السادس والذي تميز بصدور وثيقة ” تقرير الخمسينية ” (2005) ، الذي أبانت خلاصاته المركزية عن فشل خطط التنمية التي اعتمدها المغرب منذ الإعلان عن استقلاله سنة 1955، وحتى مستهل الألفية الجديدة (2005) . وقد أعقبه تقرير آخر مكمل له ، يتعلق الأمر بالنموذج التنموي المطبق ، ووضع أسس بناء نموذج جديد. حظيت المسالة الاجتماعية بمكانة مركزية في بنائه، لذلك لا تبدو المسألة الاجتماعية غائبة أو غير مطروحة في تجربة مرور أكثر من ستة عقود على استعادة المغرب لاستقلاله الوطني . لكن المفارقة اللافتة أنه رغم تشخيص اختلالات المسألة الاجتماعية إلا أن الإرادة السياسية لم تكن حاضرة لتفعيل كل ما يتم التنظير له ، ولم تنفع معه التقارير المشخصة لمصادر أزمة المسألة الاجتماعية ، وبقيت حبرا على ورق، إلا أن جائحة ” كوفيد 19 ” كانت بمثابة منبه ، أيقظ العالم من سباته ، وجعل الدول تفكر في الاهتمام بالدولة الاجتماعية.

3- هل المغرب في طريقه نحو إرساء دولة اجتماعية ؟
وهذا ما سيدفعني إلى التساؤل التالي : هل المغرب في طريقه نحو إرساء دولة اجتماعية ؟ وما هي الإكراهات التي تعيق عملية تحقيق الدولة الاجتماعية المنشودة ؟
فالمؤشر ذو المعايير المبهمة فاجأ الجميع . لتجد فئة عريضة ممن يعانون الهشاشة والفقر محرومين من هذه المساعدة الهزيلة ، والتي رغم قلتها فهم في حاجة ماسة إليها ((500 درهم)
يمكن القول أن ثمة سيرا حثيثا نحو وضع بعض أسس “الدولة الاجتماعية “، رغم أن الدولة الاجتماعية هي عبارة عن منظومة متكاملة لا يمكن تجزيئها. وقد حددها البرنامج الحكومي كالتالي :
- – تعميم الحماية الاجتماعية لجميع المواطنين .
- – تعميم التغطية الصحية .
- – إحداث الدخل الاجتماعي لتماسك وكرامة الأسرة المغربية.
- – رعاية صحية جيدة
- – تنمية الرأسمال البشري عبر مدرسة تكافؤ الفرص .

فهل فعلا التزمت الحكومة بما وعدت به ، وهذا ما سأتطرق اليه بتفصيل ، فبالنسبة للدعامة الأولى : فإن مشروع الحماية الاجتماعية كما حدده صاحب الجلالة والمتمثل في تعميم التغطية الصحية الاجبارية لعموم المواطنين، شرع في تنفيذه فعليا سنة 2021 ،ذلك أن الذين كانوا يؤدون ضريبة جزافية ،تم تعويضها ب “المساهمة المالية الموحدة” رغم ما شاب هذه العملية من مشاكل (سبق أن تحدثت عنها في عدد سابق). تلتها الخطوة الثانية في سنة 2022 أي الشروع في تطبيق التغطية الاجتماعية لأصحاب الرميد ، وهو ما سمي بالتغطية الاجتماعية التضامنية المجانية. وكذا المرحلة الثالثة والتي انطلقت في شهر دجنبر 2023، هذه الأخيرة ابتدأت بمطالبة المواطنين والمواطنات الذين يعانون من الهشاشة الإسراع في التسجيل من أجل الحصول على الدعم المباشر ، وبالفعل سارعوا إلى تسجيل أنفسهم طمعا في الحصول على الدعم ، لكن ما وقع كان محبطا لفئة عريضة من المواطنات والمواطنين الذين حرموا من الحصول على المساعدة بسبب انخداعهم من طرف “المؤشر” المعتمد وهو أن لا يتعدى (9.3 )، هذا المؤشر ذو المعايير المبهمة فاجأ الجميع . لتجد فئة عريضة ممن يعانون الهشاشة والفقر محرومين من هذه المساعدة الهزيلة ، والتي رغم قلتها فهم في حاجة ماسة إليها . وهنا لابد من تسجيل ملاحظة أساسية وهو أن تنزيل هذا الدعم طرح بعض الشكوك منذ بدايته، وكان مخيبا للفئات الهشة والفقيرة التي كانت تنتظره بشوق لكي تسد به بعض احتياجاتها الأساسية ، رغم هزالته اي (500 درهم ) .
يتبع
ذ. محمد ابركي، مدير سابق لموسسة تعليمية عمومية
مقالات الكاتب :